الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

كتاب «في الفكر السياسي»؛ (الجزء الأول).. الحلقة الخامسة والعشرون

 (الحرية أولاً) ينشر حصرياً الكتاب المفقود «في الفكر السياسي» بجزئيه، للمفكرين “الأربعة الكبار”، وهذه الحلقة الخامسة والعشرون من الجزء الأول(17). خالد بكداش 1959: أمة في طريق النشوء؛ بقلم الأستاذ “الياس مرقص”

 

(17). خالد بكداش 1959: أمة في طريق النشوء

   هذا «الخلاف» الظاهري الكبير بين تعاليم الحزب الشيوعي الفرنسي وأقوال قيادة الحزب الشيوعي السوري لم يدم طويلاً.

   فقد اتخذت الأمور طوراً جديداً اضطر خالد بكداش لأن يعود هو أيضاً إلى حظيرة المتنكرين «للشمس الساطعة في رابعة النهار» من «صهیونيین وقوميين سوريين».

   أخذت صحف بعض الأحزاب الشيوعية، اعتباراً من عام 1959، تُنّكر أو تًشكّك في وحدة العرب القومية.

   ونشرت جريدة الاخبار البيروتية من جديد «تعریف ستالين للأمة»: «يكفي أن تنعدم علامة واحدة من هذه العلائم حتى تكف الأمة عن كونها أمة».

   ثم أصدر جورج حنا كتاباً بعنوان «تصويب مفهوم القومية العربية». جاء فيه إن العرب أمم مختلفة تربطهم القومية العربية، كما أن القومية السكسونية(؟) تربط بريطانيا والولايات المتحدة، والقومية اللاتينية(؟) تربط الارجنتين والمكسيك والبرازيل أيضاً… وكذلك ليس مستغرباً أن يصرّ اللبنانيون- وبحق- على القول بأمة لبنانية، ويقول العراقيون- وبحق- بأمة عراقية، ويقول المصريون- وبحق- بأمة مصرية الخ» (ص ۱۹)(23).

   ويبني الدكتور “جورج حنا” آراءه عن الأمة العربية على «ركائز»، نظرية تشهد بضحالة فكرية نادرة.

   فهو مثلاً يؤكد أن «الثورة الصناعية في أوربا هي التي خلقت الطبقة البرجوازية»، وأن «الوجود القومي تبلور أول ما تبلور في أوربا مع الثورة الصناعية في أوائل القرن التاسع عشر»، وأن «التطلع إلى المواد الأولية والأسواق خارج القارة الأوربية الصغيرة» لم يبدأ إلا بعد هذا التاريخ! (ص30- 31).

   والحق أن طلاب صف الباكالوريا يعلمون أن الطبقة البرجوازية، في فرنسا وانكلترا مثلاً، تكونت قبل الثورة الصناعية بكثير، بفضل التبادل التجاري  وأعمال النهب، بعد اكتشاف أمريكا، بل وقبل اكتشافها أيضاً. وبلغت هذه الطبقة درجةً من النفوذ الاقتصادي والقوة الاجتماعية والسياسية مكنتها من القيام بثورتين ناجحتين في القرنين السابع والثامن عشر، أي قبل ظهور الآلة البخارية. أفلا يعلم الدكتور صاحب العشرين مؤلفاً أن الثورة الفرنسية الكبرى في عام 1789 هي الثورة البرجوازية الكلاسيكية وأن هذه الثورة تمت قبل الثورة الصناعية بل وقبل دخول الآلة البخارية إلى فرنسا? أفلم يسمع الدكتور بالثورة البرجوازية الإنكليزية التي تمت في القرن السابع عشر أي قبل اختراع الآلة البخارية بقرن أو أكثر?

   نصيحتنا للدكتور أن ينقطع عن الكتابة والتأليف وأن ينصرف قليلاً إلى الدراسة والمطالعة!

إن في هذه الآراء الغريبة عودة إلى ما كتبه خالد بكداش عام ۱۹۳۹ عن المسألة القومية بشكل عام وعن القومية العربية بشكل خاص.

   ولكن خالد بكداش نفسه قد اجتاز طريقاً طويلة. فإلى أين وصل? في تشرين الثاني 1959، نشر خالد بكداش، في المجلة الدولية الجديدة «قضايا السلم والاشتراكية، مقالاً بعنوان «اتجاهان في الحركة الوطنية»، قال فيه:

   «إن فكرة الوحدة العربية تقوم على أساس واقعي. فالعرب ينتمون إلى قومية واحدة، ولهم لغة مشتركة وثقافة مشتركة. كما تتطور لديهم العلائم الأساسية الأخرى المميزة للأمة. غير أن هنالك واقعا تاريخياً هاماً هو أن العرب، منذ أن غابت من الوجود الدولة العربية العظمى… عاشوا خلال مئات السنين في دول وأقطار مختلفة ذات ظروف وأوضاع مختلفة …». (مجلة قضايا السلم والاشتراكية، العدد 11، تشرين الثاني 1959، جريدة الأخبار البيروتية، العدد 276، تاريخ 15تشرين الثاني 1959).

   من ست علائم للأمة اكد توفرها في العرب عام 1955وعام1956، لم يبق إلا علامتان: اللغة والثقافة. أما العلائم الأخرى فهي مازالت قيد «النشوء والتطور»..

   ماذا حلّ بالأرض المشتركة? هل تتطور هي ايضاً!؟ و«الأوضاع الاقتصادية التي يتمم بعضها بعضاً»? لنقل أنها تبدّدت كما تبدّد التاريخ المشترك أيضاً.

   فقد اكتشف خالد بكداش أن الدولة العربية العظمى قد زالت منذ مئات السنين! والله يعلم ماذا سيكتشف بعد حين.

   هكذا لم تعدْ عوامل الوحدة في نظره عوامل موضوعية كاملة. والعوائق لم تعد «عوائق مصطنعة أقيمت وتقام بوجه هذه الوحدة» كما كانت في عام 1956.

   إن التحليل العلمي لم يكن رائد خالد بكداش في يوم من الأيام: لا في عام 1939 ولا في عام 1955. إن ما يكمن وراء الدراسات الطويلة والخطابات الملتهبة في استراحة المصالح الآنية، بل المصالح الأجنبية. وإذا كان توريز وصحبه الفرنسيون يسعون لإنقاذ المظهر والمحافظة على «تسَلسُل الأفكار»، فتلك ليست الحال مع خالد بكداش.

   لقد مضى ثلاثة وعشرون عاماً على كتاب «طريق الاستقلال» والطريق التي قطعه بكداش وأتباعه طريق طويل.

    في سنة 1939: أمم عربية في طور النشوء، وأمة سورية تتكون بمساعدة الانتداب الفرنسي.

   وفي سنة 1955: أمة عربية واحدة وكاملة تتوفّر فيها جميع علائم الأمة.

   وفي سنة 1959: أمة عربية في طور النشوء.

   أولاً: التأكيد أو الفكرة .

   ثانياً : النفي أو نقيض الفكرة.

   ثالثاً: نفي النقي والجمع بين الفكرة ونقيضها.

   و هكذا، مع الاعتذار لهيغل وبليخانوف، يمكن القول:

   ليست حبة الشعير وحدها تخضع في نموّها لقوانين الديالكتيك. إنما يخضع لها تفكير خالد بكداش أيضاً.

    ولكن لندع المزاح جانباً. لسنا هنا أمام تناقضات دیالكتية من الطراز الهيغلي أو الماركسي. فتناقضات بكداش ليست من نوع تلك التي يقول عنها هيغل أنها «تقود إلى الأمام».

   وبعد. لقد سارت الأحزاب الشيوعية- الستالينية بشكل عام على خط معادٍ للعرب. وكانت الايديولوجية الستالينية أداة للتضليل في يد أعداء العرب والقومية العربية.

   والحق أن ستالين لا يتحمل مسؤولية هذه السياسة وهذه الأيديولوجية بقدر ما يتحملها خالد بكداش وأمثاله. فقد وضع ستالين نظرية تحمل بذور الانحراف، أما خالد بكداش فقد أنمى هذه البذور حتى وصل بالانحراف إلى درجة الوقوف في صف أعداء الحركة الوطنية.

   وإذا كانت الستالينية ظاهرة انحطاط في الماركسية، فان البكداشية ظاهرة انحطاط في الستالينية.

………………

الهوامش:

(23) في الوقت نفسه، أصدر الحزب الشيوعي اللبناني كتاباً من وضع نسيب نمر قال فيه صاحبه «بالأمة العربية الخالدة» (محتوى القومية العربية، ص26). فكان هناك توزيعاً في الأدوار. أما كيف يوفِقون بين «الأمم العربية»، وبين «الأمة العربية الخالدة» فهذا بحثٌ آخر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يتبع.. الحلقة السادسة والعشرون بعنوان: (18). خاتمة؛ بقلم الأستاذ “الياس مرقص”

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.