الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

كتاب «في الفكر السياسي»؛ (الجزء الأول).. الحلقة العشرون

 (الحرية أولاً) ينشر حصرياً الكتاب المفقود «في الفكر السياسي» بجزئيه، للمفكرين “الأربعة الكبار”، وهذه الحلقة العشرون من الجزء الأول(12). السياسة الستالينية في الخارج؛ بقلم الأستاذ “الياس مرقص”

 

(12). السياسة الستالينية في الخارج

    ولم يقتصر نهج ستالين الشوفيني على السياسة الداخلية وإنما تعدّاها إلى ميدان العلاقات الدولية.

    ونذكر بهذا الصدد مطالبة الاتحاد السوفياتي بضم ولايتي قارص وأرضهان من تركيا(11) وقد تخلىّ الاتحاد السوفياتي رسمياً عن هذا المطلب بعد وفاة ستالين كما هو معروف.

    وأقام الاتحاد السوفياتي في رومانيا والمجر ومنشوريا شركات مختلطة سوفياتية- رومانية وسوفياتية مجربة وسوفياتية- صينية بغية استثمار بعض المواد الحيوية في هذه البلدان.

في رومانيا مثلاً، كانت الشركات المختلطة السوفياتية- الرومانية تشرف على استخراج البترول وصناعة الأخشاب والمواصلات النهرية والجوية.

   وفي المجر كانت الشركات المختلفة السوفياتية- المجرية تشرف على استثمار مناجم الألومنيوم والبترول وغيرها.

   واعتُبرت هذه الشركات المختلطة في حينها مظهراً من مظاهر التعاون بين الدول الاشتراكية وشكلاً من أشكال العون الاقتصادي السوفياتي النزيه للدول الشقيقة.

ولكن بعد وفاة ستالين، حُلت هذه الشركات وأعلن أنها ليست «شكلاً صحيحاً للتعاون الاقتصادي…».

   كذلك اتخذ ستالين موقفاً مُجحفاً بحق بولونيا . فقد ابتاع الاتحاد السوفياتي الفحم البولوني بأسعار غير طبيعية.. واعترف بذلك المسؤولون السوفييت في سنة 1956. وأعيد الحساب. ودفع الاتحاد السوفياتي لبولونيا تعويضاً كبيراً عن فرق الأسعار…

    أو نقل ستالين حقده على ما سماه «الاشتراكية الوطنية»- هذا الحقد الذي جربه في عامي ۱۹۲۲- ۱۹۳۲ في جيورجيا- إلى صعيد العلاقات مع دول الديمقراطية الشعبية.

    فقد شن الاتحاد السوفياتي اعتباراً من سنة 1948 حملة ضغط وتشهير ضد جمهورية يوغوسلافيا الشعبية وضد قادتها.. وبدأت الحملة بقرار الكومنفورم اكتفى بتوجيه مجموعة من «الانتقادات المبدئية»، ودعا القادة اليوغوسلاف إلى تغيير مواقفهم، كما دعا الشعب اليوغوسلافي إلى تغيير قادته إذا لم يعدلوا عن هذا المواقف. ولم يلبث أن تحول الخلاف «الفكري»، إلى جملة من السُباب والشتائم. فأصبح تيتو ورفاقه بنظر ستالين وبنظر الحركة الشيوعية الستالينية في العالم، «عصابة من القتلة والجواسيس»، جواسيس للاستعمار الأنجلو- أميركي، وجواسيس لهتلر وفرانكو أيضاً.. واستمرت الحملة خمسة أعوام كاملة جُندت خلالها الصحف والإذاعة والأدب والفن والسينما والقضاء. ولم تقف الأمور عند التشهير بل تعدته إلى الضغط السياسي والحصار الاقتصادي والاعتداءات العسكرية على الحدود.

    وفي سنة 1955، ذهب خروشوف وبولغانين إلى بلغراد، وقدم خروشوف اعتذار الاتحاد السوفياتي عن «الإهانات الثقيلة»، التي وجهت إلى يوغوسلافيا ورئيسها.

   وانتقلت الحملة المعادية «للانحراف القومي»، إلى دول الديمقراطية الشعبية في أوربا سنة (1949). فذهب ضحيتها عدد من كبار قادة الحزب والدولة:

   لاسلو رايك، وزير الداخلية في المجر. أعدم في سنة 1949، مع عدد من كبار القادة المدنيين والعسكربين. وكان رايك من أبطال المقاومة الوطنية، وقد وجهت له شتى الاتهامات: التجسس لحساب الشرطة الفاشستية المجرية ولحساب النازيين، ثم التجسس لصالح الاستعمار الأنجلو- أميركي وعملائه اليوغوسلاف.

   و« اعترف» رايك بجميع الاتهامات، وأخذ يروي «جرائمه» بنفسه في محاكمة علنية  لم يشهد لها التاريخ مثيلاً من قبل!!.. ورُدّ  له الاعتبار بعد المؤتمر العشرين..

   ترايتشو کوستوف، وزير الداخلية في بلغاريا. لم يعترف بالجرائم المنسوبة إليه. وصرح في وجه المحكمة: «لم أعمل أبداً لصالح دوائر التجسس الأجنبية».. ومع ذلك فقد أعدم هو ايضاً مع رفاقه في أواخر عام 1949. وبعد وفاته بأيام، نشرت الصحافة البلغارية رسالة قالت إنه كتبها قبل إعدامه وفيها يعترف بما نسب إليه من جرائم !! ورُدّ له الاعتبار في سنة 1956.

   فلاديسلاف غومولكا، رئيس الحزب الشيوعي البولوني. نُحّي من منصبه وجُرد من مسؤولياته بتهمة «الانحراف القومي» اليميني. ثم اكتشف المسؤولون، فوق ذلك، أنه «جاسوس وخائن». ولم يُحكم بالإعدام ولكن بالأشغال الشاقة المؤبدة، مع وزير الدفاع وغيره من اقطاب الحزب والدولة. واعترف بما نسب إليه من جرائم! وفي سنة 1956، بعد المؤتمر العشرين، أطلق سراحه وأعلن أنه لم يكن «جاسوساً». واستمرت الحملة ضد افكاره «الانحرافية» فترة من الزمن… ثم في شهر أكتوبر عاد إلى منصبه كسكرتير أول للحزب، بفضل «حركة أكتوبر السلمية»..

   كانت هذه المحاكات المزوّرة تقوم على توجيه شتى الاتهامات، ما يخطر منها في البال وما لا يخطر على بال. ولكن الذين يقفون في قفص الاتهام كانوا معروفين في أحزابهم ولدى شعوبهم بأنهم يمثلون «الشيوعية الوطنية». (وتهمه الاتصال باليوغوسلاف الموجهة لهم كانت تؤدي إلى تثبيت هذه الفكرة). أما الاتهامات الأخرى: التجسس لحساب النازيين والأميركيين والانكليز (وتهمة التروتسكية، والانحلال الخلقي أحيانا الخ..) فكانت غايتها تحطيم «الانحراف القومي» وإظهاره «كسلاح بيد الاستعمار للقضاء على نظام الديمقراطية الشعبية وضرب المعسكر الاشتراكي» «فالشيوعية الوطنية» هي الشيطان. ومن الضروري أن يكون الشيطان كالح السواد.

   لا داع لإطالة الشرح في هذا الموضوع . فالأضرار التي تكبدتها دول أوروبا الشرقية من جراء هذه السياسة معروفة جيداً. إن حوادث بولونيا والمجر ما زالت ماثلة في الأذهان.

    3 – في آسيا

   من المستحيل أن نعرض في مثل هذا البحث جميع الأخطاء التي ارتكبتها الأحزاب الشيوعية الستالينية في بلدان آسيا، والأضرار التي تكبدتها حركة التحرر الوطني في الشرق بنتيجة هذه الأخطاء:

   لذلك نقتصر على « الفترة الأخيرة من حياة ستالين».

   شن الحزب الشيوعي الهندي حملة شعواء ضد نهرو وحزب المؤتمر. واتهم المؤتمر بأنه حزب عميل للرأسمالية الأنجلو- أميركية، وسمي نهرو (الذي قضى 17عاماً في سجون الاستعمار) « كلب حراسة الاستعمار العالمي»، وزعم أن الهند لم تحصل على استقلالها وأنها ما زالت نصف مستعمرة أنكلو- أميركية. وقاد الحزب الشيوعي الهندي «ثورة» هوجاء في منطقة تلنغانا التابعة لولاية حيدر أباد في جنوبي الهند.

   وكان موقف الاتحاد السوفياتي متفقاً مع موقف الحزب الشيوعي الهندي، فالمجلات السوفياتية تنشر الفكرة القائلة أن الهند لم تنل استقلالاً حقيقياً وتؤكد أن حزب المؤتمر ليس حزب البرجوازية الوطنية بل حزب البرجوازية الموالية الاستعمار الأنجلو- أميركي… وأن غاندي كان مضلّلاً وعدواً للحركة الوطنية وخادماً أميناً للاستعمار. وكذلك نهرو الذي ينادي بالحياد «المزعوم»، بين المعسكرين «خدمة لمعسكر الاستعمار والحرب»…

    ثم اضطر الاتحاد السوفياتي إلى تعديل موقفه كلياً.. وتغيرت قيادة الحزب الشيوعي الهندي.. ونُشرت مؤلفات نهرو في الاتحاد السوفياتي. واعترف الاتحاد السوفياتي مراراً بأن سياسة الهند الحيادية «قدمت أكبر الخدمات للسلم العالمي».

    في بورما، عندما انتزعت هذه البلاد استقلالها في أعقاب الحرب العالمية، أنكر الحزب الشيوعي البورمي على وطنه هذا الاستقلال. واتهم الحزب الاشتراكي البورمي جملة وتفصيلاً بأنه عميل للاستعمار. وبدأ حرباً أهلية استمرت سبع سنوات فألحقت أضراراً جسيمة بحياة البلاد وعرقلت نمو القوى التقدمية والثورية.

   وكان الاتحاد السوفياتي يؤيد الحزب الشيوعي في بورما، ويعاضد مواقفه..

   ثم تراجع عن موقفه. وجاء خروشوف إلى رانغون عام 1955 وقال موجهاً كلامه إلى رئيس بورما: « أيها الرفيق يونو..»

    وكذلك في إندونيسيا، عندما انتزعت هذه البلاد استقلالها، رفض الشيوعيون الإندونيسيون الاعتراف بهذا الاستقلال، واتهموا سوكارنو (الذي قضى ۱۱ سنة في سجون الاستعمار) بأنه عميل «للاستعمار الأميركي» زاعمين أن نضال سوكارنو ضد الهولنديين ليس إلا مظهراً من مظاهر التنافس الاستعماري بين أمريكا وهولندا!

   وسلك الحزب الشيوعي الأندونيسي بقيادة موسو وشريف الدين طريق المغامرات فاستولى على السلطة في مدينة ماديون. وفشلت المحاولة فشلاً ذريعاً، وأسفرت عن مقتل معظم زعماء الحزب. والجدير بالذكر أن هذه السياسة كانت تؤدى موضوعياً إلى تعزيز القوى اليمينية المرتبطة بالغرب والتي يمثلها محمد حتا وسوتان شاریر.

   وتبنّى الاتحاد السوفياتي مواقف الشيوعيين الإندونيسيين وآراءهم.

    ثم عدل عنها، وأشاد بجهاد رئيسها سوكارنو.

   إن هذه السياسة الخاطئة كانت ترتكز على أساس نظري خاطئ. هو رأي ستالين القائل بأن البرجوازية قد انتقلت جملة وتفصيلاً إلى صف الاستعمار وأن الأحزاب الشيوعية هي وحدها قادرة على قيادة الحركة الوطنية وتحقيق الاستقلال. وكثيراً ما كانت الأحزاب الشيوعية تضطر إلى نبذ هذه السياسة لتقع في أحضان البرجوازية(12).

   ان سياسة الأحزاب الشيوعية هي مثال واضح على التقلب بين الحملات المسعورة على البرجوازية والطبقة الوسطى وبين الثناء على هذه الفئات والتعانق معها والسير في ذيلها.

   فالأخطاء والانحرافات اليسارية، كما يقول لينين، هي العقاب المستحق على الأخطاء

والانحرافات اليمينية، وبالعكس.

 والستالينية ليست جموداً وتصلباً فحسب، إنما هي أيضاً انتهازية. بل كثيراً ما يكون الجمود والتصلّب تمويهاً للانتهازية و«تعويضاً» عنها. كما أن الانتهازية (المرونة الكاذبة) تؤدي بدورها وظيفة «التعويض» عن الجمود والتحجّر.

                           العلاقات بين الصين والهند

   ثمة قضية أخرى يتجلى فيها النهج الستاليني، وهي سياسة الصين الشعبية في قضية الحدود الصينية- الهندية.

   منذ ما ينوف على 3 سنوات، والخلاف بين الصين والهند يحتدم. من وقت الى آخر، حول بضعة أميال من منطقة الحدود في جبال هيمالايا. وكلها قامت حكومة الصين بتهديد الهند، ادّى هذا التهديد الى انفلات القوى الشوفينية اليمنية في الهند. في حزب المؤتمر وفي قيادات الجيش، وهذا كله يؤدي الى عرقلة نمو وتجمع القوى الاشتراكية في الهند.

   وان هذه السياسية الصينية- سياسة العظمة والتوسع- قد اصطدمت بمعارضة غالبية الحزب الشيوعي الهندي، كما أنها لم تنل تأييد الاتحاد السوفياتي.

   إن هذه السياسة الصينية هي، على وجه الدقة، عكس السياسة التي نهجها لينين مع الدول المجاورة للاتحاد السوفياتي، والتي كانت تقوم على نبذ العنف، وعند اللزوم، على التضحية ببضعة أميال من الأرض في سبيل تحقيق السلم وافساح المجال لتقدم القوى الثورية في البلدان المجاورة وفي العالم.

  فقد كتب لينين يقول:

   « كيف استطعنا أن نتغلب على قوى الاستعمار العالمي المتضافرة، فيما يتعلق بأستونیا، هذا البلد الذي طالما عاني من عنف روسيا الاقطاعية ؟  – لأننا أقمنا الدليل على أننا قادرون على التخلي في الوقت اللازم عن العنف ، وعلى المضي إلى سياسة سلمية ، كاسبين عطف الحكومات البرجوازية في الدول الصغيرة ، بالرغم من مساندة الاستعمار العالمي …»

   «… إن كل الضغط الذي مارسه رأس المال الدولي قد تغلبنا عليه حيثما أثبتنا اننا نبذنا العنف صادقين مخلصين…

   لقد عقدنا السلم مع استونيا حيث حققنا عدداً من التنازلات-  تنازلات لم تكن تتفق تماماً مع مبدأ حق الأمم في تقرير مصيرها- وأثبتنا عملياً أن مشكلة الحدود هي بالنسبة الينا مشكلة ثانوية، في حين أن مشكلة العلاقات السلمية والمهارة في انتظار تطور شروط المعيشة لدى كل شعب ليست فقط ومبدئياً أهم المشكلات، بل هي ايضاً الشرط الذي سمح لنا بأن نكسب ثقة الأمم التي كانت تناصينا العداء».

   تلك هي السياسة التي نهجها لينين مع بلد- أستونيا- كان يناصب روسيا العداء ولم يكن له ما للهند من نفوذ!

   والحق أن هذه السياسة هي عكس السياسة التي تنهجها الصين في قضية الحدود الهندية.

………………

الهوامش:

(11) كانت المطالبة بالولايتين تجري بادئ الأمر باسم جمهورية أرمينيا السوفييتية. ثم اعلن فیشنسكي، وهو يكرر هذا المطلب من على منبر الأمم المتحدة ، أن قارص وأرضهان من حق جيورجيا (24 تشرين الاول 1947)…

(12) مما يلفت الانتباه أن بعض القيادات الستالينية في بلدان الشرق (في سورية مثلاً) لم تأخذ من المؤتمر العشرين سوى فكرة «الطريق السلمي إلى الاشتراكية» وفكرة «دور البرجوازية الوطنية»، في حين أنها أهملت أو طمست مسألة عبادة الفرد والقيادة الفردية والنقد الذاتي ودراسة تطور البلدان الاشتراكية دراسة جدية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يتبع.. الحلقة الحادية والعشرون بعنوان: (13). العلاقات بين الأمم الاشتراكية؛ بقلم الأستاذ “الياس مرقص”

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.