محمد المنشاوي *
احتفل الرئيس الأمريكي السابق جيمس كارتر بعيد ميلاده الـ/99/ في الأول من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي في منزله. وقبل شهور اختار كارتر، الذي يعاني من مشاكل صحية كثيرة بما فيها سرطان الجلد، التوقف عن تلقي العلاج في المستشفى والانتقال إلى منزله المتواضع، والذي أقام فيه معظم حياته في ولاية جورجيا لتلقي رعاية نهاية الحياة والموت في هدوء في المكان القريب من قلبه.
يعرف العرب كارتر جيداً نظراً لدوره المحوري الذي بدأ عام 1977 وانتهى به للإشراف على محادثات السلام بين مصر وإسرائيل في منتجع كامب ديفيد، والتي انتهت بتوقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية في البيت الأبيض فى 26 آذار/ مارس 1979.
منذ انتهاء حكم كارتر عام 1980، أي قبل ما يزيد على أربعة عقود، لم يتوقف الرئيس السابق عن العمل وبذل الجهد لحل النزاعات الدولية، وأسس مركزاً في مدينة أتلانتا لهذا الغرض، ويُعد كارتر أنجح رئيس أمريكي سابق في التاريخ الأمريكي. كما حاز كارتر على جائزة نوبل للسلام على خلفية «عقود من جهوده الدؤوبة لإيجاد حلول سلمية للنزاعات الدولية» في عام 2002.
كان كارتر رجلاً متديناً ملتزماً بتعاليم المسيحية السمحة، والتي حاول تطبيقها خلال سنوات حكمه، لكنه فشل. وتصور كارتر أنه يمكن أن يكون للفلسطينيين دولة خاصة بهم على أراضيهم كبقية القوميات في العالم، وكحلٍ عادل لصراع الشرق الأوسط، والذي كان يمسه شخصياً بسبب البعد الديني وجزئية الأراضي المقدسة المرتبطة بالصراع في أبعاده اليهودية والمسيحية والإسلامية.
وبعد انتهاء حكمه، سافر كارتر عشرات المرات إلى الأراضي المقدسة، وزار إسرائيل والأراضي الفلسطينية وقابل الكثير من صانعي القرار في كل المناطق المعنية، واطلع بنفسه على الحياة اليومية للإسرائيليين داخل وخارج حدود 1967، والفلسطينيين داخل الضفة الغربية وقطاع غزة.
* * *
وفى عام 2006، فاجأ كارتر العالم بكتاب فجر نقاشات واسعة داخل وخارج الولايات المتحدة بسبب عنوانه ومحتواه. تسبب الكتاب «فلسطين.. سلام.. لا أبارتايد»، وهو الذي بقي لأشهر على قائمة أكثر الكتب مبيعاً، في جدلٍ كبير، وتسبب في شن اللوبي اليهودي بالولايات المتحدة، إضافة للعديد من السياسيين الأمريكيين، هجوماً كبيراً استمر لسنوات على الرئيس كارتر.
ويستشهد كارتر، الرئيس المتدين، في بداية كتابه بنص من الإنجيل، يشير إلى حادثة قتل قابيل لهابيل، وكيف حلت لعنة السماء على قابيل لإقدامه على سفك دماء أخيه.
يُعتبر كتاب كارتر الأول الذي يصدر من شخص ذي مكانة رفيعة في المجتمع الأمريكي، ولا يتردد في استخدام كلمة فلسطين بدلاً من إسرائيل على الغلاف، وأن يستخدم كلمة أبارتايد (الفصل العنصري) لوصف الممارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين.
وتحدث كارتر عن سلوك سلطات الاحتلال الإسرائيلي المستمرة في احتجاز ومنع المساعدات الأجنبية الواردة للفلسطينيين، ويقول إن الاحتلال الإسرائيلي نجح في تصوير الفلسطينيين على أنهم إرهابيون، فأصبحوا يعاملون وفق هذه النظرة.. فهم إرهابيون حتى يثبت أنهم أبرياء وليس العكس. وذكر كارتر أن هناك طرق سير محددة لتنقل الفلسطينيين وهي مراقبة طوال الوقت، بينما يُمنعون من استخدام طرق السير الخاصة باليهود. كما تتعرض جميع متعلقات العرب للتفتيش دون مراعاة لأي حرمات. كذلك يحظر على الفلسطيني حمل السلاح. بينما يتم تشجيع المستوطن الإسرائيلي على حمله.
وركز كتاب كارتر على الجدار الإسرائيلي الفاصل بين مدن الضفة الغربية وبقية أراضي إسرائيل. ويشرح أن جوهر فكرة الجدار هي إدراك إسرائيل أنها وصلت في علاقتها مع الفلسطينيين للمرحلة التي أصبحت معها لا تجد ضرورة للتوصل إلى سلام مع الفلسطينيين. فمع تزايد سيطرة دولة الاحتلال الإسرائيلي جراء الوجود الكثيف لقوات الاحتلال ومع الأمن النسبي الذي يوفره الجدار، انعدمت الرغبة لدى الإسرائيليين في بذل أي جهود للتوصل إلى سلام مع الفلسطينيين.
وخلال خبرته الطويلة، تيقن كارتر أن أبعاد القضية الفلسطينية تتلخص في صعوبة الحسم العسكري لأي من الطرفين، حيث تأكد عجز كل طرف عن كسر إرادة الطرف الآخر. فقد كشفت الأحداث أنه مهما بلغت درجة القوة التي تصل إليها دولة الاحتلال فإنها لن تنجح في كسر إرادة الشعب الفلسطيني. وفي المقابل أيقن العرب أنه من المستحيل القضاء على دولة الاحتلال الإسرائيلي وإزالتها من الوجود.
يؤكد كارتر أن الأمر بيد دولة الاحتلال الإسرائيلي ويجب عليها اتخاذ قرارات أساسية بصدد السلام، والتي لابد من أن تتضمن الحفاظ على حقوق الإنسان الفلسطيني بما في ذلك حق تقرير المصير والمعاملة المتساوية، وعدم جواز ضم الأراضي بالقوة، وضرورة الانسحاب من الأراضي المحتلة خلال الحروب، وذلك وفقاً لقرار مجلس الأمن رقم 242.
* * *
استخدم كارتر كلمة أبارتايد ليصف الجدار الإسرائيلي، وسياسات الفصل بين اليهود والعرب، إلا أنه ميز بين نظام جنوب إفريقيا ونظام الاحتلال الإسرائيلي، فيقول «إن الغرض المحرك للفصل بين الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني يختلف عما كان في حالة جنوب أفريقيا فهو ليس العنصرية، بل الاستيلاء على الأرض».
فتح كارتر على نفسه حرباً شنعاء شنتها عليه جماعات اليهود الأمريكيين، وظهر العديد من المقالات، في كبريات وسائل الإعلام تسب كارتر وتصل لحد وصفه بالمُخرف، أو بأنه كاذب جبان معادٍ للسامية، ومحب للعرب وكاره لليهود. ونشرت مؤسسة مكافحة التشهير ADL إعلانات في الصحف الكبرى مثل «وول ستريت جورنال» و«واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» تهاجم كارتر وكتابه، وتتساءل «ما هي بالضبط مشكلة كارتر مع اليهود؟». إلا أن مكانة كارتر واتساقه الأخلاقي والتزامه الديني وسجله كمدافع صلب عن حقوق الإنسان مكنته من تحدي اللوبي اليهودي والصمود أمامه.
ورد كارتر بثقة على كل هذه الهجمات وقال إنه يهدف إلى «رفع الوعي بين الأمريكيين حول ظروف الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة، وذلك بكشف القمع والاضطهاد الرهيبيّن اللذين يتعرض لهما الشعب الفلسطيني، وسيُعجل لأول مرة بأي نقاش موضوعي حول هذه القضايا».
* * *
يتناقض موقف كارتر كلياً مع موقف الرئيس الحالي جو بايدن، والذي يفتخر بأنه صهيوني على الرغم من كونه كاثوليكياً متديناً. وعلى النقيض من كارتر اختار بايدن أن يقف في الجانب الخاطئ من التاريخ ويدعم بلا حدود دولة احتلال لا تخجل من تطبيق سياسات أبارتايد في القرن الـ21 وسط صمت عالمي وتواطؤ أمريكي وعدم اكتراث عربي غير مسبوق.
* كاتب صحفي متخصص في الشؤون الأمريكية
المصدر: الشروق