الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

«السيوف الحديدية» التي أكلها الصدأ

إبراهيم نوار *

ما يزال صمود إرادة المقاومة ضد القوة الغاشمة يتسيد المشهد في غزة، حيث تواصل إسرائيل حصارها وإطلاق أطنان الصواريخ والقذائف لقتل الفلسطينيين جوعا وحرقا وتحت الأنقاض. الرئيس الأمريكي بايدن أعلن أنه سيزور المنطقة اليوم، بعد أن فشلت «الدبلوماسية المكوكية» التي يديرها وزير الخارجية بلينكن لمنع تحول المواجهة الفلسطينية – الإسرائيلية إلى حرب إقليمية متعددة الجبهات. القادة العرب الذين التقاهم بلينكن أبلغوه رسالة واضحة هي أن الطريق إلى مخرج من المواجهة الدموية التي لا نهاية لها هو الحل السياسي، وأن الخطوة الأولى على هذا الطريق الآن هي فتح ممر إنساني آمن إلى غزة ومنها، وإعادة إمدادات الماء والكهرباء والغذاء والدواء والوقود، وفك الحصار عن غزة، ووقف إطلاق النار والبدء في مفاوضات لإطلاق سراح المحتجزين.

هذه الخطوة الأولى تصطدم بغرور القوة الغاشمة، الذي يسيطر على أكثر الحكومات يمينية في تاريخ إسرائيل، كما قال بايدن قبل عدة أشهر. كما يجب القول أيضا إنها تصطدم بحماقات سياسية شريرة لدى قيادات ومؤسسات في الولايات المتحدة وأوروبا، باتت تميل إلى اعتبار الحرب ضد الفلسطينيين حربا وطنية لبلدانهم، وهو ما يغذي روح الكراهية ضد الفلسطينيين والعرب والمسلمين، التي عبّرت عن نفسها في أقبح صورة بقتل الطفل وديع الفيومي بـ26 طعنة ومحاولة قتل أمه بواسطة إرهابي أمريكي صهيوني متطرف في شيكاغو. ومع زيادة تعقيدات المشهد، تطل ثلاثة أسئلة رئيسية تطرح الكثير من علامات الاستفهام حول مصير المواجهة الدامية بين المقاومة والقوة الغاشمة. السؤال الأول يتعلق باحتمالات فتح ممر إنساني لإنقاذ أهالي غزة من الموت جوعا وحرقا وتحت الأنقاض. السؤال الثاني هو ما إذا كانت الحرب ستظل محصورة داخل قطاع غزة والضفة الغربية، أم إنها ستتحول إلى حرب إقليمية متعددة الجبهات. السؤال الثالث يعود إلى طبيعة الحل النهائي للقضية الفلسطينية، وهل يتغلب منطق الحل السياسي أو يستمر غرور القوة الغاشمة وتنتصر استراتيجية التهجير وتحويل القضية الفلسطينية إلى مشكلة عربية داخلية، يتعين على الدول العربية إيجاد حل لها باستيعاب الفلسطينيين. زيارة الرئيس الأمريكي للمنطقة قد تشعلها عن بكرة أبيها، وقد تفتح الباب للأمل في إنقاذها من جحيم حرب لا يحكمها قانون أو أي معايير إنسانية. إن ما نراه الآن في غزة من تواطؤ تحت ستار «حق إسرائيل المطلق في الدفاع عن نفسها بالطريقة التي تراها»، يمثل مقدمة سيئة لما قد يأتي في الأيام المقبلة.

لقد اختارت القيادة العسكرية الإسرائيلية أن تطلق على ردها على عملية «طوفان الأقصى» اسم «عملية السيوف الحديدية». الجمع في كلمة «السيوف» هنا يقصد به الحرب على أكثر من جبهة، سيف حديدي على غزة، ومثله على الضفة الغربية، وثالث على جنوب لبنان، وإذا احتاج الأمر فسيكون الرابع على سوريا، والخامس على إيران لكن القيادة العسكرية الإسرائيلية ربما لم تدرك حتى الآن أن كل سيوفها قد أكلها الصدأ؛ فماذا تفعل السيوف الصدئة في قوة الإرادة الوطنية التي تهتف للحياة؟ ستفشل السيوف الصدئة وتتهشم، ولا يبقى منها غير الصدأ المنثور على أرض المعركة. ثلاث مرات من قبل حاولت إسرائيل تدمير قطاع غزة بالقوة الغاشمة، وفشلت وتهشمت سيوفها على صخرة المقاومة، وهي الآن تعيش فشلها الرابع.

معضلة الاجتياح الشامل:

الخطة العسكرية الإسرائيلية كانت تسعى إلى بدء الهجوم الشامل على غزة سريعا بعد تمهيد الأرض بإضعاف الدفاعات الفلسطينية عن طريق ضربات جوية مركزة. لكن التقديرات العسكرية، رغم عشوائية الضربات واتساع نطاقها، لا تشير إلى أنها حققت الحد الأدنى، الذي يسمح بالبدء في الاجتياح الشامل لقطاع غزة. هذا من شأنه إطالة أمد عمليات القصف الجوي والمدفعي، الهادفة إلى «تليين» الدفاعات الفلسطينية أو شلها، قبل أن تبدأ إسرائيل هجومها الشامل جوا وبرا وبحرا. وإذا كان هدف تحرير واستعادة الإسرائيليين المدنيين والعسكريين المحتجزين في غزة يحتل أولوية تسبق الهجوم الإسرائيلي، فإنه يضيف سببا ثانيا إلى أسباب التأخير، وربما يكون التكتيك العسكري الإسرائيلي الآن يركز على استخلاص معلومات استخباراتية تساعد على تصميم عملية عسكرية في عمق الأنفاق لتحرير المحتجزين، وإعلان انتصار مبكر. ومن الواضح حتى الآن أن معلومات المخابرات الإسرائيلية غير كاملة ومشوهة. على سبيل المثال أعلنت إسرائيل قبل أيام أن عدد المحتجزين يصل إلى 155 شخصا، ثم قالت بعد ذلك أن العدد يبلغ 199 محتجزا، لكن حماس أعلنت أن عدد المحتجزين يصل إلى 250 شخصا. الرقم الأخير الذي أعلنته حماس يضع الحكومة الإسرائيلية في اختبار حاسم أمام أسر المحتجزين والرأي العام بشأن ضمان سلامتهم، ومن ثم عدم التعجل بدخول عملية عسكرية من المرجح أن تؤدي إلى موت أعداد كبيرة منهم. ومع تأخير عملية الاجتياح الشامل، تولدت متغيرات أخرى، خصوصا مع الرسائل التي استمع إليها وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن في العواصم العربية التي زارها، وأهمها عمان والرياض والقاهرة. ويبدو من متابعة نتائج «الدبلوماسية المكوكية» التي بدأها بلينكن، أن الولايات المتحدة أصبحت على قناعة كبيرة بأن تجنب تحويل حرب إسرائيل- غزة إلى حرب إقليمية يتطلب أولا وقبل كل شيء فتح ممر للمساعدات الإنسانية إلى غزة وإعادة تزويدها بالماء والكهرباء والغذاء والوقود. كما أن أولوية فتح ممر إنساني تلقت قوة دفع كبيرة من جانب الأمم المتحدة، حيث قرر الأمين العام تكليف نائبه للشؤون الإنسانية، الدبلوماسي البريطاني مارتن غريفيث، بالذهاب إلى المنطقة. وفي الوقت نفسه تعالت أصوات المنظمات الدولية العاملة في مجالات الإغاثة الإنسانية في المجالات الطبية والغذاء ورعاية الأطفال، مثل الصليب الأحمر واليونيسيف ووكالة غوث اللاجئين، من أجل توفير الشروط الضرورية لمنع حدوث كارثة إنسانية في غزة. وقد استجاب الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن لهذا التغير في ترتيب الأولويات في إدارة الصراع، بتعيين مبعوث أمريكي خاص لشؤون المساعدات الإنسانية هو السفير ديفيد ساترفيلد الذي كان مسؤولاً عن الملف السوري في وزارة الخارجية الأمريكية، وعمل قبل ذلك مسؤولاً عن الشؤون السياسية في السفارة الأمريكية في بغداد، بعد إسقاط صدام حسين. هذه التحولات التي وقعت خارج بيئة العمليات العسكرية في حرب غزة تمثل أيضاً محركات مهمة للضغط في اتجاه تأجيل الهجوم الإسرائيلي الشامل على غزة.

التحدي الذي تواجهه أمريكا:

الجولة الدبلوماسية التي قام بها وزير الخارجية الأمريكية في المنطقة وضعته وجها لوجه أمام قسوة حقيقة تراجع النفوذ السياسي الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط، فعاد منها إلى تل أبيب أقل انحيازا لإسرائيل، عما كان عليه عندما غادرها. وقد ظهر أثر هذه الحقيقة بوضوح في تصريحات الرئيس الأمريكي يوم الأحد الماضي، ما اعتبره المراقبون تغيرا في «الخطاب» الأمريكي، وإن كان لا يرقى إلى تغيير في «الموقف». ومع ذلك فإن تقدم أولوية الاعتبارات الإنسانية قد يؤدي إلى تغيير في قواعد اللعبة في الحرب الجارية حاليا، بتخفيف حدة الاجتياح العسكري الشامل، أو تحويله إلى مجرد عمل عسكري يائس لا قيمة له، خصوصا إذا بدأت عملية دبلوماسية جادة للإفراج عن المحتجزين. هذا السيناريو يحمل ضمنا فتح أبواب جحيم سياسي ضد الحكومة الإسرائيلية، ولذلك فإن نتنياهو سيرفضه بكل قوة، للمحافظة على قدر من المصداقية للحملة العسكرية على غزة. وسيحاول توسيع نطاق الحرب، لوضع الأمريكيين أمام أمر واقع يتم بمقتضاه ضرب إيران، وإنهاء تهديدها النووي المحتمل، والإبقاء على احتكار إسرائيل للقوة النووية والتفوق النوعي العسكري والهيمنة السياسية. وأظن أن هدف ضرب إيران يحتل أولوية أكبر من وجهة نظر نتنياهو. كذلك يعلم نتنياهو أن التشققات بدأت تظهر في جدران حكومته، وأن الخطر يحيط به من كل جانب، بعد أن بدأت موجة الاعتراف بالفشل أمام إرادة المقاومة الفلسطينية، يرافقها تبادل الاتهامات عمن يتحمل المسؤولية عن الفشل، وقد شملت هذه الموجة شخصيات كبيرة منها وزير المالية زعيم حزب الصهيونية الدينية بتسئليل سموتريتش، ورونين بار رئيس جهاز الأمن الداخلي «شين بيت». لقد اعترف هؤلاء أمام العالم بأن القيادة السياسية والمنظومة الأمنية فشلت في مواجهة إرادة المقاومة. وإذا كان زعيمهم الأعمى عن الحق والحقيقة بنيامين نتنياهو يعتقد أنه يستطيع «تغيير الشرق الأوسط»، فإن إرادة المقاومة سبقته إلى ذلك، وليس الشرق الأوسط الآن كما كان في العام الماضي، وليس أمام الفلسطينيين غير الصمود عسكريا، وتطوير هذا الصمود إلى هجوم دبلوماسي، من خلال إعلان استراتيجية سياسية للتعايش على أساس المساواة بين الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي في الحقوق والواجبات، بصورة متساوية ومتزامنة، بأن يكون لكل من الشعبين حق العيش في سلام وأمان، وحق الدفاع عن النفس داخل دولة لها حدود آمنة ومعترف بها. إن حق الفلسطينيين في وطن ليس أقل من حق الإسرائيليين، كما أن حقهم في الدفاع عن وجودهم لا يقل عن حق أي شعب من شعوب الأرض؛ فلكل شعب وطن إلا الفلسطيني لا وطن له. ولن تستطيع إسرائيل أبدا بقوتها الغاشمة أن تنتصر على إرادة المقاومة الفلسطينية.

* كاتب مصري

المصدر: القدس العربي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.