الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

كتاب «في الفكر السياسي»؛ (الجزء الأول).. الحلقة الخامسة عشر

 (الحرية أولاً) ينشر حصرياً الكتاب المفقود «في الفكر السياسي» بجزئيه، للمفكرين “الأربعة الكبار”، وهذه الحلقة الخامسة عشر من الجزء الأول(7). شعوب المستعمرات هل هي أمم؟؛ بقلم الأستاذ “الياس مرقص”

 

 (7). شعوب المستعمرات هل هي أمم؟

    هذا الكلام قد يحمل القارئ على الاعتقاد أن ستالين، الحريص على حق الأمم المظلومة في التحرر والاستقلال، حريص بالتالي على اعتبار الشعوب المظلومة والمستعمرة أمماً.

    تلك ليست الحال. إذ إن التعريف الصارم الذي وضعه للأمة يُخرج معظم هذه الشعوب من عداد الأمم، بصورة أوتوماتيكية، نظراً لعدم توفر بعض من المقومات الستالينية الأربع في هذه الشعوب (اللغة المشتركة أحياناً والاقتصاد المشترك أحياناً أخرى). وهذا الموقف يؤول، وفق محاكمة ستالين ذاتها، إلى تبرير اضطهاد هذه الشعوب واستمرار التسلط الاستعماري عليها.

    هل حصل ذلك في التطبيق العملي؟

    أجل! وسوف نرى بعد قليل، كيف تبنى موریس توريز وخالد بكداش هذا الموقف بالذات، بل كيف تجاوزاه، وانتقلا من « إنكار وجود الامة الرازحة تحت نير الاستعمار، إلى «سياسة» «السعي لتكوين الأمة بمساعدة الاستعمار ».

موقف لينين من شعوب المستعمرات        

    أما لينين فقد اتخذ موقفاً معاكساً في عام ۱۹16 وأعلن دونما تحفظ أن شعوب المستعمرات هي أمم.

    هذا التأكيد نجده في مؤلفين للينين: الأول «حول کراس یونیوس». فبعد أن ينتقد لينين الزعيمة الاشتراكية اليسارية الألمانية روزا لوكسمبورج ( يونيوس )، على أخطائها في المسألة القومية، نراه يُثني على موقفها من شعوب المستعمرات إذ تؤكد أن هذه الشعوب هي أمم، « شأنها شأن الأمم الأخرى » ( راجع « حركة التحرر الوطني في الشرق » ترجمة الياس مرقص، دار دمشق، ص 95 ).

    والمؤلف الآخر وعنوانه « صورة مشوهة عن الماركسية والنزعة الاقتصادية الاستعمارية »، وضَعه لينين رداً على بياتاكوف ( كيفسكي ) وقد جاء في مطلع الفصل السادس من هذا الكتاب ما يلي:

    « كثيراً ما ينسى الأوربيون أن شعوب المستعمرات هي أيضاً أمم. ولكن التسامح مع هذا «النسيان»، هو تسامح مع الشوفينية ».(المرجع ذاته، ص ۱۲۳)

    هذا الكلام الواضح يتعارض مع نظرية ستالين: الشوفينيون وحدهم « ينسون »، أن شعوب المستعمرات هي أمم.

     لا يمكن أن ننكر وجود أمة من الأمم بحجة عدم توفر إحدى العلائم الأربع. ولا يمكن أن ننكر وجود أمة من الأمم بسبب انقسامها الاقتصادي.

نوعان من التجزئة

    ومن أبسط قواعد البحث العلمي أن نميز بين نوعين من التجزئة الاقتصادية: التجزئة الناجمة عن الوضع الداخلي وتأخر التطور الاقتصادي الذاتي للأمة، والتجزئة الناجمة عن الاستعمار والتسلط الخارجي. ذلك أضعف الإيمان.

    وهذا لا ينفي بالطبع إمكانية تضافر العاملين- الداخلي (الاقطاعية) والخارجي (الاستعمار، التسلط السياسي، عامل العنف) على تحقيق التجزئة. تلك هي حال الأمة العربية مثلاً.

    وبعد أن استبعدنا التجزئة الناجمة عن التسلط الخارجي، نلقي الآن نظرة على التطور الاقتصادي الذاتي للأمة.

رأي للمؤرخين السوفييت

    لقد بين المؤرخون السوفييت، انطلاقاً من كتاب ستالين « المسألة القومية واللينينية » أن المقومات الأربع للأمة تنشأ تدريجياً، خلال فترة تاريخية طويلة، وذلك حسب التسلسل الذي وردت فيه هذه المقومات في التعريف الستاليني: اللغة والأرض، ثم الاقتصاد المشترك (في عصر الرأسمالية الصاعدة) أما التكوين النفسي المشترك، الذي يعكس شروط الحياة المادية، فإن بذوره قديمه ولكنه ينمو بالتدريج ويتكامل في عصر الرأسمالية الصاعدة..

    وعلى هذا الأساس، فإن تنظيم الجماعات البشرية يمر بثلاث مراحل كبرى: القبيلة، ثم «الشعب» (نارودنوست) Norodnost، ثم الأمة.

    ويقصد بالنارودنوست الجماعة البشرية التي توفرت فيها وحدة اللغة والأرض والعلائم النفسية، ولم تتوفر فيها بعد وحدة الاقتصاد.

    وكلمة نارودنوست هذه مشتقة من كلمة نارود التي تعني شعب وقد ترجمها بعض المؤرخين الفرنسين بكلمة peple والبعض الآخر بكلمة Nationalite التي يمكن أن تترجم بكلمة  قومية، مأخوذة بمعنى «ما قبل الأمة» أو «التمهيد للأمة» أي الأمة التي ما زالت تفتقر إلى رابطة الاقتصاد المشترك.

    وقد تكونت «الشعوب » ( نارودنوست ) الأوروبية في العصور الوسطى، على أساس نماذج الفاتحين الجرمان والسكان الأصلين، واستقرار الجماعات البشرية الناشئة في مناطق محددة، ونشوء اللغات الأوربية وتمركز السلطة السياسية للدولة اعتباراً من القرن الثاني عشر.

    وتتحول هذه « الشعوب » إلى أمم تدريجياً، في عصر الرأسمالية الصاعدة بعد القرن السادس عشر.

    هذا المخطط يبدو لنا مخططاً جيداً- وهو يتضمن من الروح الديالكتية أكثر مما يتضمن تعريف ستالين-.. شريطة أن نحصره في حدود القارة الأوروبية.

    إنه منهج للبحث، وكل محاولة لجعله ألف وباء العلم محاولة خاطئة.

    فالماركسية، كما يقول ماركس وأنجلس، « ليست عقيدة جامدة، انما هي دليل العمل »، ومنهج للبحث العلمي.

    والواقع أن من يقول « يكفي أن تنعدم علامة واحده من هذه العلائم حتى تكف الأمة عن كونها أمة » إنما يحوّل الدليل والمنهج إلى عقيدة جامدة.

تقييم إجمالي لتعريف ستالين

    يمكن القول إن تعریف ستالين يتضمن جانبين:

    ا) جانب إيجابي، وهو الموقف المادي المناویء للنظريات المثالية التي تبني الأمة على مفهوم «العرق» و«الدم»، أو التي تقصر الأمة على مفهوم «الشعور» و«الطابع القومي» (الملامح النفسية) و«وحدة الآمال والآماني».

   2) جانب سلبي، وهو الموقف الميتافيزيائي اللاواقعي واللاجدلي. ويتجلى هذا الموقف في تبني القوالب الجامدة وإقامة السدود والقيود.

    إن ستالين محق في تأكيده دور الاقتصاد المشترك، ودور العلائم الأربع، بشكل عام.

    ولكن ستالين مخطئ في جعله كل واحدة من هذه العلائم شرطاً لا غنى عنه لوجود الأمة، في جميع الحالات.

     إننا لا نسقط أية علامة من العلائم الأربع التي يقول بها ستالين، بشكل مطلق، ولكننا لا نؤكد أية علامة من هذه العلائم، بشكل مطلق.

    والحال، إذا أكدنا كلاً من هذه العلائم بشكل مطلق، فإن هذا الموقف كفيل بإسقاط صفة الأمة عن معظم شعوب الأرض!

    وهو يؤول إلى عواقب وخيمة في السياسة العملية تصل- وقد وصلت فعلاً في سورية والجزائر- إلى حد الوقوف ضد الحركة الوطنية.

    يقول ستالين:

      « من الضروري أن نشير إشارة خاصة إلى أن كل علامة من العلائم التي ذكرناها لا تكفي لتعريف الأمة إذا هي أخذت على حدة ».

    ويضيف:

     «ونذهب إلى أبعد من ذلك فنقول: يكفي أن تنعدم علامة واحدة من هذه العلائم حتى تنقطع الأمة عن كونها أمة».

    نحن نرفض الذهاب إلى هذا الحد، بل نقول:

    «لا يكفي أبداً أن تنعدم علامة واحدة من هذه العلائم حتى تنقطع الأمة عن كونها أمة»!

    إن العلم الاجتماعي ليس ضرباً من المنطق الشكلي.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

يتبع.. الحلقة السادسة عشر بعنوان: (8). الحركة القومية: طبيعتها ومحتواها الطبقي؛ بقلم الأستاذ “الياس مرقص”

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.