الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

 أبيض ناصع أو أسود حالك..!

                       

عندما يفقد مجتمع ما- وخاصة مثقفوه- النظرة الموضوعية خاصة للقضايا الكبرى، تبدأ بذور التعصب بالنمو ولن تجد هذه البذور تربة وبيئة أخصب من ذلك للظهور، ويبدأ حين ذلك السلام المجتمعي بالأفول والابتعاد أكثر عن التقدم.

لا أحد يستطيع أن يجادل في أننا كبشر نتأثر بالمحيط الاجتماعي الذي حولنا، والبيئة التي نعيش فيها ونتفاعل معها، وهذا بدوره أيضاً يؤثر على نوعية قراءاتنا، فلا بد أن يكون لنا رأي في قضية ما بل أنه من غير المنطقي أو من غير الطبيعي أن لا يكون لنا رأي، لكن المشكلة والكارثة هي ليست التمترس وراء هذا الرأي أو ذاك وجعله مقدس كقرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وحسب، بل في تسفيه آراء الآخرين وعدم الاعتراف بأحقية وجودها! 

فالتعصب لرأي ما ولقضية معينة أو لعرق معين قد يريح صاحبه برهة من عناء التفكير، والاكتفاء بلوم الآخر سواءٌ كان فكرة ما أو قومية أو أي شيء آخر، فالمتعصب لعرق ما يمارس عنصريته على الآخرين فقط لأنه يعتقد أنه أعلى منهم وأرفع مرتبة فهم سبب تخلف البلاد وخراب الاقتصاد، وهو لا يختلف أبداً من حيث المبدأ عن المتعصب لفكرة ما أو أيديولوجية معينة فهو يعتقد أن ما يؤمن به هو الصواب المطلق وأن ما يؤمن به الآخرون محض خرافات أو تخلف ليس إلّا، وأساس ومُنطلق تفكيره “من ليس معنا فهو ضدنا” والأمثلة على ذلك كثيرة بل أكثر من أن تحصى.        

لكن ربما يخطر في البال أثناء كتابة هذه السطور، أو بالأحرى قد يكون السبب الذي استدعى كتابة هذه السطور هو تلك القصة التي تتجدد في كل عام مرتين على الأقل أو أكثر، والمقصود هنا هو تجربة الوحدة السورية المصرية التي بدأت في 22 شباط/ فبراير 1958 وانتهت في 28 أيلول/ سبتمبر 1961، حيث يتكرر الحديث عنها في المناسبتين على أقل تقدير.

وتشهد وسائل التواصل الاجتماعي (التي أصبحت وسائل للتباعد والتنافر) شداً وجذباً بين مؤمنين بتجربة رائدة بلا أخطاء وكفار بها باعتبارها احتلالاً وحكماً للعسكر وإلغاءً للحياة البرلمانية الديمقراطية التي كانت تُجاري “الديمقراطية الاوربية”! وبين الحكم عليها بالإيجابية المطلقة ورؤيتها ناصعة البياض، والحكم عليها بالسلبية المطلقة ورؤيتها حالكة السواد، يغيب حكم المنطق وتموت الموضوعية أمام الأحكام المُسبقة الممتلئة بالأيديولوجيا، وتتحول طاولة الحوار إلى حلبة مصارعة بل وساحة حرب تستخدم فيها مختلف صنوف الأسلحة عدا سلاح العقل والمنطق.  

و الأجدر أن تُدرس كل تجربة من تجارب التاريخ دراسة موضوعية ليس هدفها إصدار الأحكام القيميّة، بل أن لا تضيع فرصة التعلم منها ومن أخطائها قبل صوابها، والدراسة الموضوعية لتجربة الوحدة على سبيل المثال تفرض لزاماً على الدارس فهم سياق هذه التجربة والظروف السياسية والعسكرية والاجتماعية المحيطة بها، بعيداً عن لوثة التكفير والتخوين والتشويه وشيطنة الآخر.

فالقائلون بأن الوحدة السورية المصرية احتلال مصري يتناسوّن ارسال مصر لقوات عسكرية إلى سوريا قبل الوحدة في عام 1957 لمنع عدوان تركي مُحتمل، وكذلك مباحثات الوحدة وموافقة مجلس النواب السوري المنتخب ديمقراطياً عليها، علماً أن رغبة القيادة المصرية كانت حينذاك أن يؤجل الحديث في الوحدة لمدة 5 سنوات وبعدها يمكن التفكير بالإجراءات التنفيذية على ضوء ما يقع من مستجدات.    

ثم في موضوع عبد الناصر والحكم العسكري يمكن بنظرة سريعة إلى تلك الفترة الزمنية بين نهاية الأربعينات وبداية الستينات (فترة حركات التحرر في العالم) ملاحظة أن العسكرين الذين خاضوا حركات التحرر من الاستعمار في بلادهم هم أنفسهم الذين قادوا البلاد بعد ذلك، وليست الدول العربية استثناءً في ذلك، فشارل ديغول وأيزنهاور وونستون تشرشل كلهم من خلفيات عسكرية، وحتى قبل ذلك مؤسس الولايات المتحدة الامريكية جورج واشنطن من خلفية عسكرية، إضافة إلى أن أول وفد ذهب ليطلب الوحدة من القيادة المصرية هم وفد من العسكريين السوريين.        

كما أن عبد الناصر لم يفاجئ السورين بطلب حل الأحزاب بل كان هذا هو الإتفاق منذ البداية وقد تدارسه مجلس الوزراء السوري في جلسة حضرها رئيس الجمهورية شكري القوتلي، ورئيس مجلس النواب أكرم الحوراني، ورئيس أركان الجيش عفيف البزري وقادة وحداته، حيث أقر الجميع الاتفاق بدون أدنى تحفظ، وقد كانت أهم نقاط الإتفاق هي:

أولاً: أن يتم استفتاء شعبي على الوحدة ليقول كلٌ من الشعبين في سوريا وفي مصر رأيه الحر في التجربة المطروحة ويعبر عن إرادته.

ثانياً: أن يتوقف النشاط الحزبي في سوريا توقفاً كاملاً كما هو في مصر، وأن تقوم الأحزاب السورية بحل نفسها.

ثالثاً: أن يتوقف تدخل الجيش في السياسة تدخلاً تاماً بشكل مشابه لما هو في مصر، وأن ينصرف ضباطه إلى أعمالهم العسكرية ليصبح الجيش أداة دفاع وقتال وليس أداة سلطة داخلية للسيطرة، (بسبب ما كان معروفاً في سوريا من تدخل للجيش في السياسة عموماً).        

وفي الوقت الذي أتُخذ فيه قرار الوحدة عبر البرلمان ومؤسسات الدولة، كان قرار الانفصال قراراً عسكرياً أيضاً، قاده عبد الكريم النحلاوي- وهو الانقلاب الثالث في تاريخ سورية بعد انقلاب حسني الزعيم عام 1949 وانقلاب سامي الحناوي وأديب الشيشكلي على حسني الزعيم بنفس السنة وإعدامه- الذي تصدى له الناس مطالبين بالإبقاء على الوحدة بين سوريا ومصر والعودة إليها.

على المقلب الآخر لم يكن التفريط بالحياة الحزبية والبرلمانية السورية خياراً صحيحاً، كما لم يكن إغلاق الصحف أيضا خياراً موفقاً، فإغلاق الصحف كان إغلاقا للنافذة التي كان يمكن أن تُطل على مواطن الخلل وتشير إليها، فسلامة الصحافة وحريتها هي صمام الأمان وضمان الاستقرار، كما أن إدارة ملف الوحدة من قِبل القائمين عليه لم تكن بالمستوى المطلوب، طبعاً لا يتيح هذا الرأي، بسبب محدودية كلماته، بالإضاءة على كافة الجوانب السلبية والإيجابية منها، مع تفهم أن ما قد يراه البعض سلبياً قد يكون في منتهى الإيجابية عند البعض الأخر.

لكن ما يجب التنويه إليه أنه ومهما كان رأينا فيها سلباً أو إيجاباً، فهذا لا يبرر الحكم بأن الوحدة باعتبارها فعل سلبي، فكل أمم الأرض تسعى لتكون ضمن تكتلات تحميها، ومن المفارقة أن من يُعادون الوحدة العربية يقفون بإعجاب أمام الوحدة الأوربية حيث لا حواجز ولا حدود بين دولها، وأن أحفاد سايكس- بيكو يرضوّن لنا ما لا يرضوّن لأنفسهم، على طريق دفعنا للتحلل القومي وهو ما نراه ماثلاً أمامنا باستفحال فيروس التفكك والتشظي العربي والارتداد إلى ما قبل الحداثة!

وأخيراً كما أن الديمقراطية هي السبيل الوحيد لبناء مجتمع متقدم، كذلك فإن العقلانية والموضوعية هي الضمان لتقف الديمقراطية على أرضٍ ثابتة وبناء مجتمع متعايش مع اختلافاته وبجميع ألوانه.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.