محمد المنشاوي *
يرى الكثير من الشعب الأمريكي أن بلاده لا تسير على الطريق السليم، كما يعتقد الكثير من الأشخاص الأكاديميين داخل وخارج الولايات المتحدة، أن الريادة الأمريكية في طريقها للتراجع، إلا أن نظرة محايدة على واقع العالم اليوم، لا ينتج عنها إلا تأكيد استمرار الريادة والهيمنة الأمريكية على مختلف بقاع العالم وقطاعاته المختلفة.
فعقب تفشى انتشار وباء الكورونا قبل 3 سنوات، اتجهت أنظار العالم لأمريكا لتجد حلاً طبياً للفاجعة، وهو ما كان بعد عدة أشهر قليلة. وخلال هذا العام عرضت شاشات هوليوود ملحمتي «أوبنهايمر» و«باربي»، وهو ما فتح نقاشاً كونياً امتد من اليابان للصين والهند ثم الدول الأفريقية مروراً بأوروبا وانتهاءً بأمريكا حول أخلاقية إنتاج واستخدام الأسلحة الذرية. ودفع فيلم «باربي» التركيز على النقاش الاجتماعي حول العالم بشأن الجندر والحركة النسائية، واستغلال النساء، واستقلالهن الاقتصادي والمالي.
لا يعني ذلك عدم صعود قوى أخرى إقليمية هنا وهناك، وقد تتطلع بعض هذه القوى- كالصين- إلى لعب دور عالمي أكبر، إلا أن تلك التطلعات تبقى مجرد تطلعات كما تُظهر لنا جل التطورات العالمية خاصة منذ بدء العام 2023.
* * *
لاختبار سردية تراجع أمريكا على إطلاقها، يلزم أن يرتبط ذلك بصعود قوى منافسة، والكل يتحدث عن الصين. إلا أن الصين، التي حققت معجزة بكل المقاييس الاقتصادية والتكنولوجية أصبحت معها «مصنع العالم» على الأقل في مرحلة ما قبل انتشار وتفشي فيروس كوفيد- 19، تتعرض اليوم لأزمات ولمشكلات ضخمة لا تعرف كيف تتعامل معها.
أدت سياسات الرئيس شي جين بينج في الإغلاق الصارم بعد ظهور وباء الكورونا لسحق اقتصاد الصين، وعدم وجود طريق للتعافي في ظل تستر الحزب الشيوعي الصيني لإخفاء التراجع الاقتصادي الذي تعرفه الصين ويراه العالم بوضوح. ولم يعد بمقدرة الاقتصاد الصيني الانتقال من اقتصاد قائم على الاستثمار إلى اقتصاد قائم على الاستهلاك في بلد تركيبته السكانية أصبحت عبئاً على استمرار نموه. وخلال النصف الأول من 2023، تراجع نمو الاقتصاد الصيني إلى أحد أسوأ مستوياته خلال قرابة نصف قرن.
كما أظهرت بيانات من المكتب الصيني الوطني للإحصاء نمو الناتج المحلي الإجمالي خلال 2022 بنسبة متخلفة بشدة عن الهدف الرسمي البالغ نحو 5.5% ومتأخرة بشدة عن نمو 8.4% في 2021، ويعد ذلك المعدل الأسوأ منذ 1976.
ومثّل انخفاض عدد سكان الصين عام 2022 بـ 850 ألف نسمة عن سكان الصين عام 2021، خبراً كارثياً لصناع القرار في الصين لأنها تُظهر فشل سياسة طفل واحد، ومن بعدها سياسة طفلين، وهذه المرة الأولى التي تشهد فيها الصين انخفاضاً، لا يراه الخبراء صحياً، في عدد سكانها على الإطلاق. ولا يحدث ذلك في الصين فقط، فالعديد من الدول المتقدمة مثل اليابان وكوريا الجنوبية، وأغلب دول أوروبا الغربية، تعرف انخفاضاً في عدد المواليد، لكن الفارق في التجربة الصينية أن ذلك حدثَ سريعاً جداً خلال عقد واحد من الزمن، وهو العقد الأخير، في حين استغرق الوصول لهذه النقطة في الدول الأخرى نصف قرن على الأقل، وجاء تدريجياً بطيئاً.
كذلك، تشهد الصين حالياً أزمة كبيرة تضرب قطاعها العقاري الذى مثل رأس الحربة في نموها الاقتصادي خلال العقود الأخيرة. إذ أفلست كبريات الشركات العقارية بعد تراكم ديون بمليارات الدولارات وسط توقف شبه كامل لعمليات البيع والشراء.
من ناحية أخرى، تبحث الولايات المتحدة وكبار شركاء الصين التجاريين عن بدائل للمنتجات الصينية وسلاسل الإمداد التي تعتمد عليها بعد تجربة كوفيد- 19 الأليمة مع الإغلاقات الصينية. وتلعب الهند وفيتنام وإندونيسيا والمكسيك أدواراً هامة في توفير البديل للمنتجات الصينية.
ناهينا عن أنه لا يمكن للقارة الأوروبية هز الريادة الأمريكية خاصة مع استمرار اعتمادها على مظلة واشنطن الأمنية العسكرية كما أثبتها بوضوح غزو روسيا لأوكرانيا. وتعاني أوروبا من عواقب سكانية واجتماعية كارثية خاصة مع انخفاض أعداد السكان، وعدم قبول الحقائق الجديدة فيما يتعلق بالهجرة والهوية.
ألمانيا أصبحت تُلقب بـ«رجل أوروبا المريض»، ودخل الاقتصاد الأقوى في أوروبا في حالة ركود مع تضخم مرتفع بشكل مؤلم. وأصبح هيكل الاقتصاد الألماني يعتمد على الطاقة الروسية والصادرات إلى الصين. ولا تعد الحالة البريطانية أو الفرنسية أفضل كثيراً، وهكذا أصبحت أوروبا متحفاً للحضارة وليست صانعة لها في الوقت الحالي.
* * *
في الوقت الذي يفتخر فيه الشعب الأمريكي ببلاده وبما يعتبره قيادة أمريكية للعالم لا بديل عنها، ترى الأغلبية منهم في الوقت ذاته أن بلادهم لا تسير على المسار الصحيح وسط تشكيك متزايد في ديمقراطيتهم وشفافية النظام السياسي. إذ تعرف أمريكا معضلات وأزمات اجتماعية خطيرة فيما يتعلق بالسجون وحوادث إطلاق النار وانتشار الجريمة، واتساع الفجوة بين أغنيائها وفقرائها، إلا أن الديناميكية الفريدة والحراك الاجتماعي المتاح يجعلها في الوقت ذاته قادرة على مواجهة هذه الأزمات بشجاعة وصراحة.
ورغم تشاؤم الكثير من الأمريكيين والأمريكيات حول المستقبل، ولِما يرونه من استقطاب سياسي، فلا تزال أمريكا أغنى اقتصاد في العالم، والأكثر إنتاجيةً وإبداعاً، ومستقر سياسياً على الرغم من كل أزمات الديموقراطية الأمريكية.
ومنذ تسعينيات القرن الماضي عندما بلغت نسبة سكان أمريكا من إجمالي سكان العالم 5%، كان نصيبها ربع الناتج الإجمالي العالمي، وبعد مرور 30 عاماً، لم تتغير هذه الحصة تقريباً، حتى مع اكتساب الصين نفوذاً اقتصادياً، وانخفاض نسبة الشعب الأمريكي بالنسبة لسكان العالم.
في النهاية، لا تزال المدرسة الفكرية هنا تؤمن أن «أمريكا» عظيمة بطبيعتها، وهذا ما لا يختلف حوله الشعب الأمريكي خاصة مع غياب أي منافسة حقيقية للريادة الأمريكية.
* كاتب متخصص في الشؤون الأميركية، مقيم في واشنطن
المصدر: “الشروق”