سمير العيطة *
اهتزّت الأرض في المغرب وهدّمت منازل على رؤوس أهلها، ثمّ جاء سيل الإعصار في ليبيا ليجرف في لحظة قرى ومدناً وأحياءً كاملة مع الآلاف من سكانها إلى البحر. كانت الحصيلة مريعة هنا وهناك.
الأرض تُذكِّر بأنّها الأقوى والسماء تُنذر بصوت أعلى أنّ البشر عبثوا بها وأخذوها إلى ما يهدّد بقاءهم، أي الاحتباس الحراري والتقلبات القصوى في المناخ. وتموضعت «السياسة» في قلب المحنة. فهذا المغرب يرفض مساعدة فرنسا ودول أخرى عرضت إرسال فرق إنقاذ، أي ما كان يحلم به الشعب السوري يوم ضرب الزلزال منذ فترة قريبة شمال بلادهم وجنوب تركيا. ويتحسّر السياسيّون ووسائل الإعلام في أوروبا والغرب أنّ «الدولة» غائبة في ليبيا، ولم تقُم بصيانة السدود التي انهارت.
* * *
منطقتنا العربيّة تَذكُر منذ قدم التاريخ أنها عُرضة، ربما أكثر من جوارها، لغضب الأرض والسماء. فالزلازل والانفجارات البركانيّة رافقت تاريخ عمرانها. هكذا محا الانفجار البركاني في القرن السادس عشر قبل الميلاد «حضارات» شرق المتوسط لعقود. وكان للزلزالين الضخمين سنة 1202 م، أثناء الحملة الصليبية الرابعة على المشرق في العصر الأيوبي، وسنة 1759 في ظل الإمبراطورية العثمانية آثار غيرت التاريخ. دون نسيان الزلازل التي دمّرت قبّة الصخرة في القدس ومعظم مدن بلاد الشام في القرن التاسع، أي خلال الخلافة العباسية.
وتعرف المنطقة أيضاً آثار الجفاف والفيضانات. إذ تشهد جغرافيا وُديان صحراء الجزيرة العربية ومصر وليبيا والجزائر وبادية سوريا والعراق آثار السيول في تشكيل طبيعتها. فما بالنا إذا تفاقم هذا الغضب «الإلهي» الذي يزيد من آثاره عبث البشر؟
ولا ننسى «الحضارة الإنسانية» قد نشأت مع المدن- الدول في بلاد ما بين النهرين والشام ومع الدول الإمبراطورية في مصر بالتحديد بغية تأقلم البشر في تجمّعاتهم مع تقلبات المناخ وتسخيرها لاستدامتهم. تمثلت إشكاليات الحضارة الأولى في تشوّش هطول الأمطار وقسوة سنوات الجفاف، ممّا استوجب تنظيم الري وتخزين المحاصيل. أمّا في مصر، فكان فيضان نهر النيل سنويّاً حيث كان يغمر كل ما في واديه ممّا تطلب قيام إدارة تؤمّن تأقلم المصريين القدماء معه. هكذا نشأت «الدولة» كمفهومٍ وكيانٍ سياسي لتنظيم حياة البشر. ونشأت معها «الحضارة».
انتقل تنظيم «الحضارة» بعدها إلى المدن اليونانية والإمبراطورية الرومانية وغيرهما من الصين إلى الهند وفارس والحضارة «العربية- الإسلامية»، وتطوّر من مجرّد إدارة الزراعة والري إلى تنظيم صناعة الحرف والتبادل التجاري عبر المسافات البعيدة. وكانت الكوارث الطبيعية التي لا قدرة على مواجهتها، كالزلازل الضخمة كما الجفاف الطويل الأمد والأعاصير، سبباً في زوال دول ومدن وحضارات. هذا عدا ما صنعه البشر بنفسهم عبر موجات الغزو الضخمة، وأشهرها تلك التي قام بها المغول والصليبيون.
والسؤال المحوري الذي يفرض نفسه هنا هو لماذا يقبل الناس أن ينتظموا في دولة، رغم أنّها في جوهرها «احتكار للعنف؟» لأنّه في المقابل منوط بها تأمين الاستدامة، الغذاء والسكن والصحة وغيرها، ودرء المخاطر ومواجهة الكوارث. ينهار القبول بها عندما ينهار المقابل.
وسؤال آخر، كيف تُهيمن دولة أو تُدمّر شعب بلد آخر ودولته؟ بالتحديد عبر إحياء التناقضات وإشعال مظالم ومطامع حقيقية ومفترضة، وتهديم مقوّمات الغذاء والسكن والصحة… كي تغدو مجرد منّة تمنحها إن أرادت عبر مساعدات وجمعيات إنسانية تخلق نفوذاً على المدى الطويل.
معمّر القذافي كان مستبدّاً بغيضاً. ولكنّه أسس «النهر العظيم» كي يحصل أهل ليبيا المترامية الأطراف علي مياه الشرب، وأسّس السدود التي لم تتمّ صيانتها منذ أن أطيح به. هذا في بلد جرى توصيفه عادة أنّه لا توجد فيه «دولة» بالمعنى الحقيقي. ليس هذا دفاعاً عن القذافي، بل ما يدورُ في أذهان كثيرٍ من الشعب الليبي. فهل ربحوا حقّاً «الحريّة» المنشودة عندما حوّلت قوى خارجية حظر الطيران إلى قصف لجيشهم؟ وعندما تمّ إنزال الأسلحة والذخائر على البلدات بهدف خلق ميليشيات متناحِرة؟ وعندما ضاعت البلاد بين هجمات القاعدة وداعش وبين حروب الدول بالوكالة في العالم المتعدّد الأقطاب الذي لا ضابط له؟ في المحصّلة، أصبحت ليبيا هذه «دون دولة» تهديداً لجارتيها، تونس ومصر، كما لدول أوروبا عبر موجات اللاجئين واللاجئات.
وتساؤل آخر عما دفع الأوروبيين، فرنسا وبريطانيا بشكل خاص، إلى الذهاب لـ«مغامرة» كهذه، على حساب أرواح الشعب الليبي؟ ألم تكن تجربة الغزو الأمريكي في العراق في تدمير أسس الدولة العراقية بدل إصلاحها ماثلة مع انفلات القتال الطائفي وبروز «الدولة الإسلامية؟» وهذه الأخيرة بالمناسبة راحت تؤسس «دولة» جنونية لها، لم يتمّ القضاء عليها إلا بصعوبة كبيرة وبتحالف ضمني للأضداد: روسيا والولايات المتحدة، الجيش الأمريكي والبيشمرغا و«الحشد الشعبي» كما في معركة الموصل.
* * *
لا حلّ سهل لمسألة «الدولة» وانهيارها في المنطقة العربيّة. في حين أضحت هي قضيّة القضايا من ليبيا إلى تونس واليمن وسوريا ولبنان والعراق. لا بدّ من التعقّل فالمطالبة بـ«إسقاط نظام» يجب ألاّ تعني إسقاط «الدولة» بل فقط تغيير السلطة التي تهيمن على الدولة، وبالتحديد تجعلها ضعيفة لا تستطيع تأمين مستلزمات شعوبها وحمايتها. وهذا التمييز العسير هو الذي يتطلب «السياسة».
الزلزال ظاهرة «طبيعية». لا يُمكن حيالها سوى التحذير من بناء منشآت خطرة كالمفاعلات النوويّة في مناطق احتمال حدوث القوية منها، لتجنب ما حدث لمفاعلات فوكوشيما في اليابان. وكذلك ضبط عملية العمران تبعاً لمعايير دقيقة كي لا تنهار الأبنية على رؤوس قاطنيها بالكامل كما حدث في جنديرس شمال سوريا. والأعاصير ظاهرة طبيعيّة ومن صنع الإنسان، عبر مساهمة البشر في تدمير ما وهبهم الله لهم من خلال ظاهرة الاحتباس الحرارى التي أضحت خطراً يهدد البشرية وبقاءها.
إنّ البلدان العربية هي من الأكثر عرضة لتأثّرات التغير المناخي المتسارعة، عبر انخفاض المنسوب المتوسّط لتساقط الأمطار مقابل أعاصير آنيّة وسيول مدمّرة، وموجات حرارة عالية يصعب على البشر احتمالها تُرافقها عواصف رمال نتيجة تقدم التصحّر، وارتفاعٌ مستمرّ لمستوى البحر يهدّد المناطق المنخفضة، مثل دلتا النيل.
ولا إمكانية لدرء هذه المخاطر على أهل البلدان العربية سوى وجود «دولة» قادِرة، بالتحديد لأنّ منظومتها تؤمّن مستلزمات مواطنيها ومواطناتها وتحميهم من المخاطر الحالية والمحتملة. حتى في تلك التي لا تتعرّض لتقلّبات الأرض والسماء والبشر اليوم. وإلا لا نجاة إلا عبر قوارب تعبُر… نحو دول أكثر قدرة. وإن كانت هي الأخرى تتداعى رويداً رويداً لأنّ سياسات سياسييها لا تبحث سوى عن نجاح آني وعن شعبية على الأمد القصير، وإن كان ذلك على حساب البشر، ومواطنيها ومواطناتها في طليعتهم.
* كاتب وباحث اقتصادي سوري ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب
المصدر: الشروق