الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

وثائق حرب (1973).. سؤال النصف قرن

عبد الله السناوي *

بعد خمسين سنة من حرب تشرين الأول/ أكتوبر (1973) يطرح سؤال الوثائق نفسه مجدداً:

لماذا يُحجب حتى الآن أرشيف الحرب؟

لم يعد هناك سر مخبوء يُخشى منه على الأمن القومي.

الأجيال الجديدة من المصريين تحتاج أن تطل بنفسها على المصادر الأصلية حتى يكون بوسعها أن تمتلك نظرة موضوعية ورحبة لأهم حروبنا في العصور الحديثة.

إنه حق أصيل ومؤكد، أن تعتز بتضحيات الأجيال السابقة عن يقين المعرفة لا بالدعايات المحلقة.

هذه مسألة تدخل في سلامة الذاكرة الوطنية.

المعضلة الماثلة الآن أن هناك رواية إسرائيلية متكاملة، بعد إتاحة الأرشيف العسكري والسياسي لحرب (1973)، دون أن تكون هناك رواية مصرية كاملة وموثقة.

ما هو متوافر- حتى الآن- شهادات لقادة عسكريين يروون وقائع كانوا طرفًا فيها، يدافعون عن أنفسهم، أو يتهمون آخرين بالمسؤولية.

الشهادات المنشورة- رغم أهمية بعضها- لا تؤسس لرواية مصرية موثقة عما جرى فعلاً في الميدانين العسكري والسياسي أثناء مواجهات السلاح الكبرى.

الأفدح أن وثائق (5) حزيران/ يونيو (1967) ما زالت مودعة في خزائنها، والخزائن عليها أقفال ومتاريس.

تتوافر آلاف الوثائق عن حزيران/ يونيو وأسرارها غربية وإسرائيلية دون أن تكون هناك رواية مصرية واحدة لها صفة الرسمية.

الدول تنشر وثائقها السياسية والعسكرية بعد عدد معين من السنين لتضع الحقيقة أمام مواطنيها- أيًا كانت مرارتها- حتى لا تتكرر أي أخطاء جرت في الماضي.

الأمر نفسه نفتقده في حربى «الاستنزاف» و«أكتوبر».

هناك شهادات ودراسات نُشرت لكن الوثائق قضية أخرى.

للوثائق كلمة أخيرة تجيب عن كل الأسئلة: كيف هُزمنا ولماذا في حزيران/ يونيو 1967؟ وكيف قاومنا وصمدنا حتى عبرنا الهزيمة في تشرين الأول/ أكتوبر1973؟ ثم كيف أجهضت نتائجها السياسية؟

هناك فارق بين مراجعة التاريخ بالوثائق المثبتة لإدراك حقائقه وتصحيح الذاكرة العامة وبين تعميق الشعور بالهزيمة كقدر إغريقي لا يمكن الفكاك منه، أو نفي أسبابه.

بلغة الوثائق يتأسس الاتفاق والاختلاف على قاعدة معلومات صلبة.

بعد «يونيو» جرت مراجعات وتحقيقات في خلل الأداء العسكري أهمها ما تقصته لجنة ترأسها اللواء «حسن البدرى».

أفضت المراجعات إلى إعادة تصحيح دور القوات المسلحة، ومنع دخولها في غير طبيعة مهامها.

أعيد بناؤها وفق مواصفات الجيوش الحديثة، التي تُعلي من شأن الكفاءة والاحتراف وتمنع الانشغال بالسياسة.

وأُسندت مسؤوليتها إلى نخبة من العسكريين الأكفاء في القيادة العامة، كما في جميع الأسلحة.

تصدّرَ المشهد العسكري المصري أفضل ما في البلد من كفاءات متاحة.

كانت الوطنية المصرية مستعدة أن تقدم كل ما لديها من طاقات عطاء ودم بإيمان حقيقي أن البلد تحارب معركة وجودها ومستقبلها.

لم تكن مصادفة بعد أيام من الهزيمة أن تفرض قوات محدودة في «رأس العش» كلمتها على الإسرائيليين وتُوقع بهم خسائر فادحة في لحظة انتشاء عسكري.

أثناء سنوات حرب الاستنزاف جرت بطولات تقارب الأساطير في ظروف شبه مستحيلة.

بقوة السلاح عبرت مصر قناة السويس في تشرين الأول/ أكتوبر (١٩٧٣)، وكان يُفترض أن تعبر أي مشاعر لحقت الهزيمة.

لماذا؟.. وكيف؟

هذه مسألة وثائق حتى تكون الرواية التاريخية مُحكمة والأحكام السياسية لها ما يسندها.

الحقيقة التاريخية أهم وأخطر من أن تلخص في عبارات عامة، أو دعايات سياسية.

أن يكون الرأي العام أسيراً برد الفعل للرواية الأخرى جريمة تاريخية متكاملة الأركان بحق البطولات التي جرت والتضحيات التي بُذلت.

في الروايات المصرية المتناثرة التي سُجلت شهادات أصحابها من القيادات العسكرية والسياسية تبدت بدرجات مختلفة مشكلة متوارثة في النظر إلى التاريخ، فكل طرف ينظر من زاويته حسب ما تتوافر أمامه من معلومات بحكم مدى قربه من صناعة القرار وحجم إلمامه بصميم المعلومات، وكل طرف يتصور أن التاريخ يبدأ من عنده.

«لماذا لم تُذع وثائق سنة ١٩٦٧؟.. ولماذا لا توضع الحقيقة- كاملة- أمام أصحاب الحق فيها؟».

هكذا طرح ذات حوار الأستاذ «محمد حسنين هيكل» السؤال قاصدًا الذين خرجوا للشوارع عقب الهزيمة يعرضون المقاومة واستمرار القتال، وهم أنفسهم الذين ضحوا بالدم حتى يكون النصر ممكنًا.

في خريف (٢٠٠٩) وجد نفسه أمام سؤاله بطريقة لم تخطر له على بال.

فقد ألقى اللورد «ديفيد أوين» وزير الخارجية البريطاني الأسبق مداخلة مطولة أمام دارسين في القاعة الشرقية بالجامعة الأمريكية مدعوًا من «مؤسسة هيكل للصحافة العربية» قال فيها: «إن مصر هُزمت في حرب ١٩٧٣».

كانت تلك صدمة هائلة للصحفيين الشبان، وكادت تفلت مشاعر الغضب عن كل قيد.

لم تكن حرب تشرين الأول/ أكتوبر موضوع محاضرة اللورد «أوين»، ولا كان مقررًا استدعاء شهادته عمن هُزم وانتصر فيها.

كان موضوع محاضرته: «الاعتلال في السلطة.. الصحة البدنية والنفسية للزعماء وتأثيراتها على الحكم وصنع القرار».

في مساء اليوم نفسه الأربعاء (١٤) تشرين الأول/ أكتوبر (٢٠٠٩)، والضجة تتفاعل والصخب يتسع، سألتُ الأستاذ «هيكل»: «عليك أن تتوقع حملة ضارية باعتبارك الرجل الذي دعاه لإلقاء محاضرة في القاهرة.. ماذا تنتوي أن تقول، أو تفعل؟».

قال: «ولا أي شيء».

«كل ما لديّ كتبته بالوثائق والتفاصيل، ولا أحد بوسعه أن يشكك في موقفي، فضلًا عن أنه لا يصح أن أقول لرجل تولى وزارة الخارجية البريطانية بين عامي ١٩٧٧ و١٩٧٩، عاصر المفاوضات المصرية- الإسرائيلية وأطل من موقعه على موازين القوى، ماذا يقول أو لا يقول، وأنتَ تعرف أن النخب الغربية في أغلبها تذهب مع أوين فيما ذهب إليه».

«ثم لا تنسَ أن العالم ينظر إلى النتائج السياسية لأي حرب والباقي كله معروف».

الاستنتاج في محله ويستدعي مقاربة أخرى لقصة الحرب بكل تضحياتها وبطولاتها وما أحاط بها من تساؤلات جوهرية حول الإدارة السياسية لإنجاز السلاح.

الوثائق ولا شيء آخر غيرها هي التي تنصف بطولة وتضحيات الرجال في حرب تشرين الأول/ أكتوبر.

* كاتب صحفي مصري

المصدر: الشروق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.