د. عبد الناصر سكرية
أثار حضور آلاف اللبنانيين حفلاً غنائياً للمطرب عمرو دياب، حفيظة الكثيرين لأسباب متنوعة، منهم من توقف عند الأسعار المرتفعة للبطاقات في الوقت الذي يعاني اللبنانيون أزمات معيشية خانقة جداً، ومنهم من توقف عند حيثيات التنظيم والحضور بحيث طلب المنظمون من المشتركين الحضور قبل أربع ساعات وبلباس أبيض وقوفاً طوال الوقت وهذا ما حصل.
وتوقف آخرون عند مشهد إندفاع عشرات الآلاف لحضور حفل غنائي ودفع مبالغ كبيرة، في حين لا يشارك في أية مناسبة وطنية- إنسانية كما في المشاركة الرمزية مع أهالي ضحايا تفجير مرفأ بيروت في ذكراه الثالثة، إلا بضع عشرات أو يكاد علماً أنها لا تكلفهم شيئاً!
جميع تلك الملاحظات صائبة بشكل أو بآخر، قليلون من أثاروا مسألة الذوق الفني ومستواه، فيما نرى أن المأزق يكمن في هذه النقطة بالذات؛ صحيح أن الذوق الفني يتغير من جيل إلى جيل.
عمرو دياب ليس عبدالحليم حافظ مثلاً، وذواقو عمرو دياب غالبيتهم الساحقة من الأجيال الشابة المعاصرة ممن لا تزيد أعمارهم عن الأربعين، وحتى يبقى التغير الذوقي في سياقه الموضوعي والمنطقي، ينبغي أن تتوفر دائماً للفن سمة الأصالة إلى جانب المعاصرة أو الحداثة، فالأصالة تجعل الفن قريباً وملتصقاً بأحوال المجتمع معبراً عن هموم الناس وتطلعاتهم ومشاعرهم الحقيقية في كل جوانب الحياة، بغير هذا يتحول الفن إلى تسلية وتكسُب وتلاعب بالأذواق والمشاعر إلى جانب الخلفية التجارية والأهداف الخبيثة المغلفة بالفن والمسوقة بإسمه وتحت عباءته، وهذا ما يبدو أنه حاصل منذ عقود أربعة في مستوى الفن في بلادنا من أول الغناء إلى آخر التمثيل.
للمسألة وجهان: الأول؛ تسخيف الفن وتفريغه من مضمون إنساني حقيقي ومن رسالة ثقافية- أخلاقية تلائم قيم المجتمع الأصيلة، وتساهم في تعزيز مناعته ودفع جهوده التنموية إلى الأمام.
والثاني؛ تسخيف عقول الشباب واهتماماتهم ودفعها باتجاه السلبية والفردية والأنانية واللامبالاة ودفعهم في مزالق العقل الاستهلاكي الذاتي النفعي، بما يعني كل هذا من التخلي عن قيم الأصالة والإنتماء والهوية، وصناعة نجوم وتكبيرها عبر الإعلام وتحويلها إلى مُثل عليا ورموز وهم على ما هم عليه من التفاهة والفساد والانحلال، بعد تشويه صورة وسيرة رموز الأمة الشرفاء الأبطال الذين من المفترض أن يشكلوا قدوة ومُثلاً عليا للشباب.
لماذا يتم هذا ومن يتولاه ليصبح واقعاً حياً يعيشه الملايين وكأنه نابع من ذاتهم وليس سمة فوقية سطحية تُفرض عليهم أو تسوقهم سوقاً كالقطيع؟
مرة أخرى إنه نظام العولمة الرأسمالية المادية الفردية الاستهلاكية وما تفعله من تخريب في العقول وصولاً إلى تسطيحها وتسخيف التفكير والاهتمام.
إن ثقافة العولمة بحد ذاتها تعتمد على نشر التفاهة وإبعاد الشباب عن الجدية لما لها من مصالح مادية تستهدف هذا وتعمل عليه، فهي أصلاً ثقافة استهلاكية ونفعية فردية مظهرية، بحيث تؤدي إلى تغليب المظاهر والشكليات على المضمون وعلى حسابه أيضاً.
وإذا أضيفت إليها الدوافع العدائية تجاه مقومات أمتنا الحضارية الأخلاقية الإنسانية ، وتجاه قيمنا ورسالتنا وتطلعاتنا النهضوية التحررية التقدمية، فإن ثقافة العولمة ومن ينشرها، تستهدف أجيالنا وعقولهم واهتماماتهم، فتعمل على تحميلهم بكل ما هو سطحي غير مؤهل لدور الطليعة أو التفاعل مع المحيط الاجتماعي بإيجابية بل تدفعهم دفعاً إلى سلبية مفرطة في ذاتيتها ومعاييرها الأنانية المصلحية.
وقد انتشرت هذه الظواهر في الفن منذ أواسط سبعينات القرن العشرين ثم تصاعدت حتى استفحلت منذ بداية القرن الواحد والعشرين ولا تزال تستوعب المزيد من الشباب وتُغرقهم في متاهاتها ولا مبالاتها.
وبات الفن يستخدم لإشاعة معايير الانحطاط الثقافي والأخلاقي والتفكك الأسري والاجتماعي، ومعها انحطاط الذوق الفني ذاته، فأغرقت الواجهات الفنية بالمسلسلات والأفلام والبرامج التلفزيونية ( والمغنيات والمغنين)، المنحطة والتي تحض على الانحطاط والفساد والرذيلة حتى وصلت الأمور أخيراً إلى محاولات تشريع وتقنين الشذوذ وكل أنواع الفساد الأخلاقي.
لم يكن هذا عبثاً، وهو لن يتوقف فتستثمره وتشكله قوى عالمية رأسمالية ذات إمكانيات مالية وإعلامية مرعبة وذات أهداف تدميرية خبيثة، يكفي أن نعرف أن كل وسائل الإعلام المحلية والعالمية ما هي ألا ضمن ممتلكات تلك القوى الرأسمالية المفترسة والعملاقة، ومعها كل وسائل “التواصل الاجتماعي” والأنترنت.
تبقى مسألة عدم التجاوب من قبل الناس وخصوصاً الشباب، مع المناسبات الوطنية التضامنية أو المعبرة عن غضب شعبي أو رفض للواقع الراهن، فتلك ظاهرة لها أسبابها وخلفياتها المزمنة وفي مقدمتها فشل الأحزاب والنقابات والإحباط الذي أصاب الناس من جراء كذب ونفاق ومتاجرة الكثيرين ممن تصدوا لمطالب التغيير والثورة وارتهان أعداد منهم لقوى النفوذ الأجنبي ورضوخهم لتدخلاتها وما ظاهرة نواب “التغيير” إلا دليل عملي على ذلك.
كل هذا يتصل مباشرة بالوضع الوطني كله وانهيار الدولة وفساد نظامها السياسي وفشله التام، كما يتصل بكل نظام التربية المفقود وأنظمة التعليم المنهارة والمتحولة إلى تكسب وتجارة من جهة أو إلى وسيلة إضافية لتعزيز التفاهة والعقل الإستهلاكي والمنهج الفاسد في معالجة مشكلات الحياة وشؤونها، فضلاً عن الخوف والقلق والتوتر، الأمر الذي يطرح مصير الوطن برمته ومستقبل أبنائه المهدد بالانهيار التام والتفكك والانحلال!
مع حق كل إنسان في أن يحب من يريد من الفنانين فليست هي المشكلة بحد ذاتها، بل هي مشكلة مستقبل ومصير وهوية وطن وأجيال وشعب إن كان هناك بعد في لبنان شعب، أما أسلوب الضبط والتنظيم فلا يخرج عن نهج سياسة القطيع وتحويل البشر إلى روبوتات آلية تؤمر فتلتزم وتنفذ.
ولربما كانت تلك الحفلة- الظاهرة تنفيساً عن احتقانات نفسية وقلق على المصير تتحمل مسؤوليته السلطة الحاكمة الفاسدة.