الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

حنظلة: ناجي العلي مشهراً ريشته

مروة صلاح متولي *

ترك ناجي العلي فناً حياً لا يُنسى ولا يُمحى أثره، فهو فن يعيش على الأرض ويمشي بين الناس، ولا يعد ناجي العلي من عباقرة فن الكاريكاتير الفلسطيني والعربي فحسب، بل إنه من أعظم رسامي الكاريكاتير في العالم، وأحد أعمدته ومدارسه المهمة. كان ناجي العلي الذي عاش في الفترة من سنة 1937 وحتى سنة 1987، شاهداً على المأساة في حقبة معينة من تاريخها الممتد، لا مأساة فلسطين وحدها، وإنما مأساتنا جميعاً في هذه البقعة المنكوبة من العالم. نظر ناجي العلي إلى قلب المأساة، وتوجه إلى الهدف مباشرة، ووضع يده على مواطن العلة والداء، وحمل عبئاً فادحاً طوال عمره، ولم تكن حياته سوى معركة طويلة انتهت بمقتله في لندن، حيث جعل من فنه ضميراً يقظاً يراقب كل شيء، وكان دائماً قريباً إلى الشعوب ككتاب مفتوح، لم يعرف الغموض ورسم ما لا يفهمه عموم الناس، أو ما لا يحبون النظر إليه، كان نوراً ساطعاً يزعج من يريدون للظلام أن يسود ويخيم، وكما كان ينفذ إلى أعماق السياسة والحقيقة والواقع، كان ينفذ إلى أعماق الفن أيضاً، ويبلغ به الذرى الشاهقة، وهو الفنان الفطري عصامي التكوين، الذي لم يذهب إلى مدارس الفن وجامعاته.

هو مبدع حنظلة، أو هو حنظلة، ذلك الطفل الفلسطيني الصغير المحبب إلى نفوسنا، والذي يمّكننا من فهم الكثير عن معاناة هذا الفنان، ومعاناة الشخصية الفلسطينية بشكل عام. لا تخطئ العين رسوم ناجي العلي، بأفكارها المؤثرة الواضحة التي لا مواربة ولا التباس فيها، وفرادة الخطوط والأشكال والنسب، وقوة الإيحاء والرمز والمبالغة. كان ناجي العلي يُشهر ريشته في وجه العدو الصهيوني، وفي وجه كل عدو آخر للشعوب العربية، أياً كان هذا العدو، لم يهادن يوماً ولم يستسلم حتى النهاية، حتى الشعوب التي كان يدافع عنها ويحمل همومها، لم يهادنها أو يداهنها وينافقها رغم بؤسها، فكان في كثير من الأحيان يضغط على جروحها المفتوحة الملوثة، وأسقامها المتوطنة فيها، وعلى رأسها الضياع والتشتت بعيداً عن الهدف والمرمى، كان ناقداً للشعوب أيضاً، ولم يتخذ من التباكي عليها سبيلاً إلى المجد المتوهم والبطولة المزيفة. لم يمت ناجي العلي بعد اغتياله، فهو شهيد حي يرزق عند الله، وفنان حي خالد في دنيانا.

بين الكاريكاتير والفن التشكيلي:

لم يدرس ناجي العلي الفن بشكل أكاديمي، لكنه صار أستاذاً من أساتذته، ومثالاً من أمثلته السامية، فقد كان هذا الفنان الفلسطيني من أصحاب المواهب الكبرى، والمنح والهبات الربانية، التي لا تعطى إلا للقليل من البشر وعلى فترات زمنية متباعدة كما يبدو. يتميز ناجي العلي كثيراً عن أي فنان كاريكاتير آخر، ونجد أنه لم يبدأ مشواره الفني برسم الكاريكاتير، وإنما بدأ بالرسم عموماً كأي فنان تشكيلي، يرسم لوحاته التعبيرية أو الرمزية، وإلى ما هنالك من أنواع فنية، ثم اهتدى أو اهتدت به موهبته إلى فن الكاريكاتير، الذي أتاح له قول ما يريد قوله، وإطلاق صرخاته كما يشاء. وفي هذا الفن وجد أخيراً المسرح الذي كان يبحث عنه، ووسيلة التواصل مع الجماهير. والكاريكاتير ليس فن المبالغة وحسب، ولا يقتصر الأمر على رسم الأنوف الضخمة والعيون الجاحظة، بل إن فن الكاريكاتير أكبر وأعمق وأهم من كل ذلك بكثير، فهو فن الوعي الحاد كما يثبت لنا ناجي العلي، فإن فنان الكاريكاتير لا يرى الأشياء والأمور والأشخاص والأحداث، كما يراها الشخص العادي أو الكاتب، أو حتى الفنان التشكيلي الذي لا يبتعد كثيراً عن رسام الكاريكاتير، ويشترك معه في أغلب وسائل التعبير. وكان ناجي العلي متفوقاً في هذه الرؤية المختلفة، بذهنه المتوقد وانفعاله القوي وبصيرته النافذة، وقد يشعر المرء أحياناً أن بعض لوحاته أقرب إلى التشكيل من الكاريكاتير، وهي لوحات قليلة على كل حال، لكنها تظهر أسلوبه كرسام عموماً، من حيث التكوين ومساحات الخيال في اللوحة، ولا يعني هذا أن على رسام الكاريكاتير أن يقترب من الفن التشكيلي، لكي يصل إلى الكمال، أو أن ناجي العلي كان يخرج عن قواعد فن الكاريكاتير، بل كان ملتزماً بقواعد هذا الفن مراعياً لأصوله، وما كان يحدث هو على الأرجح لحظات تلقائية، ينطلق فيها التعبير هادئاً بما يشبه صلاة تأملية في محراب الفن، واستراحة قصيرة يسترخي فيها المحارب قليلاً. كما أن هذه اللوحات تعبر عن أحاسيس لا تحتمل السخرية والنقد، كمشاعر الحب الخالص تجاه الوطن بعيداً عن كل آلامه ومشكلاته. وبشكل عام تؤكد لوحات ناجي العلي مدى رحابة فن الكاريكاتير، الذي يستطيع أن يضم ألواناً أخرى من التعبير، كالدراما والرمز والحوار البصري، والكتابات الموحية وغيرها من الأمور، وهذا الفن الساخر هو في جوهره فن شديد الجدية، يقول فكرته بأسلوب لا يملكه سواه، ويرتبط الكاريكاتير، سواء كان يومياً أو أسبوعياً، بالأحداث والتعليق عليها، ومنها الأحداث الطازجة المستجدة، والأحداث المستمرة والمشكلات المزمنة، وهو من أسرع الفنون وصولاً إلى الجماهير، والأقل وقتاً في عملية التلقي، والأقوى أثراً إذا كان مبدعه ماهراً. فضربة واحدة من ضربات ريشة ناجي العلي، كانت كفيلة بإحداث الاضطرابات والهزات وردود الفعل العنيفة، ورغم ذلك لم ينتزع ناجي العلي فن الكاريكاتير من جذوره، ليحوله إلى خطبة سياسية ومنشورات ثورية، لكنه ثبّت جذور هذا الفن وأقام أركانه، وجعله مزهراً مثمراً يعيش أزهى عصوره.

فلسطين هي بلا شك الموضوع الأول والأخير عند ناجي العلي، وهي حاضرة على الدوام بشكل مباشر أو غير مباشر في جميع لوحاته، حتى التي كان يرسمها عن بلدان أخرى كلبنان مثلاً، وهو من عاش لسنوات في مخيم عين الحلوة، ورسم بعض الأهوال التي عاينها هناك في لبنان، وبعض المجازر الرهيبة كمجزرة صبرا وشاتيلا على سبيل المثال، كما كان لمصر نصيبها من لوحاته، ومعظمها لوحات حزينة مؤسية للغاية، كتلك اللوحة التي نرى فيها قضبان الزنزانة على أهرامات الجيزة. وفي عالم ناجي العلي الفني، تتعدد المفردات والعناصر والشخوص، فهناك فلسطين باسمها وعلمها ورمزها وإيحائها، ورجالها ونسائها وأطفالها، ومقاوميها وشهدائها، وهناك العدو الإسرائيلي والصهاينة من كل مكان، سواء كانوا إسرائيليين أو أمريكيين أو عرباً، وهناك نجمة العلم الصهيوني التي تعد رمزاً مهماً عند ناجي العلي، وهناك الجنود الصهاينة بخوذاتهم الضخمة وواقياتهم السميكة وأسلحتهم الكثيرة، وكان يصور وجوه الجنود الصهاينة على هيئة غريبة، هي أقرب إلى وجوه الجوارح من الطيور، فالأنف كبير كمنقار مدبب يغطي معظم الوجه، ولا ظهور للفم والذقن تقريباً، والعينان دائريتان يختفي جزء كبير منهما تحت الخوذة المرسوم عليها النجمة الصهيونية، وتبدو خطوط الجسد مرتخية، للتعبير عن الرعب الذي يسيطر عليهم، وارتعادهم أمام حنظلة، هذا الطفل الفلسطيني الصغير عندما يحمل علم فلسطين في يد، ويلقمهم حجراً باليد الأخرى، ويكون الجندي الصهيوني مذعوراً أيضاً حتى من خيالات دماء الشهداء. أما وجوه الشعوب العربية المقهورة فعادة ما كان يجعلها متعبة مكدودة، إذ يتخذ تكوين الرأس شكلاً أقرب إلى شكل الجمجمة، فيكون الجزء الأعلى عريضاً وباقي الوجه مسحوباً بضعف نحو الأسفل. ولناجي العلي عالمه الخاص وأجواؤه الفنية المتفردة، وأسلوبه في رسم الخطوط والزوايا وتقسيم اللوحة، وكذلك في توظيف التكوينات والظلال والأضواء، ومبالغاته في تصوير الشخوص، وكما نجد عنده العدو الصهيوني والشعوب العربية، نجد الحكام والمسؤولين أصحاب السلطة والقرار في بلادنا العربية، والأقوياء الفاسدين المفسدين، وكان يصورهم على هيئة كتل شحمية ضخمة، تتدلى ذقونهم متهدلة مترهلة على رقابهم وأعلى صدورهم، وعادة يكونون في مجموعات ولا يكونون فرادى، وكان يرسم وجوههم في بعض الأحيان مقلوبة، ولا يبدو الفرق كبيراً بين الشكل الأصلي والشكل المقلوب بسبب كثرة شحوم الوجه وتغضناته، وكانت التوابيت وبراميل النفط من العناصر المتكررة أيضاً في رسوماته، وكما كان يضع قضبان الزنزانة على الأهرامات، كان يضعها أحياناً داخل عيون البشر مع اختفاء الحدقة.

حنظلة أو الذات الأخرى:

قطع ناجي العلي بضع خطوات في طريقه الفني بلا حنظلة، ويمكن تقسيم أعماله إلى مرحلتين، مرحلة ما قبل حنظلة، ومرحلة حنظلة التي استمرت حتى النهاية، فمنذ أن التقى الفنان بشخصيته الخيالية لم يفترق عنها أبداً، ومنذ أن أتى ذلك الطفل الصغير إلى لوحاته، اكتمل ناجي العلي فنياً وتضاعف ألقه ووهجه، ورسخت علامته المميزة، واتضح أسلوبه الفني على أروع ما يكون. من المعتاد أن نجد لدى فناني الكاريكاتير شخصية أو مجموعة من الشخصيات، التي يتكرر حضورها في أعمالهم، وقد تحظى هذه الشخصيات بقدر من الشهرة وتُعرف أسماؤها لدى عموم الناس، لكن حنظلة يبقى متفرداً ومختلفاً عن أي شخصية كاريكاتيرية أخرى، ومن أهم الفروقات بين شخصية حنظلة في رسوم ناجي العلي، وأي شخصية في رسوم الفنانين الآخرين، هو أن حنظلة ليس شخصية مسطحة، أو مجرد نمط منحصر في صفة إنسانية معينة، كالمغرور أو الحاقد أو المؤذي مثلاً، وإنما حنظلة شخصية درامية لها ماضيها وأبعادها النفسية، وحاضرها المستمر، الذي لا يزال واقعاً في حبائل العقدة الدرامية، وتشابكاتها التي لم تعرف الحل بعد. كما أن حنظلة شخصية تحيط بها أسطورتها الخاصة، الخارقة للعادة والخارجة عن الطبيعي والمألوف، فهو طفل لم يكبر، اختلت عنده حركة الزمن وتوقفت قوانين الطبيعة، انتزع حنظلة من أرضه وهو في العاشرة من عمره، كشجرة اقتلعت من تربتها، ولم تستطع أن تنغرس في أي تربة أخرى، تماماً كما اقتلع وانتزع ناجي العلي من أرضه في قرية الشجرة، وأُخرج مع أسرته من فلسطين سنة 1948، وكان حينذاك طفلاً في سن العاشرة، ليعرف حياة المخيمات، ويبدأ رحلة السفر والتجوال والاغتراب في بلاد الله. لم يعد ناجي العلي إلى فلسطين، ولم يدفن في ترابها كما كان يتمنى، بل مات غريباً ودفن غريباً في لندن، ربما كان يعرف أنه لن يعود إلى فلسطين، فأوقف الزمن على حنظلة وأدام طفولته وعامه العاشر إلى أمد غير معلوم، وهو ما لم يستطع أن يفعله في الواقع لنفسه، فصنعه بالخيال على اللوحات البيضاء، وجعل حنظلة يظل طفلاً إلى أن تعود فلسطين ويعود إليها فينغرس فيها من جديد، وينمو ويكبر بشكل طبيعي متناغم مع الحياة. تبدو هذه الفكرة الفنية التي لجأ إليها ناجي العلي كرغبة عميقة في تحقيق العدل المنشود، أن يعود المهجَّر إلى أرضه، وأن يعود المقتول إلى الحياة، وأن يحظى من ضاع عمره بعمر جديد، وأن يحصل من فقد فرصته في الحياة على فرصة أخرى.

في حوار تلفزيوني ورداً على سؤال حول شخصية حنظلة، يقول ناجي العلي: «هذا أنا» ثم شرح بعد ذلك بعضاً من الأسباب التي دفعته إلى رسم هذه الشخصية، وكيف اتخذت مع الوقت أبعاداً إنسانية شاملة، تتسع بفلسطينيتها لجميع القضايا العادلة في العالم. وأغلب الظن أن ناجي العلي حتى قبل أن يرسم حنظلة ويحضره إلى عالمه الفني، كان يراه أمام عينيه دائماً، ولم يكن يفارق ذهنه وجدانه، وأنه لم يستطع في أي وقت من الأوقات أن يتخطى ألم لحظة الاقتلاع من فلسطين، وانقلاب الحياة مرارة الفقد خصوصاً في هذا السن الصغير، سن العاشرة، فهو يدرك ما يجري من حوله ويسمع ويفهم الكثير مما يقوله الكبار، لكنه على مدى السنوات التالية سيظل يستعيد ويفسر ما حدث، وكلما كبر شهراً أو عاماً زاد وعيه، واتضح الفهم والرؤية وتجدد الألم، وتعمق الشعور بهول المصيبة وفداحتها. وأغلب الظن أيضاً أن حضور حنظلة كان منقذاً لناجي العلي، وسبباً من أسباب توازنه النفسي والفني، وأنه حرره بشكل من الأشكال، وشاركه في حمل العبء الهائل، وكان رفيقاً مؤنساً حتى آخر لحظات العمر، هذا بالنسبة إلى ناجي العلي، أما حنظلة بالنسبة إلينا، فهو خلاصة الضمير الحي، ومرآة صافية ننظر إلى أنفسنا من خلالها ونتفقد ضمائرنا.

قبل أن يرسم ناجي العلي حنظلة على الأوراق، أبدعه في خياله كشخصية درامية، رمزية إلى حد بعيد، وتكاد تكون واقعية نظراً لما فيها من حياة ويقظة ووعي بكل شيء، وقد أطلق ناجي العلي على حنظلة هذا الاسم الذي له وقعه ودلالاته، فهو اسم عربي، ولا يحتمل إلا أن يكون عربياً، وهو اسم قليل الوجود وغير متداول بكثرة، والمرارة هي أول ما يتبادر إلى ذهن من يسمع هذا الاسم، وهكذا كان حنظلة ولا يزال، مراً يستعصي على البلع، تقف أشواكه في حلوق الأعداء والخونة والطغاة، لكنه كان ولا يزال في الوقت نفسه حلواً ومحبباً إلى الشعوب وقريباً إلى قلوبهم، يذوقون معه المر، ويعرفون أنه يقف في وجه من يمرر عيشهم، والمسؤولين عن كل هذا المرار، ومن هنا تأتي حلاوته. لكن كيف رسم ناجي العلي حنظلة وعلى أي هيئة صوره؟ وهل أراد أن يرسم طفلاً صغيراً يثير العطف في القلوب والدموع في العيون؟ والحق أن من يتأمل صورة حنظلة في رسوم ناجي العلي يجده كبيراً رغم طفولته، قوياً رغم ضآلة حجمه، إذ جعله راسمه مخيفاً للجبابرة مزعزعاً لنفوسهم، رغم أنه لا يملك شيئاً وهو في الغالب يواجههم وحده منفرداً، لا تقف من خلفه الجموع ولا يوجد من يسانده. والغريب أننا نعرف حنظلة تمام المعرفة ونشعر بمدى قربه منا، على الرغم من أننا لم نر وجهه أبداً، لأنه يدير ظهره إلينا طوال الوقت ولا يلتفت إلى الوراء. فهو مشغول بالتطلع إلى فلسطين وتأمل أحوالها وأحوال أمته العربية وواقعه العالمي، وكل ما يؤثر في وجوده ومصيره. رسم ناجي العلي حنظلة على هيئة طفل صغير حافي القدمين، لكن القدمين كبيرتان نسبياً بالنظر إلى دقة الساقين ونحافتهما وصغر حجم الجسم بشكل عام، يرتدي حنظلة سروالاً واسعاً إلى حد ما، وقصيراً يكشف عن الجزء الأسفل من الساقين، أما الرأس فتبدو كبيرة ودائرية كقرص الشمس تقريباً مع عدم ظهور الرقبة، إذ تتلاصق الرأس مع الأكتاف والظهر مباشرة، وفي الرأس تبدو بعض الشعيرات القليلة النابتة بشكل مستقيم، كأشواك منغرسة في رأس وعقل هذا الطفل الصغير، وقد تبدو للبعض كالأشعة الصادرة عن قرص الشمس. ولذراعي حنظلة ويديه المعقودتين خلف ظهره دائماً دلالاتهما البليغة، وكذلك تلك الرقعة في ثوبه التي تظهر على كتفه الأيمن. يقف حنظلة وقفة لا يقفها الأطفال عادة، فهي وقفة الرجال الكبار أو الشيوخ الذين يحملون الهموم، ويواجهون المصائب ويتصدون للجسام من الأمور، وقد يعبر عقد اليدين إلى الوراء عن القيد وانعدام الحرية والقهر المتسلط على الشعوب العربية، كما أنها وقفة المتأمل المراقب بدقة لكل ما يجري ويقع من أحداث. كما أن وجود حنظلة على هذا الوضع في لوحات ناجي العلي، يجعلنا نحن المتلقين أو الواقفين وراءه نرى الأمور من منظوره، ونتلقى الأحداث من خلال عقل وشعور هذا الطفل الفلسطيني الصغير. بالإضافة إلى كون حنظلة شخصية كاريكاتيرية شديدة التميز، فإنه كذلك شخصية مسرحية لا ينقصها أي من العناصر الدرامية، ولعل في حديث ناجي العلي ما يفسر ذلك، إذ يقول في حوار تلفزيوني أنه كان يتطلع إلى المسرح منذ البداية، ويرغب في أن يكون مسرحياً، وقام بالفعل بعدة محاولات في التأليف والإخراج المسرحي، لكنه كان صغيراً لا يزال يتلمس مواهبه ويكتشف طريقه، وكان يلازمه الشعور بالحاجة إلى مسرح يطلق من خلاله صرخاته ويصله بالجمهور، ثم وجد أن الرسم ورسم الكاريكاتير على وجه الخصوص في الجرائد اليومية، هو مسرحه الذي يقف على خشبته ويطل على الجمهور من خلاله، ويكون على اتصال دائم بالناس في كل يوم. كان ناجي العلي يعمل في الصحف اليومية، وأحياناً كان يرسم لأكثر من صحيفة في الوقت نفسه، ولنا أن نتخيل كمّ ما رسمه من لوحات، لذا من الصعب الاطلاع على منجزه الفني كاملاً، لكن من خلال معاينة وتأمل ما هو متاح من رسوماته، ورسومات مرحلة حنظلة على وجه التحديد، نجد أن حنظلة في بعض الأحيان كان يتخلى عن وضعه الأيقوني الثابت في معظم اللوحات، فيفك عقدة يديه ويقذف حجراً على نجمة العلم الصهيوني مثلاً، ويرفع قدماً من قدميه الحافيتين لتساعده على دفع الجسد، ورمي الحجر بقوة وإيصاله إلى أبعد مدى. وأحياناً كان يتعرض شكل حنظلة إلى بعض التغييرات أو الإضافات الطفيفة، كأن يضع الشال الفلسطيني فوق كتفيه، أو أن نجد أجزاء من ثيابه وقد اسودت بفعل دخان الانفجارات، وهو واقف يتطلع إلى الحطام المشتعل، وقد تحتضنه امرأة جريحة، وقد يمسك وردة يهديها إلى أحد الأشخاص، أو يحمل علم فلسطين، أو يفرد شاله الفلسطيني ليغطي به شهيداً مسجى. وأحياناً كان حنظلة يترك مكانه في مقدمة اللوحة ويدخل إلى عمقها، كما في واحدة من أجمل لوحات ناجي العلي وأشدها إيلاماً في الوقت نفسه، لوحة بليغة رسمها منذ زمن بحسه الفني الدقيق، ووعيه الحاد وروحه الشفافة، وعمق قراءته للأمور ومآلاتها الوخيمة. هي تلك اللوحة التي تظهر فيها أهرامات الجيزة تحت سماء سوداء في أعلى يمين اللوحة، وإلى جوارها يقف فلاح مصري يحمل فأسه فوق كتفه، وقد ترك حنظلة مكانه في المقدمة ودخل إلى عمق اللوحة ليقترب من هذا الفلاح بقوة، بينما تحتل المساحة الهائلة في اللوحة أرض مصر، التي جفت وتشققت عطشاً، وأخذت هذه التشققات ترسم أشكالاً وخطوطاً، ومن هذه الخطوط تشكلت النجمة الصهيونية في منتصف اللوحة بصورة مرعبة.

كلمات ناجي العلي المرسومة:

يعتمد التعبير في فن الكاريكاتير على الرسوم والأشكال بطبيعة الحال، ويعتمد أيضاً على الكلمات كلما تطلب الأمر ودعت الحاجة إلى ذلك، وهكذا يملك فنان الكاريكاتير وسيلتين من أقوى وسائل التعبير، هما الرسم والكلمات، ويمسك بالريشة والقلم في الوقت نفسه، أو يحول الريشة إلى قلم وقتما يشاء. وهكذا كان ناجي العلي، يخط كلماته التي نقرأها مرسومة فوق لوحاته، فتكشف لنا عن المزيد من فكره وإبداعه، ونجد أن توظيفه للكلمات كان متنوعاً إلى درجة كبيرة، فهناك العبارات القصيرة المختصرة، المركزة والمكثفة في معانيها والأقرب إلى الحكم والأمثال وربما الشعارات، وهناك الفكاهات والنكات والقفشات الساخرة اللاذعة للغاية، وهناك الحوارات بين شخصين، أو أكثر من شخصية. وهناك بعض الجمل التي تبدو كتعليق على الصورة أو الحدث، وهناك الاستخدام المتكرر لكلمة واحدة أو كلمتين، كما أن للأرقام وجودها أيضاً في لوحاته، وهي أرقام دالة، ربما لأنها ترتبط ببعض القرارات أو التواريخ المهمة. ومن أشهر الجمل التي كان ناجي العلي يخطها بيده في أعماله، ونطالعها في أكثر من لوحة، جملة «لا لكاتم الصوت» وللمفارقة المأساوية أن ناجي العلي تم اغتياله في لندن سنة 1987 بواسطة مسدس كاتم للصوت، فقد كان يقول لا للأداة التي سوف تقتله في يوم من الأيام، كان يقول لا لموته هو. بالطبع كانت هذه الجملة ترافق رسما لمسدس كاتم للصوت على أكثر من طريقة وبأشكال مختلفة، وفي بعض الأحيان كان يرسم مسدساً عادياً ويكتب «لا للاغتيالات السياسية» وكثيراً ما نقرأ شعار «الشرطة في خدمة الشعب» مكتوباً على لوحاته التي رسمها عن مصر، ومن أقواله أيضاً «كل مواطن متهم حتى تثبت إدانته» و«من راقب الأنظمة مات هماً» و«إذا كانت الأنظمة لا بترحم، ولا بتخلي رحمة الله تنزل، فما هو الحل؟».

وفي لوحة يظهر فيها رجل على اليمين يحمل لافتة مكتوب عليها ذكرى معركة حطين، وعلى اليسار يقف بعض المسؤولين العرب، فيقول الرجل «لو كان صلاح الدين عايش كانوا اغتالوه» ويكون حنظلة في مقدمة هذه اللوحات بالطبع وشاهداً على كل شيء. وفي لوحة أخرى نرى رجلاً يرتدي ملابس الإحرام، ويرفع يديه إلى السماء قائلاً: «سامحني يا رب، كنت مجنون، كنت أهبل، كنت أصفق لما يقولوا بدهم يحرروا فلسطين، كنت أثق بكلامهم، التوبة يا رب، التوبة التوبة التوبة».

ونلاحظ أن ناجي العلي كان يقوم أحياناً بتكرار بعض الكلمات ويملأ بها اللوحة البيضاء، ويستطيع من يرى هذه الكلمات أن يتخيل مدى وحجم الانفعال الذي كان مسيطراً عليه، وهو جالس يخط هذه الكلمات ويكررها مئات المرات، ومثال ذلك لوحة كتب عليها عدداً هائلاً من أسماء البلدان والمدن والقرى العربية، ومن بينها اسم قريته قرية الشجرة، التي ولد وعاش فيها عشر سنوات من عمره وفارقها قسراً، ولم يعد إليها أبداً ولم يحتضنه ترابها بعد موته. وتحت وطأة هذا الانفعال كان طبيعياً أن يشعر بالحاجة إلى السب واللعن، فكان يقوم بتحوير الشتيمة بحيث يصل المعنى إلى المتلقي، ويستطيع أن يفلت من الرقابة وينشر لوحاته في الجريدة، ومثال ذلك استخدامه لتعبير «ابن كمب» وبعض التعبيرات الأخرى. وكان ناجي العلي يلعب بالكلمات الأجنبية أحياناً، سواء كتبها بالحروف العربية أو بالحروف اللاتينية، كما في لوحة ينظر فيها رجل كبير إلى مروحية عسكرية، ويقول كل من عليها فان. وكذلك في لوحة يخاطب فيها رجل فلسطيني صحافياً أجنبياً، ويقول له: «بتسألني إذا أنا مسلم أو مسيحي؟ سني أو شيعي؟ أما سؤال بارد صحيح، مش فهمتك من الأول يا أخو الـ … إني poor ابن poor. وفي لوحة من لوحاته نجد عبارة «كامل التراب الوطني» مكررة لعشرات المرات أيضاً وقد امتلأت بها اللوحة، وكذلك عبارة «فلسطين بلادنا مش بس الضفة وغزة». ومن الكلمات المفردة كلمة «الثورة» وكلمة «الصبر» بالإضافة إلى كلمات مثل «الديمقراطية» وكلمة «لا» المكررة لمئات المرات في إحدى لوحاته. وأحياناً كان يجعل حنظلة يتحدث مع بعض الشخصيات الأخرى، كما في تلك اللوحة التي يتحدث فيها مع أحد الكتاب ويقول له: «مقالك اليوم عن الديمقراطية عجبني كتير، شو عم تكتب لبكرة؟» فيرد الكاتب قائلاً: «عم بكتب وصيتي». وعندما يرى حنظلة رجلاً يحمل لافتة مكتوب عليها «الناس على دين ملوكهم» يقول: «نحنا ملحدين» ويقول حنظلة في إحدى اللوحات لشيخ الأزهر «اصحى يا نايم وحد الدايم» وهو يضع أمام بيته جريدة، تدور عناوينها الرئيسية حول ما يجري للمسجد الأقصى. ومن تعبيرات ناجي العلي البليغة تعبير «اقتتال الفقراء» الذي يظهر في لوحة تضم برميلاً للقمامة يتصارع عليه رجلان، ويقول أحدهما «هيدي مش مزبلة أبوك» فيرد الآخر: «ولا مزبلة أبوك.. خلينا نعيش وبلاش تعملها طائفية». ومما كتبه أيضاً في لوحة من لوحاته على لسان شهيد يحتضر، إذ يقول هذا الشهيد: «بتعرفي يا فاطمة ليش أنا مبسوط، مش لأني رايح عالجنة، ولا لأني رايح أقابل ربنا، أنا مبسوط بس لأني راح أرتاح من شوفة وجوه هالحكام العرب».

* كاتبة مصرية

المصدر: القدس العربي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.