الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

 لغتنا الجميلة

د. عبد الناصر سكرية

منذ أن أكرم الله لغتنا العربية بالقرآن الكريم وهي تحتل حيزاً هاماً وأساسياً في الرسالة الإيمانية للإسلام وللمسلمين معا، لا يكتمل إيمان أحدهم إلا بتعلم اللغة العربية ولو تلاوة فقط لإتمام مراسم العبادات الدينية وقراءة القرآن في كل مناسبة حياتية أو دينية أو اجتماعية، يشمل هذا جميع المسلمين في العالم وعددهم يتجاوز المليار ونصف المليار إنسان يمتدون على مدى الكرة الارضية كلها حيث لم يعد يخلو بلد فيها من وجود مسلمين من أبنائها مهاجرين إليها أو مجنسين.

واللغة العربية، فضلاً عن كونها لغة القرآن الكريم؛ فهي لغة الهوية القومية للشعب العربي جميعاً في بلاد الوطن العربي الممتد جغرافياً بين المحيط الأطلسي في الغرب والخليج العربي في الشرق، وهي لغة الإنتماء والهوية لكل عربي أينما كان يعيش ويعمل في أية بقعة من العالم، فهي لهذا تعتبر أحد أركان شخصيته الحضارية وهويته القومية التي تميزه عن غيره من الشعوب وتشكل الوعاء الأوحد الذي يحمل ويقي ويحمي تراثه الثقافي والفكري والعلمي والإنساني جميعا، وبالتالي فهي أداته الوحيدة في التواصل والتفاعل مع تاريخه بسلبياته وإيجابياته وفي الحوار المطلوب دائماً لممارسة كل أنواع الجدل الإجتماعي فيما بين أبنائه جميعاً لإتمام عمليات المراجعة والنقد والتقييم لكل ما هو قائم وتاريخي ومستقبلي وصولاً إلى إيجاد الحلول المناسبة للتنمية والتقدم وحل المشكلات الموضوعية التي يعاني منها وتعيق تطوره وتقدمه وفق ما يرسم لذاته من أهداف وغايات، اعتباراً من هذا كله فإن لغتنا العربية هي أحد أبرز مقومات الحفاظ على شخصيتنا القومية وخصوصياتنا الحضارية، ليس هذا فحسب بل صارت تشكل أبرز أدوات العمل المستقل لبناء المستقبل العربي الحر المتقدم، ولهذه الأسباب جميعاً كانت اللغة العربية هدفاً لكل أعداء العروبة؛ هويةً وثقافةً ودعوةً توحيدية وتلاوةً قرآنية إيمانية؛ وفي ذات الوقت هدفاً لكل أعداء الإسلام رسالةً وقيماً أخلاقية وتراثاً إنسانياً جامعاً مانعاً، حتى بات القضاء على اللغة العربية أو إضعافها مطلباً استعمارياً وشعوبياً كجزء من الحرب العالمية الشاملة على كل من العروبة والإسلام مجتمعين ومنفردين، تتخذ الحرب على اللغة العربية أشكالاً متعددة تتكامل أبعادها لتصب في هدف مركزي واحد يتمثل في نفي وجود أمة عربية واحدة ذات تاريخ واحد ولغة واحدة وثقافة واحدة وقيم واحدة وبالتالي ذات مصير واحد لا يستطيع أي جزء منها الإنفلات منه أو بناء مصيره الحر بمعزل عن بقية الأجزاء مهما أمتلك من إمكانيات مادية أو طبيعية أو بشرية، ولعل أبرز تلك الأشكال يتمثل في قطع صلة الشباب العربي والأجيال الشبابية الصاعدة بلغتهم الأم اللغة العربية، وهذا بدوره يتمحور حول عدة وسائل آنية المدى وبعيدة، اصطناع حالة نفسية وشعورية تعّتبِر اللغة العربية لغة معقدة صعبة التعلم والإدراك وغير قادرة على مواكبة العلم والتكنولوجيا وغير صالحة لدراسة العلم وتعلمه بها، الأمر الذي يضع أرضية صالحة ليتقبل الشباب العربي التخلي عنها والإقبال على اللغات الأجنبية بديلاً عنها وليس إلى جانبها، وصل الأمر بكثيرين من هؤلاء الشباب حد اعتبار التحدث بالعربية نقيصة تدعو إلى الخجل فيبتعدون عنها برغبتهم الذاتية النابعة من شعور بالضعف والنقص تجاه اللغات والثقافات الأخرى.

ترافق هذا مع إضعاف المؤسسات التعليمية الرسمية وصعود المدارس والجامعات الخاصة في معظم البلدان العربية؛ لا سيما خلال الخمسين سنة المنصرمة، واعتماد هذه المؤسسات الخاصة على اللغات الأجنبية أولاً وتهميش اللغة العربية وفي أحسن الأحوال التقليل من شأنها وأهميتها ومستواها، فصار التعبير عن الذات تلقائياً باللغة الأجنبية- الإنجليزية تحديداً- وليس باللغة الأم، حتى صار الإنفصال حد القطيعة واضحاً لدى أجيال شبابية كثيرة مع لغتهم الأم، وظهر لدى البعض منهم شيء من التحقير أو أقله الشعور بدونية اللغة العربية فيتفاخرون بتخليهم عنها وامتثالهم لمقتضيات الحديث بالأجنبية.

أدى هذا فيما أدى إليه، إلى أمرين خطيرين يهددان المستقبل العربي دونما أية مبالغة:

الأول: تلك القطيعة بين هذه الأجيال الشبابية مع ثقافتهم العربية وتراثهم الحضاري الفكري والعلمي والإنساني والديني أيضاً، مما جعلهم أسرى الثقافات الغربية والأجنبية وما تحمل من مفاهيم غير ملائمة سياسياً وأخلاقياً واجتماعياً، فقد تسللت القيم السلوكية الغربية- الفردية والمجتمعية- إلى عقول ونفوس وسلوك تلك الأجيال الشبابية؛ نقول تسللت لأنها كانت ولا تزال مندرجة في إطار الثقافة الغربية التي تحتويها اللغات الأجنبية الغربية.

وهذا ما يُساهم بفعالية في ذلك الفساد والتفسخ الأخلاقي لدى الكثيرين في بلادنا والذي بات يشكل ظاهرة ذاتَ باسٍ شديد تحتاج إلى وقفات ومعالجات ومحاصرة، أكثر من هذا باتت المراجع الأجنبية هي بوابة تلك الأجيال للاطلاع على تاريخهم وثقافتهم وتراث أمتهم ومساهماتها العلمية والحضارية والفكرية في صناعة الحضارة الإنسانية والتقدم الإنساني مما أوقعهم ضحايا الرؤية الغربية لامتنا وتراثها وتاريخها، وبالتالي ضحايا مشروعها السياسي المعادي لها ولوحدتها ومصيرها المستقبلي الواحد؛ والمنّكِر لإنجازاتها وعطاءاتها التاريخية في كل مجال، وهكذا تخسر الأمة والمستقبل العربي طاقاته الشبابية تدريجياً مما يجعل الهيمنة على مقدراتها وقرارها ومصيرها يطول لفترات زمنية طويلة.

وهذا هدف مركزي في سياق الحرب الإستعمارية على الوجود العربي والهوية العربية الجامعة الموحدة.

الثاني: انتفاء قدرة تلك الأجيال الشبابية على التواصل والتفاعل والحوار الدائم مع القرآن الكريم وما يدخل في إطاره من فكر وشرح وقياس وتحليل، وهو الأمر الذي ينبغي أن يكون في صلب التكوين الإنساني الفكري والثقافي والأخلاقي للإنسان العربي مسلماً كان أم مسيحياً أم غير ذلك، فهذا يقتضي امتلاك ناصية اللغة العربية بفعالية وجدارة، ولا يمكن إتمامه من خلال اللغات الأجنبية، فحتى المستشرقين يتعلمون اللغة العربية قبل الخوض في دراساتهم وأبحاثهم التاريخية والثقافية.

وليست الخطورة في هذا الإنتفاء معرفية وثقافية فقط ولكنها سلوكية أيضاً؛ فهي أحد مداخل ابتعاد الشباب عن قيم القرآن الأخلاقية- الفردية والمجتمعية- لعدم معرفتهم بها أو وعيهم لأبعادها وأهميتها، وهذا ما يُسهل أيضاً تسلل قيم الغرب الإنفلاتية النفعية المادية الأنانية الاستهلاكية في سلوك أجيال الشباب بديلاً عن قيم الله الأخلاقية الإنسانية النبيلة والتضامنية، وما فيها من توادد وتراحم وتكافل ومعروف وإحسان ليس لها أي مكان أو اعتبار في ثقافة الغرب المادية اللادينية.

وهكذا تتكامل أبعاد الحرب على اللغة العربية مع كل مشروع أجنبي استعماري يعادي أمتنا العربية ومصيرها الواحد ومستقبلها الواعد، فهي ليست حرباً منفصلة أو بريئة كما تحاول أن تُقدم ذاتها على أساس من الضرورة العلمية والتقنية والثقافية.

هذا جانب من جوانب أخرى كثيرة في الحرب على اللغة العربية والتي تتمتع بتميزات لا مثيل لها في أية لغة عالمية أو محلية أخرى، فهي من الجمال والسعة والمرونة والقدرة على التنوع والاشتقاق الذي يمكنها من مواكبة أية تغيرات أو تقنيات أو إضافات قد تحتاج إليها في أي مجال من مجالات العلوم والمعرفة.

وإذا كان النظام الرسمي في بلادنا قد أهمل مسؤولياته تجاه اللغة العربية وترك أمرها للمؤسسات التعليمية الخاصة وما لها من مصالح خاصة أو فئوية أو ارتباطات بالمصالح الأجنبية؛ فإن مسؤولية كبيرة تقع على عاتق كل عربي حر غيور على ثقافته وهويته كما على كل أسرة عربية حريصة على سلوك أبنائها وهويتهم وانتمائهم؛ للانتباه والتمسك بتعلم اللغة العربية كلغة أم أساسية والتخاطب في داخل الأسرة بالعربية فقط فهذا مدخل لحماية الأبناء وتنشئتهم بما يحميهم إنسانياً واجتماعياً وسلوكياً.

وتتحمل مراكز الدراسات والأبحاث والمؤسسات الإعلامية جميعاً، وكل مثقف عربي حر مستقل، مسؤولية كبرى في إدراك أبعاد موضوع اللغة العربية وأهميتها وضرورة مواجهة كل حملة ضدها تهدف إلى الإقلال من شأنها أو تنفير الشباب منها بحجج وذرائع وهمية أو شكلية أو مغرضة.

لغتنا الجميلة وعاء ثقافتنا وهويتنا ومستقبلنا الحر الموحد. فلتكن أداتنا الأولى للحوار والتفاعل والتخاطب وتبادل المعرفة.

المصدر: كل العرب

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.