الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

إلغاء السياسة.. وغلبة الـ”أنا” على الـ”نحن”! 

الفضل شلق *                            

من الطبيعي عند سقوط بضع بنوك أميركية، وربما بداية أزمة مالية- اقتصادية، أن يعود الحديث خاصة لدى اليسار عن أزمة النظام الرأسمالي، وكأن المعني بذلك هو الطبقة الرأسمالية العليا، وكأن النظام الرأسمالي أو النظام العالمي هو نظام هذه الطبقة العليا. الأرجح أنها أزمة الوجود البشري، أزمة تعاطي البشر في ما بينهم أو بالأحرى أزمة العلاقات الإنسانية، وهي ما يفترض أن تشكل جوهر السياسة. 

يعتقد الأميركيون أنهم شعب استثنائي، ويعبرون عن ذلك بأشكال مختلفة، كما اعتقد اليهود على مر تاريخهم أنهم شعب الله المختار. لكن ما يشبه هذا الاعتقاد شائع لدى كل الشعوب. فما من جماعة بشرية إلا وتعتبر أن كونها جماعة يعني أنها ذات وضع خاص بين البشر. 

الخصوصية لدى كل جماعة سواء كانت دينية أو إثنية أو قومية أو حتى دولة تعددية القوميات والأديان والطوائف والإثنيات طريق لاعتبار الذات الجماعية متميزة. كما غلبة الـ”أنا” الفردية على الـ”نحن” الجماعية هناك غلبة اعتبار الـ”نحن” الجماعية على الإنسانية. وتتدفق الايديولوجيات والمعتقدات، بما فيها الأديان، لتبرير هذا التفوّق حتى ولو كان أصحابه مهزومين أمام الغير، والهزيمة يمكن أن تكون مادية عسكرية أو ثقافية روحية. 

المعتاد هو أن يوضع الكائن البشري في جماعة قومية أو دينية منذ أن يولد دون أن يعرف لماذا، أو قبل ذلك. نادراً ما نرى عضواً في جماعة دينية أو قومية يعرف شمائل دينه أو قوميته. هناك دائماً اختصاصيون في كل جماعة دينية أو قومية يعرّفون أقرانهم بما هي عليه الجماعة. 

في الجماعة الطائفية، مثلاً، والطائفة جماعة دينية، تتخذ المعتقدات المميزة للطائفة قدسية، بحيث يستحيل النقاش فيها لمعرفة أسبابها. قليلاً ما نرى أبناء طائفة ما يناقشون معتقداتهم الدينية مع أبناء دين آخر أو طائفة أخرى نقاشاً يكون على نفس المستوى من الصراحة والانفتاح حيث يتحدثون مع بعضهم البعض داخل “جماعتهم”. دائماً تكون التساؤلات بينهم حول أنفسهم غير ما يطرح مع الآخرين حول نفس المواضيع. النقاش العقلاني حول معتقدات الآخرين يعتبر مساً بكرامتهم. بلغ الأمر في بلادنا العربية أن من يتفوّه بما هو غير مناسب قومياً بالنسبة لأصحاب الأمر والنهي يُعتبر في كلامه مهيناً للذات الجماعية ويُعاقب على ذلك. 

تنعكس أزمة الوجود البشري في ما يطرحه الناس على أنفسهم وعلى غيرهم من قضايا يعتبرونها مقدسة بالنسبة إليهم، ويجب أن تكون كذلك بالنسبة لغيرهم. ينتج عن ذلك جماعات مغلقة ومجتمعات يستحيل فيها الانفتاح على الغير. يبقى لكل فريق ما يُضمره ليكون غير ما يُفصح عنه. تنغلق الجماعات على نفسها وتستحيل السياسة؛ وهذه لا تكون إلا بالانفتاح ورحابة الصدر. تقضي السياسة بالانفتاح على “حقائق” الغير والاعتراف بها والتسويات بينها وبين حقائق الذات، وتكريس تنازلات عما نعتقده مقدساً لدينا، أو عن بعضه على الأقل. 

أزمة الوجود البشري هي في استعلاء القضايا (المعتقدات) على ضرورات العيش التي هي أيضاً ضرورات الوجود. هذه الأزمة أساسية في إلغاء السياسة التي يفترض أن تكون علاقات سوية بين الناس قبل أن تصير تنافساً على الزعامة والوجاهة. 

تغلبت السياسة التنافسية على السياسة بمعنى العلاقات السوية بين البشر وألغت نفسها. وتغلبت الـ”أنا” على الـ”نحن”، والـ”نحن” الجماعية على الـ”نحن” الإنسانية، والخصوصية على الإنسانية؛ وفي ذلك تكمن أزمة الوجود البشري.

* مثقف وكاتب لبناني

المصدر: 180 بوست

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.