الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

قمة الأنظمة العربية… قمة التناقضات

رياض معسعس *

ستبقى قمة الأنظمة العربية الثانية والثلاثون في جدة قمة التناقض. ونعطي هنا صفة “جامعة الأنظمة العربية ” لأنها التسمية الصحيحة لـ”لجامعة الدول العربية” لأن هذه الجامعة التي تم تأسيسها بأياد بريطانية في العام 1946 وبهندسة وزير خارجيتها أنتوني إيدن، وكانت التسميات الأولى المقترحة “التحالف العربي” “الاتحاد العربي” “الجامعة العربية”، وانتهى التوافق في قمة الإسكندرية بين الدول السبع المستقلة آنئذ (مصر، سوريا، الأردن، العراق، السعودية، لبنان، اليمن) على أن تكون “جامعة الدول العربية”.

مفهوم الدولة:

وهكذا لم تذكر الشعوب العربية أبدا في التسميات لهذا “التجمع” ومع أن مفهوم الدولة هو (أرض، وشعب، وسلطة)، إلا أن الجامعة وفي قممها لم تحل يوما مشكلات الشعوب العربية (فقر، بطالة، أمية، بنية تحيتة، مواصلات، صحة..) التي هي بالأساس من جراء سياسات وفعل الأنظمة نفسها. مع أن العالم العربي هو ثاني أكبر مساحة في العالم بعد روسيا، وفيه من الثروات المختلفة ما تجعل من الشعوب العربية أكثر الشعوب المرفهة في العالم. لكن الشعوب العربية التي لم تعد تعاني من الاستعمار بعد أن ناضلت ودفعت الدماء لتحقيق الاستقلال، اليوم تعاني من هذه الأنظمة العربية وتبحث عن الحرية والكرامة والديمقراطية والعيش الكريم، بعد أن أصبح العربي مطلوبا أمنيا من أجهزة الأنظمة التي لا تبحث سوى عن استمراريتها بشتى الوسائل حتى لو كلفها ذلك توجيه فوهات المدافع إلى شعوبها المنتفضة ضدها، أو تكديس المعارضين لها في السجون والمعتقلات.

وقد وصل الأمر بالشعوب العربية (عدا دول الخليح)، حتى التي كانت يوما مزدهرة كلبنان وسوريا والعراق يخاطرون بحياتهم وحياة أطفالهم بقوارب النجاة للوصول إلى أوروبا.

التناقض في الجامعة العربية بدأ منذ التأسيس على مستوى النظام السياسي للدول المشاركة بين أنظمة ملكية (مصر، الأردن، العراق، السعودية، اليمن)، وأنظمة جمهورية (سوريا، لبنان)، وتفاقم التناقض والمنافسات والانقسامات بين هذه الأنظمة مباشرة بعد النكبة الكبرى، وبداية الانقلابات العسكرية على الملكيات (مصر، العراق، اليمن، ليبيا)، وصارت الجامعة تضم أنظمة جمهورية تدعي التقدمية، وتعادي أو تجافي الأنظمة الملكية التي تتهم بالرجعية، وفيما بعد انقسمت أيضا بين أنظمة تطبيعية مع إسرائيل، وأنظمة تدعي معاداتها، ورغم أن النكبة الكبرى في فلسطين كانت من أكبر المآسي التي تصيب شعبا بأكمله، وتهديدا للعالم العربي ككل من قبل قوى مغتصبة للأرض إلا أن “جامعة الأنظمة العربية” لم تجتمع لمناقشة هذه النكبة الكبرى، وكل الأحداث والتحديات اللاحقة. فما بين قمة الإسكندرية الأولى في العام 1946 وقمة الإسكندرية الثانية 1964، شهد العالم العربي أحداثا جساما (حرب 48 مع إسرائيل، إنقلابات سوريا العسكرية 1949ـ 1954، سقوط الملكية في مصر 1952، حرب السويس 1956، حرب الجزائر التحريرية، وحرب تونس واستقلالها مع المغرب 1956، الوحدة السورية المصرية، 1958، سقوط الملكية في العراق 1958، الحرب اللبنانيةـ اللبنانية 1958، انفصال الوحدة السورية المصرية 1961، سقوط الإمامة اليمنية1962 وحرب اليمن1962، انقلاب حزب البعث في سوريا 1963) وإنهاء الحكم المدني الديمقراطي.

وجاءت قمة الإسكندرية بعد 18 عاما على تأسيس الجامعة وجاءت القمة بسبب حدث ورغم خطورته لكنه يعد أقل بكثير من كل الأحداث التي سبقته وهو نية إسرائيل في تحويل مياه نهر الأردن حيث جاء في البيان الختامي:

“وبعد أن بحث ما أوشكت عليه إسرائيل من القيام بعدوان خطير جديد على المياه العربية بتحويل مجرى نهر الأردن، والإضرار البالغ بحقوق العرب المنتفعين بهذه المياه، وقياماً بواجب الدفاع المشترك، وإيماناً بحق الشعب العربي الفلسطيني المقدس في تقرير مصيره والتحرر من الاستعمار الصهيوني لوطنه، أن التضامن العربي هو السبيل لدرء المطامع الاستعمارية وتحقيق المصالح العربية العادلة المشتركة، ورفع مستوى العيش للسواد الأعظم وتنفيذ برامج الإنشاء والإعمار”.

بعد 60 عاما جاء في إعلان قمة جدة، وهي القمة الثانية والثلاثون، لا يختلف كثيرا عن الإعلان السابق إذ أكد زعماء الأنظمة العربية:”

“على مركزية القضية الفلسطينية لدولنا باعتبارها أحد العوامل الرئيسية للاستقرار في المنطقة”. وأضاف “ندين بأشد العبارات، الممارسات والانتهاكات التي تستهدف الفلسطينيين في أرواحهم وممتلكاتهم ووجودهم كافة، ونؤكد على أهمية تكثيف الجهود للتوصل إلى تسوية شاملة وعادلة للقضية الفلسطينية”.

واكد الإعلان “على أن التنمية المستدامة، والأمن، والاستقرار، والعيش بسلام، حقوق أصيلة للمواطن العربي” ودعا البيان إلى حل الأزمات في اليمن، ولبنان، والسودان، لكنه لم يتطرق للأزمة السورية ولمعاناة الشعب السوري. وبين هاتين القمتين عقدت ثلاثون قمة لا تختلف بياناتها عن هذا البيان. فخلال هذه الفترة شهد العالم العربي أزمات أخرى ربما أشد وطأة على المواطن العربي من الأزمات السابقة: ثورة ظفار في عمان 1965ـ1975، حرب 67 ضد إسرائيل، سقوط الملكية في ليبيا 1969، الحرب الأردنية الفلسطينية 1970(أيلول الأسود) والانقسامات الفلسطينيةـ الفلسطينية، حرب 73 ضد إسرائيل، الحرب اللبنانية 1975ـ 1990 واجتياح الجيش السوري للبنان وضرب المقاومة الفلسطينية 1976 بتفويض من الجامعة العربية. حرب الصحراء بين المغرب والجزائر 1975ـ1991 اعتراف مصر بإسرائيل وتشكيل جبهة الصمود والتصدي وتجميد عضوية مصر في الجامعة العربية 1979، الحرب العراقية الإيرانية 1980ـ1988، مجزرة حماة الكبرى في سوريا من قبل النظام الأسدي 1982، طرد الفلسطينيين من لبنان ومجازر صبرا وشاتيلا 1982، احتلال الكويت من قبل العراق 1990، الحرب الأمريكية على العراق1991، العشرية السوداء في الجزائر 1992ـ2002، توقيع اتفاق غزة أريحا أولا في أوسلو بين الفلسطينيين وإسرائيل، واعتراف الأردن بإسرائيل 1994، حرب اليمنين 1994، اعتراف موريتانيا بإسرائيل 1999، الحرب الأمريكية على العراق وسقوط بغداد2003، انقسام السودان بين شمال وجنوب ،2011 وانطلاقة الربيع العربي وإسقاط أربعة أنظمة عربية (تونس، مصر، ليبيا، اليمن، وتبعتها انطلاقة الثورات المضادة)، وبداية المأساة السورية ومقتلة الشعب السوري وتهجيره ودمار سوريا واحتلالها من عدة دول بدعوة من النظام الأسدي. حرب اليمن وتدخل السعودية والإمارات 2014ـ حتى الآن. وأخيرا وليس آخرا حرب السودان، والأزمة اللبنانية. (لم نذكر سوى الأحداث الكبرى). وفي كل هذه الأزمات لم تحل الجامعة العربية أزمة واحدة. ولم تحقق مصالح الشعوب العربية التي ازدادت فقرا، وجهلا، وسوء معاملة، وقتلا وتهجيرا، حتى أصبحت شعوب معظم الدول العربية من أفقر شعوب العالم ومهددة بكل أمراض الجوع والتشرد.

تناقض التناقض:

في تناقض التناقض لجامعة الأنظمة العربية تجميد عضوية مصر في العام 1979 ونقل مقر الجامعة إلى تونس بعد اعتراف مصر في عهد أنور السادات بإسرائيل، لكن لم يدم طويلا وقررت عودة مصر إليها في 1989، وهذا يعني ببساطة أن الباب أصبح مفتوحا أمام الأنظمة العربية الراغبة بالتطبيع مع إسرائيل دون معاقبتها، وهذا ما حصل لاحقا بتطبيع سبع دول علاقاتها مع إسرائيل.

وفي العام 2013 تم أيضا تجميد عضوية نظام الأسد بسبب وحشيته في التصدي للشعب السوري، واليوم يعود مظفرا إلى قمة جدة والجميع يعلم أن مقتلة الشعب السوري لا تزال مستمرة، ومن التناقضات الصارخة في هذه القمة دعوة الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي ( الرئيس الوحيد في القمة المنتخب ديمقراطيا ماعدا الرئيس قيس سعيد، والوحيد الذي يدافع عن بلاده بشراسة ضد الغزو الروسي) والذي يواجه بشار الأسد (غير المنتخب ديمقراطيا، ويقتل شعبه، ويدعو روسيا لإنقاذه ويبني لها القواعد العسكرية، ويعترف باستقلال الدونباسك وضمها إلى روسيا، ويدعي الممانعة والمقاومة ضد إسرائيل)…ودعوته لحضور القمة تقول بالفم الملآن أيها الأخوة في الجامعة تعالوا جميعاً لوأد الربيع العربي وعلى رأسه ربيع سوريا.

* كاتب سوري

المصدر: القدس العربي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.