الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

 كيف تسلل زيلينسكي الى قمة جدة؟

بسام مقداد *

قيل الكثير في قمة جدة، وكان يمكن أن يقال أكثر لو كانت الجامعة العربية وقممها لا تزال تحظى  بالقليل من ثقة المواطن الشرق أوسطي بها. وحتى الإنقسام العمودي في مجتمعات المنطقة بين موال لطغاة المنطقة وسجانيها ومناهض لهم، لم تضف بالنسبة لهم ما يذكر سوى أسباب إضافية لمزيد من الشتائم المتبادلة. وإذا كان الموالون قد أفاضوا  في الاحتفاء بعودة الأسد “المظفرة” إلى القمة، لم ير الطرف الاخر فيها سوى السخرية من “قمة الكبتاغون ورجعة الأسد” والعتب على التقصير في دعوة “ملك كبتاغون” آخر لبناني مقيم في سوريا، كما يقال، كسواه من “الطفار” اللبنانيين الفارين من وجه بقايا العدالة اللبنانية. 

ما وحد الطرفين في تعليقاتهم على القمة، هو عدم الالتفات، أو قليله، إلى الزيارة المفاجئة للرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي إلى القمة في طريقه إلى قمة G7 مجموعة السبع  في اليابان. ولم يخف البعض دهشته والتساؤل عما دفع زيلينسكي إلى التعريج على “قمة الأسد والكبتاغون” في جدة، وهو في طريقه إلى قمة قادة عالم الحداثة في هيروشيما. ماذا كان ينتظر من الأولى وهو في طريقه إلى الثانية ليطالبها بأحدث الطائرات الحربية والأسلحة؟ هل كان بحاجة، وهو رمز صمود شعبه بوجه الغزو الروسي وفظائعه، إلى أن يشهد انتزاع سماعات ترجمة كلمته إلى العربية من قبل الأسد، رمز قمع السوريين وقتلهم؟ هل كان يراهن فعلاً على استمالة القادة العرب إلى جانب قضية الشعب الأوكراني والتعاطف معه؟ وهل هو لا يصدق أن أنظمة هذه المنطقة هي معتقلات وسجون لشعوبها المنقسمة بين سجان وسجين، بين قاتل وقتيل؟ لا القاتل سيتضامن مع القتيل الأوكراني، ولا القتيل يسعه دفنه وإقامة مأتم له. 

لن تعود زيارة زيلينسكي لقمة جدة على قضية الشعب الأوكراني بما يوازي جهد ترتيبها والقيام بها. والتخلص من حرج تلبية دعوة السعودية، كان يمكن تحقيقه في وقت آخر لا يتقاطع مع وجود الأسد. وهي لن تبقى في ذاكرة المنطقة أكثر من الدقائق التي دامتها، وسقطت منها مع القمة لحظة اختتامها. لكنها ستدوم أكثر في ذاكرة روسيا بوتين وإعلامها، والأرجح أنها لن تسقط مع سقوط باخموت النهائي إن تحقق. وهي إن حققت شيئاً ما، فقد حققته في روسيا التي لن تغفر لزيلينسكي تطاوله على منطقة تعتبرها جرماً في فلكها منذ العهد السوفياتي البلشفي. ولم تر في الزيارة سوى محاولة من الغرب للتعتيم على عودة الأسد “المظفرة” إلى الجامعة العربية، كما قالت صحيفة الكرملين “vz” في نصها يوم الزيارة. 

نقلت الصحيفة عن “البوليتولوغ” فلاديمير كارنيلوف قوله بأن الغرب كان بحاجة إلى ثقلٍ موازٍ في قمة الدول العربية ليمسح أثر العودة المظفرة للرئيس السوري إلى الجامعة العربية. وكان الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي هو هذا الثقل. ورأى كارنيلوف أن فكرة الدعوة ولدت في الجامعة العربية نفسها، وذلك بعد أن تفاقمت انتقادات الغرب بسبب دعوة الأسد، فجاءت فكرة دعوة زيلينسكي الذي يحبه الغرب. فهو، “كما نرى” يحاول الدخول إلى أي حشد جماهيري، وليس إلى قمة “السبعة الكبار” فقط ـــــ مثل مسابقات الموسيقى في سان ريمو أو Eurovision. نظام كييف، برأي كارنيلوف، يحاول اختراق كل تجمعات “الجنوب” في العالم، كما ذكر مؤخراً وزير الخارجية الأوكراني ديمتري كوليبا. 

ويقول كارنيلوف أن من المستبعد أن يكون زيلينسكي قد خطط منذ شهر لحضور قمة جامعة الدول العربية، فقد سبق أن حددت كييف موعد هجومها المضاد في نيسان/ ابريل-أيار/ مايو. وهدف الزيارات الرئيسي الآن هو طلب السلاح في كل مكان، وتبرير تأخر الهجوم المضاد على الرغم من تدفق كل هذا السلاح. 

لم تقتصر على فلاديمير كارنيلوف مقولة موازاة حضور الأسد قمة جدة بدعوة زيلينسكي إليها، وتفادي الغضب الأميركي ومفاعيل قانون “مكافحة التطبيع مع الأسد”. فقد التزم المقولة عينها الموقع الإخباري الروسي “Regnum”، ونقل عن اثنين من البرلمانيين الأميركيين واضعي القانون قولهما بأن قبول الأسد مرة أخرى في الجامعة العربية، هو خطأ استراتيجي جدي سيدفع الأسد وروسيا وإيران لمواصلة قتل المدنيين وزعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط. وأخذت السعودية في الحسبان هذا الرفض الأميركي لتطبيع وضع الأسد، ومن أجل تفادي المزيد من التدهور في العلاقات المتدهورة أصلاً مع الولايات المتحدة، تم إتخاذ القرار بدعوة زيلينسكي لحضور القمة. وكان على هذه الخطوة، برأي منظمي القمة، أن تلقى الترحيب من الغرب. 

موقع “absatz” الروسي نقل عن قناة تلفزة عربية قولها بأن حضور زيلينسكي القمة العربية كضيف شرف، هو استمرار لجهود السعودية في تسوية الصراع الروسي الأوكراني. كما نقل عن الخبير الروسي إيغور يوشكوف قوله بشأن حضور زيلينسكي بأن السعودية تحاول إظهار بعدها عن جميع مراكز القوى. ومن المهم للرياض أن تثبت موقفها المحايد في المسألة الأوكرانية. والولايات المتحدة تمارس الآن ضغوطاً على القيادة السعودية، وتتهمها بمحاولة إقامة تحالف ما مع روسيا. وترى أن قرار تخفيض حجم استخراج النفط الذي اتخذته السعودية كان قراراً سياسياً بإمتياز. ويرى يوشكوف أن مشاركة أوكرانيا في القمة العربية مستغرب للغاية، إذ أن هذه المشاركة لا تحمل في طياتها أي فائدة اقتصادية لأوكرانيا. أما السعودية فهي تسعى لإثبات وضعها المهيمن في المنطقة، ومن دون أن تفقد في الوقت عينه علاقاتها نهائياً مع الولايات المتحدة. ولذا، فإن قرار دعوة زيلينسكي لحضور القمة، هو قرار رمزي كلياً يهدف لطمأنة الولايات المتحدة وللحضور في الفضاء الإعلامي. 

وكالة الأنباء الإتحادية الروسية Fan، العمود الفقري لإمبراطورية {يفغيني بريغوجين (طباخ بوتين)} الإعلامية، نقلت عن البوليتولوغ والمستشرق يفغيني ساتانوفوسكي قوله في التعليق على كلمة زيلينسكي في قمة جدة بأنه قضى على نفسه بنفسه، وأقنع العالم العربي بصحة موقف روسيا بكلمتين عنها في القمة. ووصف زيارة زيلينسكي إلى القمة العربية في جدة بأنها غريبة، وتظهر تكتيك نظام كييف ورعاته الغربيين. ويطبق هذا التكتيك المثل الروسي القديم “في كل عرس هو العريس، وفي كل مأتم هو الميت”، حيث أن زيلينسكي يحاول حشر نفسه في كل تجمع على أهمية ما، تشارك فيه دول غنية ومتنفذة. ولذا سعى مكتبه بشتى الوسائل لتدبير زيارته إلى الرياض، مستعيناً بكل علاقات رعاته الغربيين. 

وكعادته يذهب ساتانوفسكي بعيداً في أحكامه ويغالي في تقييم الأحداث، حيث رأى بأن زيلينسكي، في كلمته أمام قمة الجامعة العربية، ارتكب كل الأخطاء الممكنة في التحدث بقضية على هذا القدر من الحساسية بالنسبة لقادة العالم العربي، ومحا بلاده عن الخريطة السياسية. وبكل بساطة أوكرانيا لم تعد موجودة بالنسبة للشرق الوسط على الأقل. فقد اقتنع السعوديون وحلفاؤهم بصحة وشرعية طموحات موسكو في العملية العسكرية في أوكرانيا. 

ويعبر ساتانوفسكي عن قناعته بأن مكتب الرئيس الأوكراني توسل الرعاة الغربيين لتدبير الزيارة، وهؤلاء بدورهم مارسوا ضغوطا على الرياض بهذا الشأن، ورأت الرياض أن من الأسهل إستقبال الضيف اللجوج على الاشتباك مرة أخرى مع لندن ووزارة الخارجية الأميركية. 

وقال ساتانوفسكي بأن مستشاري زيلينسكي ورعاته الغربيين أظهروا مرة جديدة عدم فهمهم للتفاصيل الدقيقة في الجيوسياسة الكبيرة. فقد اشتكى زيلينسكي روسيا للقادة العرب الذين يحترمون القوة في الدفاع عن مصالحهم.

* كاتب لبناني

المصدر: المدن

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.