الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

معاداة السوريين ظاهرة تتحوّل معضلة

سوسن جميل حسن *

معاداة السوريين ظاهرة تبرعمت ونمت مع تقدّم الأزمة السورية، وتفاقم ظاهرة النزوح واللجوء مع ازدياد العنف في الواقع، وتعدّد الأطراف الخارجية وازدياد تدخّلها في الحرب السورية، أطلق عليها محلّل سياسي في إحدى الجلسات الحوارية مصطلح Anti-Sourialism، ظاهرة راحت تترجم بممارسات على الأرض، ازدادت تنوّعًا وعنفًا مع ازدياد خطاب الكراهية من بعض النخب السياسية أو رموز النظام الحاكم في هذا البلد أو ذاك، ترجم على شكل تنمّر رافقه اعتداءٌ بأدواتٍ وطرقٍ متنوّعة، من اعتداء جسدي وصل إلى حدّ القتل في بعض الحالات، إلى سرقة حقوق أو حتى سرقة مدّخرات أو ممتلكات لبعض السوريين، أو اختطاف وطلب فدية ماليّة، وغيرها الكثير. وكي نكون منصفين، هي ظاهرة مورست أيضًا في الداخل السوري، من بعض المكوّنات تجاه بعضها بعضا، إنما بشكل خفي لا يعدو أن يكون ملمحًا عن واقع المجتمعات السورية قبل الانتفاضة، حيث كانت مجتمعات تعيش بجوار بعضها بعضا، تحت ادّعاء العلمانية وقبول الآخر المختلف ونبذ التفرقة بكل أشكالها، من طائفية وعرقية وغيرها، لكن الحقيقة أنها كانت مشكلات متجذّرة، لم تلبث أن طفت على السطح كأولى الظواهر في بداية الحراك.

تتصاعد العنصرية في دول الجوار تجاه السوريين، خصوصًا في لبنان وتركيا، وتدخل ورقة مشتعلة بيد السياسيين، تحرق السوريين فقط، هذا ما نراه بالنسبة إلى وضع السوريين في لبنان، والممارسات العنصرية التي تُمارس بحقهم من بعض الجهات السياسية، ومن مجموعات أهلية، من دون أن نهمل حقيقة أن السوريين الموجودين في لبنان، هذا البلد الذي لديه من المشكلات العضوية ما يجعله على مسافة خطوة من الانهيار المدوّي، لم يُوصفوا باللاجئين، بل النازحين، والنزوح غير اللجوء حتى لغويًا، لأن النزوح أمر يحمل معنى الابتعاد عن الوطن، من دون أن يترتّب على الجهة التي وصل إليها المبتعد أو المبعد أية التزامات، بينما اللجوء يستدعي موقفًا في المقابل من الجهة التي استجار بها الشخص الهارب من تهديدٍ ما. وإذا وضعنا القوانين التي تنظم هذا الأمر جانبًا، فإن في اللجوء معنى أخلاقيًا أيضًا، وهو مؤشّر على التعاطف الإنساني، أكبر دليل عليه هو التعاطف والنشاط المدني الذي أظهرته العديد من مؤسسات المجتمع المدني أو الجمعيات، أو حتى على مستوى الأفراد، في الدول الأوروبية تجاه السوريين، خصوصا في ذروة اللجوء بين العامين 2014 و2015.

في تركيا، التي كانت قضية اللجوء فيها على الطاولة منذ سنوات، عندما شكلت ورقة تفاوضية بين النظام التركي والدول الأوروبية، وليس الآن بعد أن صارت ورقة انتخابية، صوّت السوريون الحاصلون على الجنسية التركية، بغالبية ساحقة، لصالح الرئيس المنتهية ولايته رجب طيب أردوغان، لأسبابٍ عديدة، أهمها خوفًا من وصول المعارضة إلى الحكم والشروع بتنفيذ ما وعدت به كخطوة أولى مهمة بالنسبة لها، وعتبة أساسية من أجل إصلاح الحالة الاقتصادية التي يعاني منها الشعب التركي على حدّ طرحهم، وهي إعادة اللاجئين السوريين، من دون أن يقدّموا ما يدعو إلى اطمئنان هذه الملايين من السوريين في تركيا، لكن الحقيقة والواقع أن الطرفين المتنافسين على الرئاسة في تركيا متفقان بشأن مشكلة اللاجئين، وأن العنصرية تجاه السوريين لم تبدأ أمس، إنما منذ عدة سنوات، ولم تكن هناك تدابير قانونية تحاسب بشكل جدّي ونزيه الذين يمارسون هذه العنصرية والتنمّر بحق السوريين. يقول الناشط في مجال حقوق اللاجئين، طه الغازي: لم يعد خطاب الكراهية اليوم يستهدف اللاجئين السوريين جغرافيًا فقط، إنما هوية اللاجئ السوري، هناك عنصرية من الأتراك اللاجئين في أوروبا تجاه اللاجئين السوريين، كراهية السوريين من شخصيات المعارضة، صمت الحكومة التركية عن مساءلة العنصريين ساهم في هذا، هناك تيارات في تحالف الجمهور تؤيّد هذا الخطاب تجاه السوريين، وهي بالأساس رافضة وجود السوريين. والحكومة عندما تترك العنصرية تتمادى، فهي تسعى إلى إظهار إنسانيتها أمام المعارضة التركية أمام العنصرية تجاه اللاجئين، لم تسن الحكومة قوانين بل اكتفت بزيارة الأسر المصابة أو المنكوبة. وكأن هذا الصمت عن الممارسات العنصرية منهجٌ متفق عليه من أجل تكوين شخصية للاجئ السوري بحيث يشعر بالدونية، ويخفّف من تهمة العنصرية المتعلقة بالفرد التركي.

في مقابل هذا الخطاب العنصري المتنامي، والممارسات العنصرية المتزايدة تجاه السوريين، لا يمكن نسيان أن السوريين لم يكونوا عبئًا بالمطلق، كما تدّعي غالبية النخب السياسية، وحتى المجتمعية، فهم شكّلوا قوة عملٍ لا يمكن إهمالها، عدا الأنشطة الاقتصادية والأموال التي أخذتها معها شريحةٌ من السوريين، وبدأوا باستثمارها في بلدان اللجوء، فشركات صناعية سورية كثيرة أقيمت في تركيا وغيرها، وكثير من رؤوس الأموال السورية رفدت البنوك اللبنانية، حيث يشكّل القطاع المصرفي، أو كان يشكّل، ركيزة أساسية بالنسبة إلى الدخل القومي اللبناني، لكن مشكلات هذا البلد المصاب بلعنة الجغرافيا والتاريخ والفساد والمحاصصة الطائفية التي تحولت اليوم إلى مشكلة اجتماعية كبيرة، أدّت إلى ضياع الودائع وحقوق المودعين، ومن بينهم السوريون. وفي تركيا، اشتغلت غالبية السوريين في ظروف عمالة متدنيّة وبأجور زهيدة بالكاد تكفي المعيشة بحدّها الأدنى، وفي شروط عملٍ لا تضمن حقوقهم التي تحقق لهم الأمن بكل أشكاله، من إصابات العمل إلى الوفاة إلى الأمن الصحّي. يشكل هؤلاء هدفًا ترنو إليه الحكومة التركية، أيًّا كانت، لاستغلاله في إعادة الإعمار للمناطق المنكوبة من الزلزال، وهي أكثر من عشر ولايات، وهذا الهدف ليس خافيًا فقد أعلنه الجميع، حكومة ومعارضة ونقابات العمال وزعماء المعارضة، وأشاروا إلى أنهم بحاجةٍ إلى اللاجئين في المرحلة اللاحقة.

يمكن القول إنه، بغض النظر عمّن سيفوز في الجولة الثانية للانتخابات التركية، فإن قضية اللاجئين السوريين متّفق عليها بأنها أولوية، الفارق فقط في الأسلوب، فالرئيس رجب طيب أردوغان يجعلها في صلب حراكه السياسي مع جميع الأطراف الفاعلة، من مفاوضات مع النظام برعاية روسيةٍ بدأت منذ مدة ليست قصيرة، إنما ظهرت بشكل علني في السنة الأخيرة، عدا مشاريع إسكان مليون لاجئ على الأقل في الفترة القريبة، في الشمال السوري، بتمويلٍ من دولة قطر، كما تصرّح الحكومة التركية، وهذه الإعادة لمجمّعات سكنية سينقل السوريون إليها في المستقبل، موضوع آخر جدير بالحديث عنه وطرح الأسئلة التي تشغل بال السوريين أقلّه حول ماهية الحياة المستدامة في كل جوانبها، ومستقبل هذه البقعة بالنسبة إلى سورية المستقبل. وفي النهاية، تواجه السوريون، بين لاجئين ونازحين، وسوريين في الداخل في جميع مناطق الحكم، مشكلات بنيوية تحتاج إلى جهود مكثفة، دولية وإقليمية، لا يمكن أن يتحقق حلّها إلّا على أساس بناء أسس ديمقراطية، مجتمعية وسياسية. وهذا يبدو بعيد التحقيق، فما زالت القوى المسيطرة على الشأن السوري، والفاعلة بقوة، تسعى إلى تحقيق مصالحها، وإدارة صراعاتها، حتى البعيدة منها عن الجغرافيا السورية. إلى حينها ستتعزّز ظاهرة الـ Anti-Sourialism، بكلّ حزن وأسف.

* كاتبة وروائية سورية

المصدر: العربي الجديد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.