الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

القمة العربية ونهاية الدور العربي السياسي في المنطقة

نجيب جورج عوض *

تعالت العديد من الأصوات عبر وسائل الإعلام تؤكِّدُ على الأهمية التاريخية المحورية التي تمتعَت بها القمة العربية الأخيرة في مدينة جدّة السعوديّة، وتعلن أنَّ تلك القمة أعلنت بشكلٍ رسمي استلام المملكة العربية السعودية بقيادة الأمير محمد بن سلمان سُدَّة قيادة العالم العربي وتحول المملكة إلى إحدى القوى الإقليمية العظمى ذات الاستطالات والدور العالمي البُعد، وأنها ستقود المنطقة إلى مستقبلٍ واعـدٍ جديد يطوي صفحة الصراعات والنزاعات في المنطقة، ويدخل شعوبها إلى مستقبل الاستقرار والرفاه ويلحقها برُكب العالم المعاصِر.

خلافاً لهذه الصورة اليوتوبية المبهرة التي ضجَّت بها وسائل الإعلام العربي المختلفة، أقرأ المشهد الجديد وتداعيات وخطوات العرب في القمة العربية المذكورة بطريقةٍ مختلفة وأكثر واقعية سياسية.

قناعتي كمراقِب تقول لي أنَّ القمة العربية الأخيرة أعلنت رسمياً تسليم الإدارة الجيوسياسية المباشرة للمنطقة إلى إيران. يتجلَّى هذا، أولاً، في فتح الباب لإعادة تأهيل واحتضان نظام الإجرام والقتل الفاسد في سوريا وإعادته إلى الجامعة العربية بدون أي قيدٍ أو شرط، وبدون أيَّة ضماناتٍ يقدمها النظام المذكور حول أيٍّ من الملفات المصيرية التي لن يكون هناك بلد اسمه سوريا وشعب اسمه الشعب السوري فعلياً دون التعهد بتحقيقها، مثل الحل السياسي، وعودة كافة النازحين واللاجئين دون قيدٍ أو شرط أو تهديد إلى أماكن عيشهم الأصلية، وإيقاف جرافة التغيير الديمغرافي الساحقة التي تعمل على تغيير طبيعة الشعب السوري، وإخراج كافة الميليشيات المسلحة والجيوش الغريبة المهيمنة على ثلثي الأرض السورية، وتغيير البنية التكوينية لمنظومة السلطة والإدارة في أي دولة سورية ستوجد لاحقاً، وسواها العديد جداً من الضمانات التي لم تكترث الدول العربية، وعلى رأسها السعودية، لا باشتراطِ تقديمها أو متابعة تنفيذ التعهد بها من قبل النظام السفاح. وها هي السعودية أيضاً تنسحب من المشهد اللبناني وتجعل العرب يعترفون معها بأن الملف اللبناني في عهدة حزب الله التامة ووفق اتفاق الشراكة بينه وبين إسرائيل (والذي تحول إلى شراكة أعمال واقتصاد أيضاً بتوقيع الاتفاق النفطي مع لبنان). وها هي تترك رئاسة البلد نهباً لكباش اللبنانيين، والذي تعرف السعودية جيداً أن المنتصر فيه سيكون حزب الله مهما كانت النتائج، وأنَّ أي رئيس للبنان سيجلس في طهران ويحكم تحت مظلة حزب الله، وإن كان في نفس الوقت سيعمل سكرتيراً للمصالح الاقتصادية السعودية والخليجية، مُرضياً بهذا مدير الملف السياسي ومدير الملف الاقتصادي على حد سواء.

يتجلَّى تسليم المنطقة جيوسياسياً إلى إيران، ثانياً، في نجاح المملكة وعلى رأسها الأمير الشاب الطموح والرؤيوي بإقناع الدول العربية بفلسفة جديدة، تستحقُ الدراسة والنقد والتمحيص العميقة برأيي، مفادها أنَّ الرفاه الاقتصادي والمعيشي، وليس السلام والاستقرار السياسي والأمني، هي قاعدة المستقبل والأمل بخلاص المنطقة من أزماتها وخروجها من السرداب: منهجية تبدأ بالاقتصاد والمصالح التجارية وتجعل لعبة المال تقرر المصائر والخلاصات السياسية وفقَ اشتراطاتها. تلك الفلسفة جعلت السعودية ترضى بأن تدخل في تفاوضِ تصالحٍ مفتوح وبلا سقف مع إيران في بكين، ومن ثم جرَّت خلفها قاطرة باقي البلدان العربية نحو التصالح والتهدئة وإعادة العلاقات مع إيران أيضاً، بأن راحت تحتضن الرؤية الاستراتيجية الإيرانية في الدول الحَليفَة لإيران في الشارع العربي (لبنان وسوريا والعراق) وتعمل على فتح أبواب إعادة العلاقات مع الدول العربية الأساسية مثل مصر والأردن ودول الخليج. والمقابل هو دفع الحوثي للتوقف عن إقلاق السعودية واستنزافها في اليمن، وتأمين منطقة بحر أحمر هادئة ومستقرة ومفتوحة خدمةً لمشروع “نيوم 2030″، المشروع الاستراتيجي السعودي الاقتصادي والمالي الأهم والأول، والذي رضيت السعودية مقابله بأن تنحي جانباً التعاطي مع الملفات السياسية والجيواستراتيجية لدول المنطقة العربية، تاركةً هذا الدور رسمياً وكُـلياً تقريباً لإيران. وفي هذا المعرض، من الجيد أن نتذكر أن خيار الاقتصاد، الأعمال وتقديمهِ على السياسة، الاستراتيجيا هو خيارٌ مُرضٍ جداً للولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل. فهو سيعني أن الدول العربية ستُطبِّع جميعها تقريباً، وقريباً جداً، مع إسرائيل، لأنَّ الاقتصاد والرفاه يَعنيان الشراكة والتقاسُم، وليس العداوة، وعدم التلّهي بالصراعات السلطوية والسياسية. كما أنَّ هذا الخيار السعودي الإنسحابي سياسياً يُشرِّع الباب واسعاً أمام إعادة تفعيل الاتفاق النووي بما يضمن مصالح إيران ومساعدتها على إدارة ملف الشرق الأوسط ويرضي أيضاً مقاربات وطموحات كـل من دول الاتحاد الأوروبي (الذي يحتاج للمكاسب الاقتصادية في إيران) وبريطانيا (صانعة نظام الملالي) والولايات المتحدة (شريكة وحامية نظام الملالي الأولى).

نعم، تدخل المنطقة العربية مرحلة تاريخيَّة جديدة بدأت مع اتفاق بكين وتجلَّت في إعلان جدّة والقمة العربية الأخيرة. وقد تكون تلك المرحلة التاريخية الجديدة مرحلة واعدة فعلاً بالكثير من الأمور المفيدة والجيدة التي تحتاجها المنطقة بشدة فيما يتعلق بأوضاعها الاقتصادية والعمرانية والتحديثية. ولكن، ستشهد تلك المرحلة أيضاً مترتبات بنيوية وتكوينية عميقة ستقوض المنطقة من جذورها على المستوى الإنساني العام المتعلِّق بسيادة وكيان ووجود الشعوب العربية كدول ذات سيادة. أعتقد أنَّ القمة العربية الأخيرة دقَّت المسمار الأخير في نعشِ حلم الربيع العربي وأغلقت ملفّه نهائياً. كما يبدو أنها تخلَّت عن حلم الدور العربي السيادي في قلب عالم العرب وطموح النجاح في تشكيل جبهة عربية تُقرر مصير العالم العربي وتمسك بزمامه باستقلالية وسيادة وقوة (الأمر الذي لم يحصل منذ نشأ العالم العربي جيوسياسياً، ولا يبدو أنه سيحصل). تراجع إلى الخلف أيضاً، كما يبدو، طموح تشكيل خطاب عربي قوي ومؤثِّر ينالُ دعم العالم ويدفع إسرائيل إلى طاولة سلام عادل وشامل ومتكافئ ينهي مأساة الشعب الفلسطيني بشكلٍ عادلٍ وحقيقي، مقابل تغلُّب الصوت الداعي للتطبيع والهدنة والتعاون الاقتصادي والنفطي والمشاريعي، والتي لا تحقق بالضرورة سلاماً، ناهيك عن سلامٍ مُستدام، على مستوى الشعوب والبشر والمجتمعات. لم نسمع في القمة العربية أي صوت يشير ولو حتى بالتلميح أو بالهمس إلى أحلام أجيال الشباب العربية بأن يسمع القادة العرب لصوتِ أحلامها ورؤاها وفهمها السياسي أو حتى لآلامها ومآسيها ومقتلتها. فالشعب السوري شهدَ عودة احتفالية ترحيبية بقاتلهِ والمستبد بهِ من قِبلِ أولئك القادة قبل غيرهم. وتمَّ تأجيل أو تهميشُ حاجة الشعوب العربية للتفكير، على الأقل، بتطوير سياسات وممارسات القيادات العربية وعصرنتها كي تعمل على تحقيق أيٍّ من حقوق الشعوب العربية الإنسانيَّة السياسيّة والدولتية والمدنية. لم نسمع أحداً يقول مثلاً أن العالم العربي “سيكون أوروبا الديمقراطية والحرية والعدالة والقانون في القرن الواحد والعشرين”. لم نسمع هذا، إذ أنَّ فحوى الفلسفة القاعدية الجديدة هو أن لا صوت يعلو فوق صوتِ عجلة الاقتصاد وأناشيدِ الرفاهِ والثراءِ وخطابات التحديث وازدهار الأعمال.

القمة العربية في جدّة هي بداية عصرٍ عربي جديد وإعادة توزيعٍ لأدوار اللاعبين الإقليميين وتقسيم أدوارهم: الراعي والمدير الجيوسياسي للعالم العربي هي إيران، والمدير السري التنفيذي لمصالِح مُلاَّك أسهم المنطقة الغربيين هو إسرائيل. أما القادة العرَب، وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية، فهم مدراء ملفات الاقتصاد والمال والأعمال والبناء والتحديث. وإذا ما وصلت إيران إلى توافقات استراتيجية مع إسرائيل وتركيا (وهذا سيحصل حتماً)، كما وصلت إليها مع روسيا، وستصل إليها مع الولايات المتحدة وأوروبا وبريطانيا قريباً أيضاً، فهذا يعني أن المنطقة العربية دخلت في عصر “الحُكم الفارسي” (مرة أخرى)، والإنسان (الهوموسابيان) في المنطقة المذكورة “ستتمُّ حيونته في المنطقة لخمسين أو مئة عام قادمة”، كما كان يقول الفيلسوف والمفكر السوري الراحل، الياس مرقص.

* شاعر وباحث أكاديمي وأستاذ جامعي سوري، بروفسور في اللاهوت المسيحي

المصدر: الناس نيوز

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.