الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

البعث والنظام الرسمي العربي والعقلانية

وسام سعادة *

عندما آثر النظام الرسمي العربي تعليق عضوية «سوريا ـ النظام» في جامعة الدول العربية لم يكن ذلك بدافع من الالتزام بالتحوّل نحو الديمقراطية ولا التقيّد بأساسيات حقوق الإنسان. بل لأنّ النظام السوري تخطى المأثور عنه في ذاكرة الأنظمة الأخرى، الميّالة لتثبيت أنّه «أهون البعثين» مقارنة بمصاب العراق، وأنه جاوز المعقول السلطوي المقبول في عرف هذه الأنظمة ذات الباع السلطوي الجامع، سواء كانت أنظمة تمكنت من أن تنأى بنفسها عن عواصف «الربيع العربي» أو كانت تعايش «لحظة انتقالية – ترميمية» مفتوحة على إرهاصات المشاركة والتعدد، تحت تأثير واحدة من موجات ذاك الربيع المشهودة، قبل أن تسارع من ثمّ إلى الانقضاض على آثار هذه الموجة.

ما هكذا تورد الإبل يا نظام دمشق! من هذه الزاوية كانت مبادرة الأنظمة إلى عزل نظام آل الأسد أواخر العام 2011. فالقمع الدموي الذي مارسه هذا النظام، بدا من موقع الأسرة المحافظة للأنظمة العربية وكأنه أسرف وتمادى في إظهار طبيعة ثورية ومتوحشة في آن، وهذا مرذول لدى الأنظمة الأخرى. لأنها، حين ترى نفسها في مرآته، أو مقارنة به، تجد أنها حليمة متزنة، ولا مصلحة لديها في أن تحمل وزر نظام بفاتورة دموية عالية على هذا النحو، لا سيما أنها تفتقد لطبيعته «الثورية» التي تجعله لا يتردد في القمع بلا هوادة.

فالأنظمة السلطوية العربية «الستاندرد» لا تشرّع الباب على المشاركة السياسية الجدية، ولا على الحريات العامة والخاصة، وتحكّم المخابرات بالعباد، وتُقصي الأقليات، وتستهجن التدخل الخارجي بشؤونها عندما يتعلق الأمر بحقوق الإنسان، في مقابل خفوت «النخوة السيادية» عندما يتعلق الموضوع بلبّ السياسة الخارجية نفسها. إلا أنها في الوقت نفسه تسوّغ للتسلّط على أنه ضمانتها لعدم خروج الجموع والسكان عليها. فإذا حدث وخرجت هذه الجموع كان التسلّط سبيلها لتطهير حاشيتها وعزل الخارجين عن عامة السكان. أما أن يصير التسلّط سبيلاً لدك أساسات المجتمع نفسه، بدلاً من الاكتفاء بمراقبته وضبطه والتأرجح بين جرعات إحباطه ونوبات إنعاشه، فهذا هو «البعث».

والنظام الرسمي السلطوي العربي لم يكن سهلاً عليه التعامل مع «البعث» بفرعيه. فالبعث مُشكِل بالنسبة الى الأنظمة السلطوية. إنه يدفع السلطوية إلى أقصاها: الحرب الكلية على المجتمع. نسف المجتمع الذي تتكئ الدولة عليه، بل نسف الدولة التي يستند النظام إليها إذا ما استشعر نخاعه الشوكي خطراً وجوديّاً.

التجارب السلطوية العربية الأخرى ليست كذلك. تعيش حالة صراع متواصل بين الدولة وبين المجتمع. لا يمكنها أن تفقه إلا واحداً من أمرين، فإما الدولة عندها قوية والمجتمع ضعيف، وإما المجتمع ضعيف والدولة قوية. لكنها تبذل ما في الوسع لتحاشي «عدوان المجتمع» عليها أو عدوانها الكلي هي على المجتمع. إن كان من عقد اجتماعي يمكن أن تستوعبه هذه الأنظمة فمن هذا القبيل. في مقابل ذلك، يخرج «البعث» فكرة وممارسة عن هذا العقد. البعث ثوريّ بامتياز بالنسبة إلى الأنظمة السلطوية، لأن سلطويته الفائقة تستهلك مواردها وإمكاناتها فتنذر بتضاؤل رصيد السلطوية في الإقليم. و«البعث» يؤمن بأنه من دونه التوحش، إنما ليس للانتقال من حال التوحش الى حال المدنية، إذا ما استرجعنا «ليفياثان» توماس هوبز، وإنما لتخيير الأنام بين توحشين، أحدهما هو، التوحش الثوري، وثانيهما توحش المجتمع نفسه، التوحش الرجعي.

«البعث» يؤمن بأن «ذنب» توحشه يمحوه توحش المجتمع نفسه. ما عليه إلا أن يغلظ على المجتمع بما لا يُطاق، فيخرج المجتمع ما عنده من توحش، ليجد البعث أن بضاعته رُدّت إليه، واكتسب من هذه التجارة ما يخاله… شرعية. من موقع «شرعية البعث» الأنظمة العربية غير البعثية غير شرعية. ومن موقع الأنظمة السلطوية غير البعثية، شرعيتها تحصّلها من قياس تجاربها «المعتدلة» على «حيوية» البعث.

في الوقت نفسه، كانت استطالة التجربة البعثية زماناً كفيلة بالتمييز أكثر وأكثر بين البعثين. بين التجربتين السورية والعراقية. وجد هذا سبيله في حقل الدراسات الشرق أوسطية عند الغربيين. بشكل طفق فيه الباحثون يصوّرون البعث العراقي كاستبداد متهور، في مقابل تصوير البعث السوري كاستبداد متحسب. خذ مثلا ما حلّ بالشيوعيين في البلدين، وبنتيجة انخراطهم في جبهة يقودها حزب البعث. في العراق كانت «الجبهة» مدخلاً للبطش بهؤلاء الشيوعيين واستئصالهم. في سوريا، سمحت «الجبهة» بتدجين القسم الأكبر منهم. والتدجين هنا له دلالة معقولية ما. كذلك المقارنة بين سياسة حافظ الأسد تجاه لبنان ورعونة صدام حسين تجاه الكويت. كلها نماذج كانت تصب في خانة تجميل معقولية، بل عقلانية، نظام حافظ الأسد، المتخيلة. أيضاً، من زاوية نظر الحكام العرب، كان «ترشيد البعث» مع قيام حافظ الأسد بالحركة التصحيحية، يستحضر في مقابل اشتداد السمة الاحترابية للبعث في العراق.

هذه الصورة تخلخلت بعد وفاة الأسد الأب، ومجيء الابن، إنما كانت الخلخلة لا تزال «موضعية» متصلة بأسلوب هدر الأخير للنفوذ السوري في لبنان، بما عجّل من انقضاء عهد الوصاية عليه، هذا في مقابل استشراء النفوذ الإيراني في هذا البلد الصغير، ومن ثم زيادة منسوب اللاتوازن بين دمشق وطهران، لصالح الأخيرة، وفي إطار الحلف المعقود بينهما.

بيد أن انفجار الأوضاع في سوريا هشّم بشكل واسع سردية «معقولية» النظام الحاكم فيها، ناهيك عن «عقلانيته». وظهرت البعثية كما لم تظهر حتى في العراق من قبل. حرب كلية على المجتمع خارج المدن الكبرى. في المقابل، ظلت الثورة غير قادرة على مغادرة منطقة «طرفيتها» لفرض نفسها في المركز (بخلاف الثورة التونسية التي انتشرت في الأطراف ثم أمسكت بالمركز، وبخلاف الثورة المصرية التي كانت ثورة المركز نفسه قبل الأطراف). وتمكن النظام انطلاقاً من هذه المعادلة من الصمود بوجه الجماهير الهادرة في المدن المتوسطة والأرياف، ومن التعامل من ثم مع هذه المناطق العاصية بتقنية كولونيالية معطوفة على عقلية بعثية مؤازرة بمساندة إيرانية فروسية. حينها سيظهر للأنظمة العربية أنها «استعجلت» عزل النظام. وأنها بنت هذا العزل على تقدير معتلّ، بأن حرب النظام على المجتمع تعجل بزواله كنظام. في حين أن المجتمع خارج المدن الكبرى هو الذي أصيب بتخريب بنيوي واسع النطاق، وشيئاً فشيئاً أخذت الأنظمة العربية السلطوية «الستاندر» كما الدراسات الشرق أوسطية الغربية تكتشف من جديد «حلاوة» العقلانية المتخيلة عند آل الأسد، مقارنة باللاعقلانية القصوى التي وجدت نموذجها في «تنظيم الدولة». وسيان هنا إذا كان تنظيم الدولة من «فبركة» النظام أو لا. في الحالتين، تكون النتيجة لصالح إعادة تثبيت صورة «عقلانية» عن نظام يستطيع أن يجر الشحنة المناوئة له إلى دوامات نحرية وانتحارية من اللاعقلانية.

وهكذا، منذ خمس سنوات على الأقل، بدأت نغمة «إرجاع سوريا الى الحضن العربي» كما لو أن النظام الأسدي استرجع «عقلانيته» بنتيجة نجاحه في الاستمرار ولو بكل هذه الكلفة. وأنه في الأساس نظام لم يسع إلى «تصدير ثورة» إلى البلدان الأخرى، بخلاف مصر الناصرية، وسوريا قبل «التصحيح» والعراق البعثي، وإيران الخمينية. وبالتالي، ما الذي يسوّغ دوام استبعاده من الجامعة؟ إذاً فليعد إليها. ففي نهاية المطاف أبلى هذا النظام البلاء الحسن في إخماد الربيع العربي، مثله مثل الأنظمة الأخرى، وإن اختلفت معه في الأسلوب، أو بالأحرى أما أنها ما أرادت ان تدفع فاتورة أسلوبه وإما لم تكن مقتنعة بنجاعة هذا الأسلوب. لكن «الجديد» هنا، وللحديث تتمة، أن حضور الأسد الابن القمة العربية تمثل بخطاب يقترح تلخيص كل عملية تقويض الربيع العربي من ألفها إلى يائها، من خلال حملته على «الليبرالية الحديثة» من جهة، و«التوسعية العثمانية» المقرونة «بالإخوانية المنحرفة» من جهة ثانية. كلمة الأسد الإبن كانت مانيفستو الإجهاز على الربيع العربي بامتياز، وليست فقط ملخصاً لمساهمته هو في هذا الإجهاز. في الوقت نفسه يظهر الخطاب، مشكلة الربيع نفسها حين لم يستطع أن يتجاوز ثنائية الليبرالية والإسلاموية. وحين لم يستطع أن يستعيد الفكرة العربية نفسها سواء من موميائية رطانتها عند النظام العربي الرسمي، أو من «حيويتها» الكابوسية في تجربة البعثين.

ربما الجملة الوحيدة التي كان يفترض أن تستكمل هذا المانيفستو الأسدي، وهي الجملة المستترة فيه، هي أنّ النظام الرسمي العربي «بعد الربيع» بات يحمل كله سمة بعثية.

* كاتب من لبنان

المصدر: القدس العربي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.