الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

قراءة متمعنة في الفكر السياسي للطيب تيزيني (1 – 4)

(الدولة الأمنية، رباعية الاستبداد، ثلاثية الفساد، الحطام العربي)

د- عبدالله تركماني

لم يكن فقيدنا الطيب تيزيني سياسيًا محترفًا، ولكنه اجتهد في تقديم إضافات للثقافة السياسية العربية، تمثلت في مجموعة مفاهيم ومقولات: الدولة الأمنية، رباعية الاستبداد، ثلاثية الفساد، الحطام العربي، النهضة، الديمقراطية، العلمانية. وكونه لم يكن محترفًا للسياسة فقد وقع في مجموعة هفوات، حاله كما حال بعض المثقفين والأكاديميين، بسبب الشرخ العميق بين السياسة والثقافة في العالم العربي.

ولعلَّ من أهم منعطفات الفكر السياسي للطيب تيزيني انتقاله من مشروعه الأول ” من التراث إلى الثورة ” إلى ” من التراث إلى النهضة “، حيث اعتبر أنّ الخيارات ” تختلف وتتغير وفق واقع الحال “، وأنّ ” المشروع النهضوي هو المشروع العمومي الضامن للجميع “. وفي سياق خياره الجديد، اكتشف ” أنّ المسألة الدينية أُهملت إهمالًا مرعبًا من جانب النخب الثقافية “، ورأى أنّ ” من المستحيل الوصول إلى أي فكر نهضوي، من دون إعادة قراءة الفكر الديني والدخول إلى روح الوسط الإيماني “. وفي هذا السياق، انتقل تيزيني من انتقاد، بل استبعاد أي دور للإسلام السياسي في تغيير المجتمع نحو الديمقراطية ودولة القانون، إلى الإقرار بأنّ التطور الديمقراطي لبلداننا لابدَّ أن يشمل الجميع، لأنّ الإسلاميين ” أصبحوا صوتًا مسموعًا وواقعيًا لا يمكن مجافاته ولا استبعاده “.

أما بالنسبة للدولة الأمنية، فقد تحدث تيزيني عن توصيفها وآليات عملها ” يجب أن يُفْسَدَ من لم يَفْسُدْ بعد “، بحيث يصبح الجميع ملوثين، ومدانين، وجاهزين تحت الطلب. وبذلك لا تبقى فئة تكون حاملة لعملية التغيير، بعد أن ابتلعت هذه الدولة ثلاث مرجعيات، حسب تيزيني: المرجعية السياسية، والمرجعية الثقافية، والمجتمع. وأرجع تشكّل الدولة الأمنية إلى الانقلابات العسكرية، ففي سورية تميّز الجيش بسمتين أساسيتين: أولاهما، بروز جيش يفتقد عسكريته بعد أن بسط هيمنته على المجتمع. وثانيتهما، إخفاق الجيش في مهمات الدفاع الوطني. إضافة إلى أنه راح يؤسس لمرجعيات سياسية وثقافية، اتجهت نحو القبول بنظام استبدادي شمولي. لقد أدى الاستئثار بالسلطة والثروة والرأي العام والحقيقة، في سورية، إلى إفراغ الساحة السياسية من القوى الحية في الداخل، مما جعله قابلًا إلى أن يكون لقمة سائغة أمام الغزاة.

كما تحدث تيزيني عن ” قانون الاستبداد الرباعي ” بالثروة والإعلام والسلطة والحزب المهيمن، حيث رأى أنّ قوام هذا القانون هو ” الدولة الأمنية “.

ولكنّ فقيدنا وقع في هفوات وتناقضات، عندما اشتغل في الشأن السوري العام، حين انتقد حراك المجتمع المدني السوري في العام 2000، بعد توريث السلطة لبشار الأسد، حيث اتهم النشطاء بـ ” قلة الخبرة والمعرفة السياسية “، واعتقد أنّ هؤلاء يقلبون أولويات العمل السياسي في سورية. من ” المجتمع السياسي ” إلى ” المجتمع المدني “، إذ رأى أنّ ” قيام الدولة الوطنية هو بمثابة الخطوة الكبرى التي تقود إلى المجتمع المدني “. ومن مظاهر تناقض مواقفه بشأن المجتمع المدني أنه وقّع على بيان الألف من نشطاء المجتمع المدني، كما ساهم، في العام 2004، في تأسيس منظمة ” سواسية ” الحقوقية. ومن هفواته أيضًا موقفه من ائتلاف ” إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي “، الذي تأسس في تشرين الأول/ أكتوبر 2005، حيث قال عنه ” إنّ الشرط التاريخي لصدوره يفصح عن نفسه بوصفه حالة مناسبة جدًا، مما يؤكد على الوعي المطابق الذي جسده هذا الإعلان “، ولكنه عاد فقال ” الإعلان لم يحقق وحدة الإشكالية السياسية السورية الراهنة “.

ولكنّ هذه الهفوات للمفكر الطيب تيزيني، قبيل اندلاع الثورة السورية، لم تمنعه من الانخراط في فعالياتها السلمية، مثل مشاركته في اعتصام أهالي معتقلي الرأي والضمير أمام وزارة الداخلية، في 16 آذار/ مارس 2011. كما سعى، ضمن حدود إمكانياته، لإيقاف المقتلة السورية، والوصول إلى حل سياسي، يخرج سورية من الكارثة التي حلّت بها. ومن أبرز مواقفه المعروفة، في دعمه للثورة السورية، ما قاله في اللقاء التشاوري، الذي دعت له السلطة في 10 تموز/ يوليو 2011، حيث رفض ادعاءات السلطة بـ ” أنّ المؤامرة خلف ما يجري “، وطالب بتفكيك الدولة الأمنية.

وفي كل مواقفه، طوال سنوات الثورة، كان يراهن على الداخل السوري، وتأكيده على أولوية الإصلاح الوطني الديمقراطي، وضرورة التأسيس لعقد اجتماعي جديد بين كل السوريين ” تتحدد مهمته المركزية في إعادة بناء المجتمع السوري، وفق قواعد وآليات النظام الديمقراطي “.

ويُعتبر التفكير النقدي، لدى الطيب تيزيني، العماد الرئيسي لأفكاره النظرية والسياسية(1)، إذ يعتبر أنّ معضلتنا في العالم العربي تكمن في سيطرة الأفكار الجامدة اللانقدية. ويبدو أنّ معالجة هذه الوضعية ” تشترط أدوات منهجية ومعرفية أكثر تماسكًا وعمقًا ودقةً وتشخيصًا مما هو الأمر حتى الآن، وهذا بدوره ينطوي على الإشارة إلى أنّ عنصر الشك المنهجي الجدلي يمارس دورًا مبدئيًا في إعادة صوغ الموقف الفكري العربي في وجهه الناهض. وهنا، نكون قد ولجنا ساحة التفكير النقدي الذي يتيح لنا، هو وحده تحقيق هذه العملية “(2).

لقد ناهض تيزيني الدولة الأمنية العربية، وحاول جاهدًا تفكيك المرتكزات الأربعة للاستعباد السياسي للفضاء الاجتماعي، التي تعيد إنتاج الطاعة ورفض منهج القمع ومصادرة الحريات، الذي تعتمده الأنظمة العربية للمحافظة على حكمها. فبالرغم من ظهور لحظات، في التاريخ العربي المعاصر، نشأ خلالها نوع من الترابط بين الثقافة والليبرالية، فإنّ الدولة الأمنية سرعان ما عرفت كيف تجهض الاثنتين معًا. من هنا، نما ذلك الشرخ العميق بين الثقافة والسياسة، الشرخ الذي راح يبرز في الحياة العامة، وكان من نتائجه أن أظهر المثقفين عاجزين عن فعل أي شيء، فكان على شرائح كبيرة منهم- في النهاية- أن تدخل البنية الأمنية للدولة. ومن هنا جاءت الهزيمة الكبرى، التي طاولت مشروع المثقف العربي. ذلك أنّ تحديث الفكر العربي هو ” عملية فكرية تمتلك خصوصيتها النسبية حيال عملية تحديث الواقع العربي المشخّص “، وأنّ ” الأخذ بهذا الموقف يجنّب النظر إلى مهمات المفكرين والمثقفين على أنها امتداد لمهمات السياسيين المباشرة. أما تجاوز هذا الموقف فإنّ من شأنه أن يقود إلى فهم ميكانيكي للعلاقة بين الفكر النظري والسياسة المباشرة، وأن يؤدي- بالتالي- إلى نشوء احتمال الإرهاب الفكري الذي يمارسه السياسيون ضد المفكرين، برغم عدم وجود تطابق بينهم وبين هؤلاء “(3).

وربط الجمود الثقافي بـ ” الاستبداد الشرقي ” وفك العلاقة بين الداخل والخارج، ونادى القوى الفاعلة في الداخل إلى مقاومة الهشاشة الذاتية، التي تستدعي القوى المهيمنة من الخارج، والتخلص من قابلية الغزو، والخروج من وضعية الاستعمار، وتغيير حالة التبعية والتشبث بالاستقلالية. وحمّل الفهم السكوني للدين مسؤولية الانحطاط، ودعا لاستئناف الاجتهاد وممارسة التأويل.

وفي سورية، حرص على الدعوة إلى ” الطريق الثالث “، الطريق الذي لا هو صدام ولا استكانة، هو طريق ” تحت سقف التصادم وفوق سقف التسليم “، يصلح عنوانًا لمشروعه، ورؤيته لما يمكن أن يُصلح الأحوال، ولو ببطء، بدلًا من ذهابها الحتمي إلى المصير الذي وصلت إليه.

…………….

الهوامش:

1 – كتب ودراسات الطيّب تيزيني (حسب ويكيبيديا)

  • مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط ، دار دمشق – دمشق 1971، خمس طبعات.
  • حول مشكلات الثورة والثقافة في العالم الثالث (الوطن العربي نموذجًا)، دار دمشق، دمشق 1971، ثلاث طبعات.
  • من التراث إلى الثورة (حول نظرية مقترحة في التراث العربي)، دار ابن خلدون، بيروت، 1976، ثلاث طبعات.
  • روجيه غارودي بعد الصمت، دار ابن خلدون، بيروت، 1973.
  • تاريخ الفلسفة القديمة والوسيطة، بالاشتراك مع غسان فينانس، جامعة دمشق، 1981.
  • التفكير الاجتماعي والسياسي (أبحاث في الفكر العربي الحديث و المعاصر)، جامعة دمشق، 1981.
  • مشروع رؤية جديدة للفكر العربي منذ بداياته حتى المرحلة المعاصرة من 12 جزءًا، دار دمشق، 1982.
  • الفكر العربي في بواكيره وآفاقه الأولى (مشروع رؤية جديدة للفكر العربي)، الجزء الثاني – دار دمشق، دمشق 1982.
  • من يهوه إلى الله (مشروع رؤية جديدة للفكر العربي)، في مجلدين، الجزء الثالث، دار دمشق، دمشق 1985.
  • دراسات في الفكر الفلسفي في الشرق القديم، جامعة دمشق، 1988.
  • ابن رشد وفلسفته مع نصوص المناظرة بين محمد عبده وفرح انطون/تأليف فرح أنطون، تقديم طيب تيزيني، دار الفارابي، بيروت، 1988.
  • في السجال الفكري الراهن (حول بعض قضايا التراث العربي: منهجًا وتطبيقًا)، دار الفكر الجديد، بيروت، 1989.
  • على طريق الوضوح المنهجي (كتابات في الفلسفة والفكر العربي)، دار الفارابي، بيروت، 1989.
  • فصول في الفكر السياسي العربي، دار الفارابي، بيروت، 1989، طبعتين.
  • مقدمات أولية في الإسلام المحمدي الباكر نشأةً وتأسيسًا (مشروع رؤية جديدة للفكر العربي)، الجزء الرابع، دار دمشق، دمشق 1994.
  • من الاستشراق الغربي إلى الاستغراب المغربي (بحث في القراءة الجابرية للفكر العربي وفي آفاقها التاريخية)، دار الذاكرة، حمص 1996.
  • النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة (مشروع رؤية جديدة للفكر العربي)، الجزء الخامس – دار الينابيع، دمشق 1997.
  • من ثلاثية الفساد إلى قضايا المجتمع المدني، دار جفرا، دمشق، 2001.
  • من اللاهوت إلى الفلسـفة العربية الوسيطة، منشورات وزارة الثقافة، سورية، 2005.
  • من ثلاثية الفساد إلى قضايا المجتمع المدني، دار جفرا، 2002.
  • بيان في النهضة والتنوير العربي، دار الفارابي، 2005.
  • بالألمانية Die Matemie auffassung in der islamischen Philosophie des Mittelalters , 1972 Berlin.
  • وكتب بالاشتراك مع آخرين:
  • الإسلام ومشكلات العصر الكبرى، دمشق، 1998.
  • الإسلام والعصر (تحديات وآفاق)، بالاشتراك مع محمد سعيد رمضان البوطي، سلسلة حوارات لقرن جديد، إعداد وتحرير عبد الواحد علواني، دار الفكر، دمشق 1998.
  • الواقع العربي وتحديات الألفية الثالثة، مع آخرون، مراجعة وتقديم ناصيف نصار، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2001.

2 – الطيّب تيزيني، فصول في الفكر السياسي العربي، دار الفارابي، بيروت 1989، ط 1 ص 106.

3 – حوار ابراهيم العريس مع الطيّب تيزيني، صحيفة ” الحياة “، لندن 17 نيسان/أبريل 2006.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: الحوار المتمدن

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.