الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

لماذا فشلت جهود السعودية بإقامة قمة عربية استثنائية؟ وما أبرز مفارقاتها؟

عقيل حسين *

لم يكن هناك أفضل من بشار أسد مَن ينتقم للسوريين من جامعة الدول العربية والقمة العربية الثانية والثلاثين التي عُقدت في مدينة جدة يوم الجمعة!

فقد ضرب القادة والزعماء العرب بعرض الحائط، ليس فقط كل ما ارتكبه بشار ونظامه الطائفي من جرائم وفظاعات بحق الشعب السوري، بل وحتى قرارات الجامعة العربية نفسها حول سوريا، هذه القرارات التي بموجبها تم تعليق عضوية سوريا في المؤسسة عام ٢٠١١، بعد عرقلة نظام ميليشيا أسد عمل لجنة التحقيق العربية حول سوريا، وتحويله البلاد إلى كارتل مخدرات وقاعدة إيرانية تستهدفان الدول العربية التي احتفى أكثر قادتها خلال القمة ببشار!

لكن وبدل أن يدخل بشار القاعة مطأطئ الرئيس متخذاً زاوية قصوى بعيداً عن الكاميرات والأضواء، باحثاً عن إسقاط تلك القرارات وممارسة الغش العربي في اعتبارها قد نُفذت ولذلك تم إعادة مقعد سوريا له ولنظامه .. بدل ذلك دخل منتفخ الأوداج، متطاول الرقبة، منفوخ الصدر كمنتصر، ليس على شعبه الذي قتله ودمره وهجره وحسب، بل وكذلك على الجامعة وأعضائها الذين أعادوه دون أن يفعل أي شيء، أو يتعهد بأي شيء!

وبدل أن يكون قد تعلم الدرس وفهم ما عليه أن يضمن خطاباته في القمم العربية، بعد كارثة “أشباه الرجال” التي لا تُنسى، وغيرها من عباراته الفلسفية والاستزلامية، عاد ليُؤسِتذَ على الحضور ويُملي عليهم ما يجب فعله من جديد، وما الذي يمكن للجامعة العربية أن تفعله وما الذي لا يمكن أن تفعله أيضاً.

ورغم أن أهم وأفضل قرار اتخذته الجامعة في تاريخها كله ربما كان تعليق عضوية النظام فيها إلى حين الالتزام ببنود المبادرة العربية للحل والتي تم إقرارها عام ٢٠١١، على أساس أنه قرار يأخذ بالاعتبار مصلحة الشعب لا مصلحة النظام الحاكم، ويطالب بتحقيق الديمقراطية وتقديم الحماية لهذا الشعب من بطش الجيش وقوات الأمن، إلا أن بشار أسد اعتبر في خطابه أمام الحضور بجدة هذا القرار، دون أن يسميه بالطبع، تدخلاً غير مقبول من الجامعة العربية بالشؤون الداخلية لأعضائها، وطالب بالتوقف عن ذلك وتعزيز دور المنظمة كملجأ ضد “العدوان” ومتنفساً ضد الحصار الذي يمكن أن تتعرض له الأنظمة فيها.

يريد بشار القول بلغة أخرى أو بما معناه: كيف سمحت الجامعة العربية لنفسها أن تفكر بحماية الشعب السوري من بطش جيشه ووحشية مخابراته؟

كيف أمكن لهذه المؤسسة التي لطالما كانت حصن الأنظمة ومركز إدارة العلاقات بينها وفق شبكة المصالح الرأسية أن تتبنى المعارضة ومطالبها بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان؟

كيف استطاعت هذه الجامعة في يوم من أيام عام ٢٠١١ أن تفكر كما تفكر الأمم المتحدة أو الاتحاد الأوروبي أو غيرها من التجمعات والمؤسسات الغربية والدولية، التي لطالما صدّعت رؤوسنا كقادة وأنظمة حكم عربية بالحديث عن الحريات والحقوق؟!

ولذلك فإن بشار طالب الجامعة العربية باستعادة دورها، والأهم “ترك القضايا الداخلية لشعوبها، فهي قادرة على تدبير شؤونها، وما علينا إلا أن نمنع التدخلات الخارجية”.

بمعنى واضح أيضاً يقول بشار: إذا رأيتم زعيماً يعذّب شعبه، أو نظاماً يقصف بلده، أو حكومة تعذّب المعتقلين من مواطنيها حتى الموت، فعلى الجامعة العربية أن تستعيد دورها في الصمت بل والدفاع عن هذه الدولة العضو فيها، فهل الحكومات والأنظمة هي الأعضاء أم الشعوب؟!

طبعا لم يكتفِ زعيم عصابة الكبتاغون أنه وحده من وجه الإهانات والتقريع والدروس للجامعة وأعضائها والزعماء العرب الحاضرين في القمة، بل وكدليل على عقلية مستحكمة في هذا النظام، فقد اصطحب بطائرته مذيعة سمجة تعمل في إحدى قنواته التلفزيونية، لتمارس الأستذة هي الأخرى، وتلقي الخطب التعليمية، وتقرّع أمين عام الجامعة العربية خلال المؤتمر الصحفي الذي تلا القمة.

كل ذلك أسعد السوريين المعارضين للنظام وجعلهم ينفّسون عن غضبهم الشديد من الجامعة وأعضائها، هذا الغضب الذي تفجّر وهم يشاهدون الاستقبال الحار الذي حظي به قاتلهم في جدة، والأحضان والمصافحات والقبلات بينه وبين بعض القادة والزعماء، وجعل أكثر هؤلاء الغاضبين يتنفسون الصعداء ويرددون: أنتم من جلبه وأنتم من كافأه وأنتم من سمحتم له بالعودة ليخاطبكم بهذه الطريقة كمدرس مُدّعٍ يتعامل مع تلاميذ مذنبين تعساء!

هل نجحت القمة العربية إذن؟

تتفق معظم التقديرات على أن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان أرادها قمة استثنائية يظهر من خلالها كزعيم استثنائي في المنطقة والعالم العربي، ولذلك دعا بشار أسد ليكتمل نصاب الدول الحاضرة ويزداد عدد القادة المشاركين، لكن الواقع أن نصف الزعماء العرب تغيبوا، بعضهم اعتاد على عدم الحضور في مثل هذه المناسبات، كملك المغرب وسلطان عُمان، لكن بعضهم الآخر غاب بسبب خلافات ما أمكن إخفاؤها.

فالرئيس الجزائري لم يحضر بسبب دعوة الرئيس الأوكراني لإلقاء كلمة أمام القمة دون استشارة حكومته، وأمير الكويت نواف الأحمد اعتذر عن عدم الحضور بسبب ما قيل عن حالته الصحية، بينما قالت الإمارات إن رئيسها لديه جولة أوروبية مقررة مسبقاً، بينما تقول المعطيات بوجود خلافات مع السعودية.

أما لبنان الذي يعيش فراغاً رئيسياً استدعى حضور رئيس الوزراء نجيب ميقاتي، فقد كان طبيعياً الأمر، مثله مثل اليمن وليبيا المنقسمتين حتى الآن كما هو معلوم، حيث حضر رئيس المجلس الرئاسي الليبي ورئيس مجلس القيادة اليمني كممثلين عن الحكومات الشرعية في هذين البلدين.

لكن أكبر مفارقتين في هذه القمة كان اعتذار رئيس جزر القمر وتغيبه، بحجة الارتباطات المسبقة، وكأن هذه الدولة الصغيرة الفقيرة لم تعد تعنيها كثيراً القمم العربية ولا حتى الجامعة، أما المفارقة الثانية فهي تمكن سفير من مزاحمة القادة على مقعد في القمة، وهو ما حصل للسفير السوداني في السعودية والذي كلفه قائد الجيش عبد الفتاح البرهان بتمثيله.

وبالعودة إلى سؤال “هل نجحت القمة؟” فإن غياب نصف القادة العرب عنها هو أهم مؤشر على عدم نجاحها، هذا إذا شئنا تجنّب الأحكام القاسية والقول إنها فشلت حتى من حيث الشكل في جمع أكبر عدد من الزعماء فيها، كما كان يريد بن سلمان ويأمل.

على صعيد المضمون:

الاهتمام بمن حضر ومن غاب، وأسباب أو مبررات أو ذرائع الغياب، والتركيز على سخافات بشار، وإفيهات محمود عباس الذي يحاول أن يخلف القذافي كما يبدو، وغير ذلك من مفارقات القمة، بالإضافة طبعاً للحفاوة الاستثنائية بحضور الرئيس الأوكراني وبكلمته خلالها، وذلك على حساب مخرجات القمة ونتائجها، تؤكد أن الرأي العام ما زال لا يعوّل على مثل هذه الأحداث، ولذلك فإن تفاعله معها مُنصبّ على الشكل أكثر من المضمون.

وإذا ما تفحصنا بيان القمة الختامي، نجد أن هذه اللامبالاة الشعبية مبررة وبقوة، إذا تبدو بنود البيان نسخة مكررة، وأنه بالكاد أتعب كاتبها نفسه بصياغتها، وعباراتها خالية من أي وعود يمكن أن يعوّل عليها المواطن العربي وينتظر تنفيذها لتغيير واقعه للأفضل.

فالجامعة العربية أكدت في بيانها، مركزية القضية الفلسطينية للأمة العربية جمعاء، كما حثّت السلطات اللبنانية على مواصلة الجهود لانتخاب رئيس للبلاد، وتشكيل حكومة بأسرع وقت ممكن.

وفي الشأن السوري، شدد البيان على تجديد الالتزام بالحفاظ على سيادة سوريا ووحدة أراضيها واستقرارها، وتكثيف الجهود لمساعدتها على الخروج من أزمتها، وإنهاء معاناة الشعب.

وفيما يرتبط بالسودان، تم تأكيد التضامن الكامل في الحفاظ على سيادة واستقلال البلاد ووحدة أراضيها، ورفض التدخل في شؤونه الداخلية باعتبار الأزمة شأناً داخلياً.

وعن اليمن، تحدث البيان عن الالتزام بوحدة وسيادة البلاد .. ودعماً للصومال، دعا البيان إلى دعم جهود الحكومة الصومالية في حربها الشاملة ضد الإرهاب.

وشدد البيان أيضاً على التأكيد المطلق على سيادة دولة الإمارات على جزرها الثلاث (طنب الكبرى، وطنب الصغرى، وأبو موسى).

وفيما يخص الملف الإيراني، رحب البيان بالاتفاق الذي تم التوصل إليه بين الرياض وطهران في بكين، أما عن تركيا، فقد أدان البيان توغل قواتها في الأراضي العراقية.

وفيما يخص مكافحة الإرهاب، أدان البيان كل أشكال العمليات الإجرامية التي شنتها المنظمات الإرهابية في الدول العربية والعالم.

ماذا يستفيد المواطن العربي من بيان كهذا؟، الجديد فيه هو التحاق دولة عربية جديدة (هي السودان) بقائمة الدول غير المستقرة والتي يطالب القادة العرب بالحفاظ على وحدتها وسلامة أراضيها!

لماذا حصل كل ذلك؟

لكن لماذا هذا الفشل، ولماذا لم تكن القمة العربية الثانية والثلاثون قمة استثنائية بالفعل، على الرغم من كل الوعود والمساعي السعودية التي بُذلت من أجل ذلك؟

تتعدد الآراء وتختلف الاجابات عن هذا السؤال الكبير بطبيعة الحال، بل وقد ينطلق كل عربي في موقفه السلبي تجاه نتائج قمة جدة من حاجاته الخاصة وطبيعة مشاكله المحلية، وصولاً إلى اهتمامات الجميع القومية، لكن نقاطاً عدة تشكل قواسم مشتركة بالنسبة لكل العرب وتجعل أحكامهم حيال القمة على هذا النحو السلبي.

أولاً: لم تتضمن أي من الكلمات التي أُلقيت فيها خروجاً عن السائد، فعاود القادة وممثلوهم الحديث عن التحديات السياسية ومخاطر الإرهاب والحث على التكاتف والعمل المشترك، ورفض التدخلات الخارجية الخ.

ثانياً: لم تقدّم القمة أي خارطة طريق لحل أي من المشاكل التي تعاني منها الدول العربية.

فبدلاً من التأكيد المكرور على الحفاظ على وحدة أراضي السودان، كان ينتظر العرب مبادرة واضحة المعالم لوقف الصراع فيه.

وعوضاً عن الاكتفاء بالتأكيد على حلّ الدولتين بما يخص القضية الفلسطينية، كان من الأفضل وضع تصوّر واضح لتنفيذ المبادرة العربية بهذا الخصوص، والتي لا تزال مركونة على الرف منذ عشرين عاماً تقريباً!

وأفضل من مطالبة القوات التركية بعدم التدخل في العراق، كان يتوجب على العرب إعلان تكفلهم باجتثاث حزب العمال الكردستاني الإرهابي من شمال العراق وسوريا، لانهاء أي حجة تستخدمها تركيا من أجل إرسال قواتها إلى هاتين المنطقتين.. وهكذا تطول القائمة ولا تنتهي.

ثالثاً: بينما تبرز قضايا التنمية والحريات كأهم أولويات الجماهير العربية وهي تنهي الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، تتراجع هاتان القضيتان على سلّم أولويات القمة العربية، لتحتلا زاوية قَصِية في البيان، حيث اكتفى الحضور بالتأكيد “على أن التنمية المستدامة، والأمن والاستقرار، حقوق أصيلة للمواطن العربي” وهي لغة تعود على الأقل لمطلع القرن الماضي، عندما كان العالم يصوغ مواثيق حقوق الإنسان الأساسية والأصلية، بينما تم تجاهل الحريات والديمقراطية في القمة وبيانها بشكل كامل، وكأنهما كلمتان محظورتان ممنوعتان في هذا المكان!

* كاتب وصحفي سوري

المصدر: أورينت نت

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.