الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

برهان غليون في «سؤال المصير»… العرب ومعركة الحداثة

بشير البكر *

“سؤال المصير” هو عنوان الكتاب الأخير للمفكر السوري برهان غليون، الذي صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. وهو يتناول السؤال الذي طرحه المثقفون العرب المعاصرون وأسلافهم حول سبب تقدم العالم وتأخر بلدانهم. ويشرح الكاتب في مقدمة طويلة تصل إلى حدود العشرين صفحة، المهمة التي يأخذها الكتاب على عاتقه، من خلال إعادة قراءة الوقائع التاريخية ونقد المفاهيم التي تحولت إلى بديهيات، ويتوقف عند فكرة الاستثناء العربي الذي يحيل مسألة تأخر العالم العربي، أي إخفاقه المستمر في الارتقاء بتنظيماته إلى مستوى المؤسسات الحديثة السياسية والاجتماعية والثقافية، إلى خصائص ذاتية متعلقة بطبيعة الدين أو العصبيات الطائفية أو القبلية وإلى مقاومتها الحداثة وقيمها.

ويرى غليون ضرورة قلب معنى الاستثناء رأساً على عقب، وبدلاً من أن يكون التخلف ثمرة إرادة الشعوب في البقاء على هامش الحداثة أو خارجها، بسبب تعلقهاً بتراثها أو تقاليدها، يصبح مرتبطاً باستثناء الدول الصناعية المركزية، التي تتحكمً في عوامل الحداثة المادية والتقنية والعلمية وصناعة الأيديولوجيا أيضاً، لهذه المجتمعات المتأخرة من التقدم، سواء كان ذلك من أجل احتفاظها بالسيطرة على الأسواق والموارد والمواقع الاستراتيجية، التي تزيد من فرصها في التقدم، أو للحد من خطر ظهور قوى جديدة اقتصادية واستراتيجية منافسة.

يشكل الكتاب محاولة للبحث عن جذور هذه الإعاقة على خطين متقابلينً ومتقاطعين معاً: سياسات الدول الكبرى واستراتيجياتها، وما أدت إليه من استقطاب عالمي بنيوي بين المجتمعات المركزية المتقدمة والمجتمعات الطرفية المتخلفة. وعلى الخط الثاني، يركز على الخيارات السياسية والاستراتيجية للنخب التي سيطرت ولاتزال على السلطة، وأدارت عمليات التنمية وبالأحرى إعاقة التنمية في البلدان المتخلفة. وهذا يعني أن مسألة التقدّم والتخلف ليست مكتوبة في نسيج أي عقيدة أو ديانة، وإنما هي ظاهرة تاريخية مرتبطة بشروط سياسية وجيوسياسية وثقافية واعية وخيارات استراتيجية لقوى مسيطرة. فهي ليست حتمية، وأبدية، وليس هناك ما يمكن أن يحول دون تجاوزها.

ويرى غليون أن الحداثة، بإعادة توزيعها فرص النمو والسيطرة والقرار لمصلحة المركز الأوروبي ثم الغربي، قلَبت تاريخ العالم ومجتمعاته رأسا على عقب. وبمقدار ما ركزت القرار والقوة والعقل والعلم والمعرفة والحياة والسعادة في الغرب حولته إلى قلب العالم، وخلقت حوله الأطراف، أي المجتمعات المتأخرة العاجزة والمتخبطة.

ويخلص في المقدمة المكثفة والغنية إلى أن الحداثة ليست نموذجاً جاهزاً، يكفي لتحقيقها السير على منوال ما عرفته المجتمعات الأوروبية في القرنين الماضيين، وتقليدها، بل هي معركة تاريخية يخوضها كل مجتمع لتغيير شروط اندراجه القسري في منظومة الحداثة. وفي هذه الحالة لا يعبر صعود الأصولية الإسلامية في العقود الماضية عن عودة الماضي وبعث أوهامه، كما درج على ترداده معظم الباحثين، بل يمثل بالعكس قطيعة مع التقليد الاسلامي الكلاسيكي، تحول فيها الدين عن هدفه وأصبح يستخدم كرأسمال سياسي في ميدان الصراع الدنيوي الأكثر فجاجة.

وقبل الدخول في عرض فصول الكتاب، تتوجب الإشارة إلى أن هذا العمل يشكل عودة إلى بدايات غليون المفكر في كتابه التأسيسي الشهير، الذي صدر منتصف السبعينيات تحت عنوان “بيان من أجل الديموقراطية“، ويمثل الجهد الجديد مراجعة ذاتية ونقدا لدور المثقفين في مجتمعات لا تكف الحداثة الرثة عن تفكيك عراها وتفجير تناقضاتها الداخلية، ومن ثم التذكير بالمسؤوليات الخاصة والكبيرة التي تقع على عاتقهم في العمل إلى جانب الشعوب من أجل تحقيق القيم الأساسية الملهمة في التحرر والانعتاق والمساواة والتضامن الإنساني.

يتناول القسم الأول من هذا البحث الشامل والموسوعي التذكير بمحاولات بعض أطراف النخبة الاجتماعية من رجال الدولة أو رجال الدين أو المثقفين المتنورين لكسر جمود النظم القديمة والسعي إلى إصلاحها، والتي بدأت منذ بدايات القرن التاسع عشر بقيادة السلطان العثماني سليم الثالث ومن بعده السلطان محمود الثاني، تحت ضغط تفاقم أزمة السلطنة العثمانية ومخاطر السيطرة الأوروبية، التي جسدتها حملة نابليون على مصر، ومن ثم إخفاقً الإصلاحات العثمانية التي جاءت تجسيدا لمطالب الدول الأوروبية وتطلعاتها الطامعة في اختراق أسواق السلطنة ودمجها في السوق الرأسمالية الصاعدة.

ويخصص غليون مساحة لوصف ولادة المثقف الحديث الحامل لإرث الحداثة وظهور النخب الإصلاحية في لحظة مفصلية تأجل فيها الإصلاح الديني والتجديد الثقافي، ويقول إن علماء ذلك القرن لم يطرحوا مسألة تحديث المؤسسات من زاوية الهوية الدينية، بل نظروا إليها بوصفها مسألة استراتيجية وجيوسياسية تتعلق بمصير الدول وتوازنات القوى. وعزوا ضعف ممالكهم إلى جهل الحكام السابقين وإهمالهم وعدم مراعاتهم لمصالح الأمة. ووجدت المشاريع التحديثية من هؤلاء وغيرهم من العلماء والإداريين والمثقفين الجدد من يتبناها ويدافع عنها. وساهم تطبيقها، سواء ما تعلق بنشر التعليم وبناء المدارس وإصلاح البنية التحتية وإصلاح أحوال الفلاحين، أو تجديد قوانين الملكية ونشر الأفكار السياسية الجديدة في تشكيل نخبة تحديثية وحديثة معاً، في حرمان رجال الدين من أن يحتكروا النقاش في المسائل العمومية. وأفضل من عبّر عن رؤية التحديث خير الدين باشا التونسي، الذي تحدث عن تدفق سيل التحديث الأوروبي، الذي لن يستطيع أحد أن يقف في طريقه. وفي سياق هذا الاحتفاء بالتقدم- الأوروبي- ولد المثقف الحديث المتميز عن عالم الدين والفقيه والحامل لإرث الحداثة. وكان ربط المجتمعات الإسلامية بعجلة التقدم العلمي والتقني، هو الذي جمع فصائل النخب الإسلامية الإصلاحية والعلمانية في ذلك الوقت حول عقيدة واحدة هي الإيمان بالتقدم التاريخي ضد الجمود والانحطاط. ولم يكن تأثر رواد الإصلاح الإسلامي الأوائل بفلسفة عصر التنوير التي سادت في أوروبا منذ القرن الثامن عشر، أقل من تأثر جميع المفكرين الآخرين بها.

وفي هذا الجو استقر اعتقاد العرب، على مختلف انتماءاتهم الدينية واتجاهاتهم السياسية، على أن العقبة الرئيسية أمام تقدم المجتمعات العربية وتحررها من انحطاط الماضي، تكمن في السيطرة الاستعمارية، وهذا ما أشعل الثورة العرابية في مصر العام 1879، وهكذا غيرت صدمة الاحتلال ترتيب الأولويات النهضوية فأجلت الحديث في الاصلاح الديني والتجديد الثقافي لحساب النشاط السياسي الوطني. وقد جاء ذلك في لحظة فشل الإصلاح العثماني وانفجار الصراع في إسطنبول بين الإصلاحيين والقوميين، الذين جنحوا إلى اتباع سياسات الحاقية ضد العرب، مما دفع هؤلاء الى الانفصال بالتعاون مع بعض الحكومات الأوروبية، ومن ثم تلا ذلك الانتداب والوصاية والانقسام بين النخبتين الليبرالية والاصلاحية الإسلامية. وكانت ثورة الضباط الأحرار في مصر العام 1952 نقطة فاصلة بين عهدين في السياسة والفكر في العالم العربي، وفي المشرق بشكل خاص. فقد عبرتً عن انسداد طريق التقدم الليبرالي والإصلاحي الاسلامي معا والرد عليه في الوقت نفسه. وصار تدشين المشاريع والمؤسسات الصناعية والتقنية أو تعميم الخدمات الاجتماعية، ورعاية المصالح الأساسية للطبقات الشعبية من عمال وفلاحين، مصدر الشرعية لهذا النمط من الأنظمة السياسية أكثر بكثير من الأيديولوجيا أو الانتخابات التمثيلية. ولم يعد التقدّم يتماهى مع توسيع دائرة ممارسة الحريات الفردية، بل مع حل مشاكل الفقر والبطالة. إلا أن انهيار مشاريع التحرر والتقدم العربي وإهالة التراب على وجوه أبطالها ورموزها، ثم تشويه سمعتهم، شكل ضربة قاصمة لمعنويات الشعوب ومزاجها. وكما كانت الحماسةً لهذه المشاريع عارمة في بداية إطلاقها، كان السقوط مؤلماً ومفجعاً. ولم يقتحم العرب التاريخ كما وعدوا أنفسهم به، ولم تردم هوة التأخر ولا تحقق الرد على التحديات الأجنبية أو إلغاؤها.

يتناول غليون في القسم الثاني الأحداث والوقائع التي أنتجت ما يسميه “المشرق الكسيح”، والتي سعت من خلالها الدول الأوروبية، بريطانيا وفرنسا وروسيا بشكل رئيسي، إلى تفكيك السلطنة العثمانية وتقاسم مناطق النفوذ فيها والوصاية على شعوبها، ومن ثم إعادة تشكيلها في الصورة التي أصبحت عليها بعد سقوط السلطنة، ونشوء الدول والدويلات الجديدة. ويصل الكاتب إلى تحديد الكيفية التي انهارت فيها أحلام التقدم العربي وذهبت أدراج الرياح الحركات التقدمية القومية والاشتراكية العلمانية وحلت محلها في الثقافة والسياسةً والاقتصاد والمجتمع، أفكار السلفية وأحلامها ومشاريعها وكوابيسها أيضا.

وينطلق غليون من فرضية أن تغيير الحدود، بالإلحاق، أو تفكيك الدول القائمة وتقسيمها، أو بناء تحالفات أو اتحادات فعالة في ما بينها، هو أحد السبل الرئيسية لقلب التوازنات أو تثبيتها على مستوى الصراع الدولي، الشامل والإقليمي على الهيمنة على القرار الدوليّ، ويستنتج أنه وإذا كانت هناك منطقة أدت الجيوسياسية وسياسات القوة وتوازناتها في القرنين الأخيرين دوراً حاسماً في رسم خرائطها وتحديد مواردها ونوعية الدول أوً ًالدويلات المسموح بها، فهي منطقة الشرق الأوسط وهوامشها العربية التي تحتل الشريط الجنوبي والشريط الشرقي للبحر الأبيض المتوسط. وبالتالي فإن ما نظر إليه الرأي العام بوصفه من أعمال التآمر، مثل التدخل المستمر، والضغوط الدائمة، ومقاومة مشاريع الوحدة أو التعاون بينها والاتجاه الدائم إلى تقسيمها، ليس في الواقع سوى سياسة واستراتيجيات مدروسة لحرمان المنطقة من تجاوز حدود معينة في ميزانً القوة. وهذا يعني أيضا في امتلاك فرص تعزيزها: الثورة الصناعية والتقنية والعلمية، والدولة-الأمة.

ويتطرق الكاتب إلى ما أنتج “المسألة الشرقية” التي تشير إلى هذا الإشكال أو التحدي الذي يوجهه تفكك “رجل أوروبا المريض” للدول الأوروبية: كيف يمكن الإجهاز على السلطنة العثمانية المتهاوية واقتسام أملاكها وفي الوقت نفسه عدم السماح للإمبراطورية الروسية الصاعدة أن تلتهم الجزء الأكبر من أراضيها، وتزيد من مخاطر توسعها وتفوقها. وفي هذا السياق، شجعت أوروبا مشروع الإصلاحات العثمانية التي سميت بـ”التنظيمات” على أمل المحافظة على فريستها حتى يحين وقت قطافها، وفي هذه الاثناء يظهر الباشا محمد علي في مصر ومعه أول مشاريع التحديث خارج القارتين الأوروبية والأميركية، وأول عمل قام به هو أنه بنى جيشا حديثا بمساعدة ضباط أوروبيين، وارسل البعثات الى أوروبا من أجل نقل التقنيات الحديثة في كل المجالات. ولكن أوروبا لم تتركه يكمل مشاريعه فحطمت قوته في معركة “نافارين” ومن بعدها اجبرته على الانسحاب من سوريا.

ويتوقف الكاتب أمام مرحلة ما بعد سقوط السلطنة العثمانية، عندما قررت أوروبا مصير المشرق العربي وفق اتفاقية سايكس بيكو، ورسمت حدود دوله وهويات سكانه عقوداً طويلة، بدلاً مما وعدوا الشريف حسين، أي المملكة العربية الواحدة الديمقراطية والتي تساوي بين جميع أفرادها على أساس المواطنة السياسية، وأعلنت سلطات الانتداب الفرنسية والبريطانية تقسيم البلاد وإقامة الكثير من الدول الطائفية أو الإثنية على أنقاضها. ودفعت الدول الناشئة في سبيل تأكيد سيادتها إلى المبالغة في إبراز التمايز، والانعزال، وإغلاق الحدود، وتقديسها. وفتح باب النزاعات والحروب الإقليمية التي لن تتوقف بعد تشكيلها. وكان من الطبيعي والمنتظر ألا تتمكن دول أو دويلات كهذه من التقدم أو النضج، لا من الناحية القانونية والدستورية ولا على مستوى المشاركة السياسية العملية وبلورة مفهوم المواطنة، ولا فيما يتعلق بإنتاج القيم والأخلاقيات المدنية الحديثة.

ويخلص غليون الى أن تقويض حلم الدولة-الأمة أحد الأهداف الرئيسية للسياسات الأوروبية لتفريغ المنطقة من القوة وخلق الفراغ الاستراتيجي الذي يبرر التدخل الأجنبي الدائم وتحويل الشرق الأوسط إلى منطقة سيطرة مباشرة وحزام أمان، ودوله إلى محميات ومناطق انتداب ومستعمرات.

                                    ****

يعمل الكاتب في القسم الثالث من كتابه “سؤال المصير” على تحليل علاقات السيطرة والنفوذ، وطبيعة الأيديولوجيا العنصرية وأشكالها المختلفة وتشكل بطانتها العميقة، ودور هذه العنصرية المستبطنة في إخصاء النخب المحلية وفصلها عن شعوبها ومجتمعاتها. ويعنون غليون بالخط العريض على فكرة أن الشرق الأوسط ما بعد الاستعمار أسوأ مما كان عليه قبله. هذا يفسر فشل منظمة الأمم المتحدة وميثاقها في إقامة الأمن والسلم العالميين اللذين وضعا في رأس لائحة أهدافها. كما يفسر الإخفاق الذريع، الذي ندفع ثمنه اليوم في أكثر من منطقة في العالم، في تصفية الآثار الكارثية للحقبة الاستعمارية، وفي القضاء على الأعطاب والاختلالات التي أورثتها للمجتمعات.

كان الاستعمار عاصفة تاريخية هائلة قلبت تاريخ المجتمعات البشرية، وقررت مصيرها جميعاً إلى حد كبير حتى اليوم. وكما هي الحال في جميع الظواهر الطبيعيةِ كالزلازل والقوى القاهرة، احتاجت المجتمعات إلى عقود طويلة حتى تجد وسائل للرد. ويرى الكاتب أنه إذا لم يكن هناك شك في أن سيطرة أوروبا على العالم جاءت بفضل ما حققته من تقدم علمي وتقني وعسكري أيضاً، فإن حفاظها على هذه السيطرة كان ولا يزال بسبب منعها الآخرين من تحصيل أدواته. فالأزمة التي تعيشها المدنية الحديثة أو الحداثة، غير ناجم عن فشل نخب الجنوب في تحويل المستعمرات السابقة إلى دول حرة وإطلاق مشاريع تنمية حضارية فعالة فيها فحسب، بل، قبل ذلك، في الإرث الاستعماري، وأكثر من ذلك في سيطرة مصالح الدول الكبرى المستمرة على أجندة السياسة العالمية وحرصها على تمديد سيطرتها الدولية.

ويرى الكاتب أن إعادة إنتاج علاقات السيطرة والتبعية، بما تعنيه أيضا من ربط مصالح لا يمكن حسمه مرة واحدة وإلى الأبد، وهذا يعني تشكيل كيانات كسيحة غير قادرة على الاعتماد على نفسها، وهذا ما أدى إلى تحويل عالم الجنوب المتأخر إلى معاق بنيوي، وحدد وظيفته في النظام العالمي كمسرح للتنافس على اقتناص الفرص والموارد الرخيصة والسائبة بين الشركات العالمية وحماتها من الدول الصناعية والمتقدمة، وقاد ذلك إلى إنتاج التفوق الأوروبي في الذهن والمخيلة والعقل بعد إظهاره في الفعل والواقع. ويرجع غليون بذلك إلى السجال بين ارنست رينان وجمال الدين الأفغاني حول ادعاء رينان بأن المسلم يكن احتقارا للعلم، والإسلام في طبيعته يتناقض مع العلم ومع الفلسفةَّ ويضر بالعقل، لذلك نجده يدخل معهما من أول وهلة في صراع، كما أن دوغمائيته هي التي تمنع الشرق اليوم من الانفتاح على العلوم وعلى الفلسفة، كشرط ضروري ِّلأي تقدم.

ولم يقتصر هذا التوصيف على رينان وهو من كبار الفلاسفة الأوروبيين من دون أدنى شك. فقد رأى ماكس فيبر، وهو أيضا أحد أكبر علماء الاجتماع الحداثيين، في العقلانية التي ميزت الأوروبيين، أحد العوامل الرئيسة التي ساهمت في انبثاق الرأسمالية، التي تقف وراء ولادة العالم الحديث والتغيرات الكبرى التي أعقبتها. وعزا تخلف عالم الإسلام، إضافة إلى نمط السلطة وسيطرة النزعة الجبرية وتسليم المسلم للقدر وما ينجم عن ذلك من ذهنية سلبية تجاه التاريخ والمصير والواقع، وهذا أيضا ما روج له برنار لويس الذي رأى في رفض المسلمين للحداثة تعبير عن البنية العميقة للإسلام كما يمثلها الفقه الإسلامي.

ويمر الكاتب على العمليات الإرهابية التي قام بها تنظيما القاعدة وداعش، وكيف أصبح الخوف من العنف والشعور بالخطر المرتبط به، يشكلان اليوم منطلق أي تفكير بالمجتمعات العربية وبالمنطقة المتفجرة بالفعل، ويساهمان في تكوين مواقف الرأي العام العالمي والغربي من مسائل الاحتلال والاستيطان وانتهاك حقوق الإنسان وإعاقة الديمقراطية ومشاكل التنمية والعالقات الدولية. وهو الذي يستخدمه المحللون لتفسير تنامي المواقف والسياسات المعادية للعرب، ليسً داخل البلدان الغربية فحسب، بل في العالم أجمع أيضا. وهكذا من أجل إعادة إنتاج “المشرق الكسيح” الذي صنع بالقوة كان لا بد من صنع صورة العربي العاجز والمفتقر إلى الارادة والعقل، المتوطن في الأيديولوجياً والدين، بعيدا من العالم القائم وخارج التاريخ. وفي رأي غليون أن هذا الحكم يتشارك به معظم المثقفين، الذين اكتشفوا أن المشكلة تكمن في تمسك العرب الشديد بتراثهم، وفي طبيعة هذا التراث الذي يعطي الأهمية للدين على حساب العقل، وهذا ما يتناوله الكتاب في القسم الرابع، الذي يركز على نقد الأيديولوجيا التي سيطرت على النخبة الاجتماعية وعملت على فصلها عن شعوبها، ودفعت بالكثير منها إلى التواطؤ مع الأنظمة الاستبدادية القائمة في نصف القرن الماضي.

ويتطرق الكتاب إلى البحث في تحليل كيف عملت الحداثة المعطوبة، التي تبعدنا من العالم الراهن بمقدار ما تقربنا منه، وعملها على” تخريب وعينا للواقع، واقعنا، حتى أصبحنا لا نراه إلا بعيون الآخرين”. ويتوقف غليون أمام كتب كل من صادق جلال العظم “النقد الذاتي بعد الهزيمة“، وعبد الله العروي “الأيديولوجيا العربية المعاصرة“، وياسين الحافظ “الهزيمة والايديولوجيا المهزومة“، التي ركزت نقدها على الشخصية العربية، ويرى غليون في هذا التشخيص الخاص للعطب العربي والإسلامي، وجد المثقفون أنفسهم في الموقع ذاته الذي وقف فيه مفكرو الأنوار الأوروبيون في مواجهة الكنيسة وطغيان الفكر اللاهوتي المعادي للتغيير.

ويضيف غليون انه في نصف القرن الماضي اجتهد جيل كبير من الباحثين والمفكرين في تذليل ما اعتقدوا أنه العقبات الكأداء التي تحول دون اكتساب أو تمثل الذهن العربي مناهج التفكير العقلي والانفتاح على المعرفة العلمية والتجاوب معها، ومقاومة الحلول والطروحات السحرية التي تمطرهم بها التيارات السلفية. وكان لكل من، محمد عابد الجابري وعبد الله العروي الأثر الأكبر في توجيه محور النقاش وفي تحديد المشكلات والإشكاليات في مسألة التحديث العقلي، ووضعها في إطار أو من منظور التقدم والحداثة، وإنتاجهما. ويعتبر غليون أن طروحات العقلانيين العرب تعيد إلى الذاكرة طروحاتً الاستشراق الرئيسية والتي عزت أيضا مسألة تأخر العرب أو تخلفهم عن الركب إلى تمسكهم بتراث قديم لا يتوافق مع متطلباتها ولا يدرك شروط توطينها. ويقول “نجح المستشرقون في رمي الكرة في ملعب المفكرين المسلمين ليتركز النقاش في التخلف والتقدم حول قابلية الإسلام لقبول الحداثة والمدنية أم لا. غير أن التطورات التي شهدتها المجتمعات العربية، كانت بمثابة صفعة قاسية للمثقفينً ونظرياتهم الأيديولوجية العقلانية والحداثوية التي اشتغلوا عليها عقودا طويلة”. ويرى أن الإسلاميين السلفيين اجتاحوا الساحات الفكرية والثقافية والسياسية وأخرجوا النخب العقلانية والعلمانية خارج ساحات الصراع وبقي الفكر العقلاني يراوح مكانه من دون أن يتجاوز عتبة الوعظ والتبشير.

ويتناول القسم الخامس من الكتاب ما سمّاه الكاتب “مكر التاريخ” أو “كيف صنع المثقفون الشعب الكسيح”. وفيه يعود إلى سؤال المصير حول أسباب تخلف العرب، ويصر على موقفه الذي عرضه على مدى صفحات الكتاب الذي يبلغ 232 صفحة، وهو يتلخص في إذا كان من الصحيح أن تأخر العرب وغيرهم يرجع بشكل رئيسي إلى ما سماه النهضويون أنفسهم الانحطاط، الذي لم يكن ثقافيا فحسب، بل علميًّا وتقنيًّا واجتماعيا واقتصاديا أيضا، فإن من غير الصحيح أن القطع مع هذا التراث أو إعادة تأويله هو المدخل والطريق إلى التقدم.

كتاب غليون مرشح لإثارة الكثير من النقاش وردود الأفعال لما يحمله من آراء تبدو صادمة جدا لقطاعات من المثقفين الحداثيين العرب، فهو من جهة يبرئ التراث من مسؤولية تخلف العرب، ومن جهة أخرى يفند ما سمّاه في بحوث سابقة بالحداثة كما تجلت في المجتمعات العربية ووصفها بالرثة، ذلك أن جميع المجتمعات أدرجت في منظومة الحداثة لكن على مستويات وبنوعية علاقات متباينة. وإذا اختفت أو كادت من العالم ما يمكن أن نسميه مجتمعات تقليدية تعيش خارج هذه المنظومة أو خارج تأثيرها، فإن جميعها لم تندمج في الحداثة أو ترتبط بها بالصورة ذاتها. لقد أعيد تشكيل بنياتها في مجرى تحديث العالم، لكن ليس بشكل واحد ولا لتأدية الوظيفة نفسها. ومن هنا تكمن أهمية نقد الحداثة التاريخية وإعادة تحويلها من أسطورة إلى واقع حي، هو واقع العالم كما هو اليوم، ببنيته الاقتصادية والجيوسياسية وحروبه ونزاعاته وانقساماته وتناقضاته وابتكاراته وإبداعاته وما ينجم عن كل ذلك من خراب مصالح البعض وازدهار مصالح البعض الآخر ومكاسبه ومنجزاته.

وما يثير الصدمة أكثر من غيره هو الموقف من التنوير الذي يسميه “دين العقل”، ويرى أن معركة التنوير، وتغيير وعي الجمهور ونمط تفكيره، حلت محل معركة التحرير وتغيير علاقات السلطة وشروط حياة الناس وأحوالهم المادية والاجتماعية والثقافية. وصار كسب معركة تحديث العقل العربي، لتأهيل الشعوب الرافضة الحداثة، المدخل الإجباري لجميع المعارك الأخرى، التنموية والديمقراطية والقانونية، وفي المقدمة إعادة تشكيل وعي النخبة المثقفة ذاتها، التي يعتبر أنها تموضعت في موقع رسول الحداثة وحامل مشعل العلم والعقل في مواجهة شعب فقد فجأة الأهلية للتقدم والقدرة على التفاعل مع قيم الحرية والسيادة والمشاركة السياسية الديموقراطية، في انتظار أن يعلن قبوله بمبادئ العلمانية والعقل. ويعتبر ان هذه النخب بعد أن كانت تفخر بموقعها الطليعي، أي بكونها المحرك لنضالات واحتجاجات الجمهور وقيادته في معارك الاستقلال والقومية والاشتراكية، صار همها تأكيد الانفصال عنه وإدانته لما يمثله من تخلف وتمسك (لا عقلاني) بتقاليد الماضي وخرافاته. وبذلك ينقلب معنى التنوير العقلي وغايته رأسا على عقب، وبذلك صار المثقف شريكا في انتاج الأنظمة الاجتماعية وإدامة وجودها كما عرفتها الشعوب العربية خلال نصف القرن الماضي، وتحول الإيمان بالعقل الذي يميز كل انسان في أوروبا، إلى ذريعة لنزع الأهلية عن الغالبية من السكان وتبرير عزلهم وأقصائهم في الحالة العربية.

وثمة أمر آخر وحكم يطلقه غليون على الكثير من المثقفين والباحثين العرب الذين “جندوا أقلامهم بوعي، ومن دون وعي، في الحرب الأيديولوجية والتشكيك في صدقية دين الإسلام”، وبالتالي فإن الصورة السوداء حول الإسلام ليست من صنع مثقفين غربيين فقط، بل “كانت بشكل أكبر من إنتاج وصناعة مثقفين مسلمين وعرب أصروا على إرجاع فشل حكوماتهمً وتناقض سياساتها ونزاعاتها جميعاً إلى مصدر واحد هو تمسك الجمهور بالتراث ورفضه الحداثة، مع تعميم الوهم بأن الإسلام دين خطير يسحر المؤمن ويملي عليه سلوكه في جميع نواحي حياته العاطفية والفكرية والسياسية والاجتماعية”.

وفي رأي غليون هذا هو انتحار المثقفين العرب، الذين تركوا ساحة المواجهة مع الأنظمة الديكتاتورية للقوى الإسلامية “انسحب المثقفون من ساحات المعارضة إلى ساحات الاستعراض الفكري، والنقاش السفسطائي، وانكفأوا على منتدياتهم الفكرية المغلقة”، واختصرت الحياة السياسية خلال نصف قرن بالصراع بين القوتين الإسلامية والدكتاتورية التي استخدمت خطاب المثقفين الحداثوي والعلمانوي لتحييد الرأي العام العالمي والمنظمات الإنسانية. وعلى هذا “لم تنجح دعوة التنوير في تنوير أحد”، لا نخبة مثقفة جديدة تنقذ رهان الحداثة، ولا جمهورا أكثر تنورا وعقلانية.

هذا عرض سريع لما ورد في هذا الكتاب الشجاع الذي يحتاج الى قراءة، بل قراءات نقدية معمقة لاحقة. فهو محاولة لاستخلاص دروس قرنين من صراع المجتمعات العربية القاسي من أجل تجاوز تخلفها ومواكبة عصرها، تتقاطع فيها التحليلات الجيوسياسية والسياسية، والاجتماعية، والثقافية، والايديولوجية. وهو مكتوب بطريقة مكثفة ومزدحم بالأفكار والآراء الجديدة التي ستهز الكثير من القناعات الجاهزة حول مسائل ومفاهيم التقدم والتأخر والحداثة والتخلف والجهل والتنوير والاسلامية والعلمانية والعقل والدين والنخبة والشعب، والهوية، والغيرية، والعنصرية. هذه محاولة لإعادة بناء اجندة الفكر العربي الحديث لما بعد ثورات الربيع العربي مستفيدة من دروس هذه الثورات القاسية، وهي تستحق الترحيب لما تمثله من شجاعة فكرية لا بد ان تفتح جبهات نقاش عديدة وتساعد على تحريك مياه البركة الراكدة.

* شاعر وكاتب سوري

المصدر: المدن

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.