الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

ألمانيا والنكبة و«صنع معاداة السامية»

علي حبيب الله *

منعت السلطات الألمانية هذا العام أيضاً، الفلسطينيين والجالية العربية والإسلامية عموماً، من تنظيم مظاهراتٍ لإحياء ذكرى النكبة، بعد أن منعتها في العام الماضي كذلك. كما منعت مظاهرات في ذكرى يوم الأسير الفلسطيني في نيسان/ أبريل الماضي، وأزالت الشرطة الألمانية قبل أيام جدارية الشيخ الشهيد خضر عدنان عن أحد جدران شارع العرب في برلين. وذلك تحت ذريعة أنها مظاهرات تتضمن “شعارات معادية للسامية وتشجيع العنف”.

عموما، ليس هذا المنع عرضيا ولا متصلا براهن ما، بقدر ما هو متشابك مع ديناميكيات تاريخية، أقل ما يمكن القول فيها إنها “حالة مرضية” من تفاقم الـ”فيلوسامية” التي تشهدها ألمانيا على مستويين الدولة والمجتمع في العقود الأخيرة. عن هذه الحالة، يحدثنا الكاتب الألماني – اليهودي أبراهام ملتسر في كتابه “صنع معادة السامية أو تحريم نقد إسرائيل” المُترجم والصادر في العام الماضي عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة.

ومن الأهمية بمكان، التعريف بمؤلف الكتاب، فهو كاتب ألماني – يهودي من مواليد سمرقند – أوزبكستنان عام 1945. هاجر إلى فلسطين طفلاً سنة 1948 مع والديه الناجيان من المحرقة النازية. وعاش ملتسر طفولته في البلاد لمدة عشر سنوات، إلى أن قرر والداه ترك فلسطين والعودة إلى ألمانيا في سنة 1958 حيث كان ملتسر في سن الثلاثة عشرة. في أواخر سنة 1967 وعلى إثر حرب حزيران/ يونيو ، اُستدعي ملتسر من ألمانيا للخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي بحكم مواطنته الإسرائيلية. بقي في البلاد لمدة نصف عام، أمضى فيه خدمته العسكرية، ثم أقفل عائداً إلى ألمانيا بعد يومٍ واحد من إنهائه الخدمة في سنة 1968. ليتحول بعدها من يهودي- إسرائيلي إلى ألماني- يهودي، ثم ناشطاً داعياً للسلام ومعادياً للصهيونية على إثر الانتفاضة الأولى في ثمانينيات القرن الماضي، يعمل في مجال الكتابة والنشر.

ما بين معاداة السامية والفيلوسامية:

يؤصل أبراهام ملتسر في مطلع كتابه لمصطلح “معاداة السامية” (Antisemitism) بوصفه مصطلحاً حديثاً ظهر في منتصف القرن التاسع عشر، لظاهرة قديمة متصلة بكراهية اليهود في أوروبا. ومصطلح معاداة السامية، كان قد انبثق في سياق تحول تلك الكراهية من بُعدها التاريخي- الديني، أي كُره اليهود بوصفهم جماعة دينية، إلى كُره أُكسب غطاءً إثنيًا. ثم جرى دعم ذلك الكُره بنظرية عنصرية، مبنية على حجج بيولوجية “علمية” تجلّت عداءً كان ذروته مع الحركة النازية في ألمانيا، والتي انتهت بما يُعرف بـ”الحل النهائي والمحرقة” خلال الحرب العالمية الثانية.

أراد ملتسر من هذا التأصيل التأكيد على أمرين، الأول؛ أن معاداة السامية هي أولاً وأخيراً ظاهرة أوروبية المنشأ، لا علاقة للمجتمعات العربية والإسلامية في الشرق الأوسط فيها، لا تاريخياً ولا في التاريخ المعاصر. بحيث أن موقف العرب والمسلمين من إسرائيل مشتق من الصراع مع الصهيونية كحركة شوفينية استعمارية.

وثانيا؛ هو التمييز ما بين معاداة السامية ورفضها، وبين الفيلوسامية الحديثة في ألمانيا ما بعد الحرب، وتحولها الهوسي إلى الدفاع الأعمى عن الدولة اليهودية مؤخراً. بحسب ملتسر، فقد ظهرت الفيلوسامية في ألمانيا وأوروبا عموماً، بالتوازي مع ظهور معاداة السامية في أواسط القرن التاسع عشر. والتي كانت تعني في حينه التعاطف مع اليهود في ظل تفاقم نزعة معاداتهم أثناء وجودهم في أوروبا. غير أن الفيلوسامية في ألمانيا ما بعد الحرب، باتت تترجم بـ”انحياز الألمان المفرط لإسرائيل أو الدولة اليهودية”. والتي يرى بها ملتسر، حماسة ساذجة وتافهة تقتات على مشاعر الذنب والتكفير الألمانية، يحتقرها حتى بعض اليهود في ألمانيا نفسها. وقد أشار ملتسر إلى بعض الأمثلة على حالة الفيلوسامية المتمثلة في تيارات وحركات مسيحية في ألمانيا ما بعد الحرب منها حركة “مسيحيون من أجل إسرائيل” وهي حركة قوية داخل الكنائس المسيحية الألمانية. واتجاه “حب إسرائيل” بين الإنجيليين، التيار المسيحي المحافظ، مما يفسر بالنسبة للكاتب وقوف المستشارة الألمانية السابقة، أنجيلا ميركل، تقليديا إلى جانب إسرائيل.

ليست الفيلوسامية في ألمانيا تيارا يقف ضد معاداة السامية، فهذه الأخيرة غير موجودة أصلا بين الألمان اليوم بحسب ملتسر. إنما الفيلوسامية، المتمثلة بالدولة والمجتمع الألمانيين، باتت منظومة تنزع إلى مطابقة معاداة السامية بنقد سياسات إسرائيل. مطابقة، تداوم فيها السلطات الألمانية على تحريم نقد إسرائيل عبر اعتبار كل موقف من الصهيونية وسياسات إسرائيل ضد الفلسطينيين والعرب في الشرق الأوسط أنه موقف معاد للسامية فيه كُره لليهود لكونهم يهودا. وذلك للحد الذي جرى فيه الاشتغال على وعي كثير من الألمان، بأنهم ألمان طيبون طالما لم يقتلوا يهوديا واحدا.

من عقدة ذنب إلى خلط متعمد:

يُحيل أبراهام ملتسر في كتابه إلى ما يُعرف بـ”عقدة الذنب” المُلازمة للدولة والمجتمع الألمانيين منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، في الشعور الدائم بالمسؤولية عن المحرقة التي ارتكبها النازيون. إلى أن غدت مبرراً ليس فقط لصمت مؤسسات الدولة الألمانية وأحزابها بما فيها أحزاب اليسار مثل حزب الخضر، عن ممارسات إسرائيل في الأراضي المحتلة. لا بل وحساسية هذه المؤسسات والأحزاب تجاه أي نقد يوجه للدولة العبرية وممارساتها.

فيما يؤكد صاحب كتاب “صنع معاداة السامية” وبصفته يهودياً، على أن لا كراهية في ألمانيا اليوم لليهود فيها. ثم يستعين الكاتب بجملة من التقارير والدراسات والإحصائيات الألمانية المتعلقة بالـ”جرائم على خلفية سياسية أو هوياتية”، منها تقرير لوزارة الداخلية الألمانية في عام 2012 عن جرائم ذلك العام السياسية التي بلغ عددها 2464 جريمة، ولم يكن من بينها سوى 41 حالة صُنفت من ضمن جرائم “أعمال عنف معادية للسامية”. وبهذا تعبّر هذه الأرقام بالنسبة للكاتب عن مدى ضآلة الحوادث المتصلة بمعاداة السامية في ألمانيا.

كما يقارن الكاتب بين معدلات حوادث العنف المتعلقة بـ”معاداة السامية” خلال عام 2012 ما بين ألمانيا وفرنسا، بناء على بيانات ومعطيات رسمية، ليجد أن فرنسا قد سجلت قرابة 310 حادثة مرتبطة بمعاداة السامية، منها 81 جريمة تُعد جرائم عنف. ومع ذلك، لا وجود للفيلوسامية المفرطة في فرنسا مثلما هي في ألمانيا في العقود الأخيرة.

كما يميّز أبراهام ملتسر بين “معاداة السامية” وبين الشعور بالاستياء من اليهود، لناحية أن بعض مشاعر العداء لليهود هي ناجمة عن شعور بالاستياء منهم أو من دولتهم اليهودية، وليس لهذا الشكل من المشاعر أي علاقة بالضرورة بالأحكام المسبقة عن اليهود. لا بل يشير ملتسر إلى واحدة من الدراسات الألمانية التي أجرتها مؤسسة برتلزمان (Bertelsmann Stiftung) في عام 2015، والتي تثبت تراجع معاداة السامية بين فئة الشباب في ألمانيا، من جهة. ومن جهة أخرى تبيّن الدراسة ارتفاع نسبة الانتقادات للسياسة الإسرائيلية عند نفس الفئة العمرية الشابة.

إن هذا الخلط بين معاداة السامية ونقد الصهيونية المُتعمّد، يراه ملتسر مغرضا، يُراد به تكميم أفواه كثيرين، بينهم مثقفون وصحافيون وناشطون ألمان وغير ألمان، عن أي نقد لممارسات إسرائيل في فلسطين، عبر التلويح بعصا معاداة السامية. وقد حذّر حتى مثقفون يهود من ذلك، منهم الصحافي الإسرائيلي غدعون ليفي في صحيفة “هآرتس” في تاريخ 8 كانون الأول/ ديسمبر 2019، الذي اعتبر أن خلط نقد سياسات إسرائيل بمعاداة السامية، سيفضي بالضرورة إلى موجة جديدة من المعاداة للسامية.

نهج ومفارقات:

ويعرّف صاحب كتاب “صنع معاداة السامية” عن الشكل المنظم والممنهج الذي تشتغل فيه الماكينة الألمانية على تحريم نقد إسرائيل بأدوات مختلفة منها القانون الألماني عبر سلطتها القضائية، إضافة إلى بروباغندا الإعلام والنشر، فضلاً عن دور اللوبي اليهودي- الصهيوني المُمثل في “المجلس المركزي لليهود” في ألمانيا ودوره في تجريم كل صوت يحاول انتقاد الصهيونية وإسرائيل باعتباره “معاداة للسامية”. وقد أورد ملتسر عدة أمثلة في كتابه لدور هذا المركز بوصفه أحد أكثر الجبهات الفعّالة للدعاية الخارجية لإسرائيل في الترويج لـ”معاداة السامية الجديدة المنتشرة في العالم”. الأمر الذي يجعل من اليهود “يهوداً في ألمانيا” عوضاً عن أن يكونوا “ألماناً يهود”. وهذا ما تريده الصهيونية بحسب ملتسر.

ويشير أبراهام ملتسر إلى مفارقتين متصلتين بجهتين تقفان خلف سياسة تحريم نقد إسرائيل عبر الترويج لـ”معاداة السامية الجديدة” في ألمانيا وخارجها. الأولى: اليهود الصهاينة أنفسهم في ألمانيا. والمفارقة في أن هؤلاء اليهود الصهاينة الذين لا يتركون مناسبة في ألمانيا دون التعبير فيها عن ولائهم ومشاعرهم النابضة تجاه إسرائيل، يعتبرون في الوقت نفسه أي حديث عن ولائهم ذاك معاداة للسامية مستبطنة ضدهم. ويضرب ملتسر مثالاً على ذلك عن الرئيسة السابقة للمجلس المركزي لليهود في برلين، شارلوت كنوبلوخ، التي كانت الممثلة العليا لليهودية في ألمانيا بين عامي 2006 و2010، إذ كانت تعبر في كل مناسبة عن أن قلبها ينبض لإسرائيل، بيد أنها عندما كانت تُسأل لماذا لا تنتقل إلى إسرائيل، تعتبر ذلك معاداة للسامية.

سبق وأن أشار الدكتور عزمي بشارة في أواخر تسيعينات القرن الماضي إلى مثل هذه المفارقة في سياق محاججته ورده على الصهاينة وتناقضهم بمطابقتهم اليهودية كدين وقومية معاً. بينما أكّد بشارة على أن اليهودية هي دين ليس إلا. متخذا من حالة يهود أميركا مثالا، إذ أشار إلى أن “أي محاولة للنظر إلى يهودية اليهود كإنتماء قومي في أميركا، تُصنف معاداةً للسامية بنظرهم”.

أما المفارقة الثانية: فهي متعلقة بالتيار المسيحي الأصولي في ألمانيا وباقي الدول الأخرى في أوروبا والولايات المتحدة. والذين يبدون ولعا غير مبرر بالصهيونية وإسرائيل ويعتبرون نقدهما معاداة للسامية. بينما هم كأصوليين مُعادين للسامية (اليهودية) بطبيعتهم. يشير ملتسر إلى هذه المفارقة، دون أن يُجيب على سؤالها، لماذا؟ إلا أن المفكر السلوفيني سلافوي جيجك يجيب على سؤال هذه المفارقة في كتابه “هل ينقذ الدمار البشرية؟” بقوله: “ليس الأمر أن الأصوليين المسيحيين قد تغيّروا، بل إنّ الصهيونية نفسها، في كراهيتها اليهود الذين لا يتماهون كليًا مع سياسة دولة إسرائيل، أصبحت على نحو مفارق معادية للسامية”.

مُعاداة مستوردة من صفوف اللاجئين:

ويقول أبراهام ملتسر إن “أشنع ادعاء انتشر في ألمانيا، في سياق الحديث عمّا يسمى أزمة اللاجئين- العرب والسوريون تحديداً- جاء على لسان رئيس المجلس المركزي لليهود في ألمانيا، الدكتور جوزف شوستر، في خريف عام 2015. وقد ادعى قائلاً: “إننا نستورد مع اللاجئين معاداة السامية أيضا”، كما ادعت من سبقته في رئاسة المجلس، كنوبلوخ، بتصريح مماثل قالت فيه إن “هؤلاء اللاجئين ينتمون بالأصل إلى بلدانٍ تُعتبر فيها معاداة السامية جزءاً لا يتجزأ من تنشئتهم الاجتماعية”.

ويعتبر ملتسر، مجرد القول إن ألمانيا “تستورد معاداة السامية” خِسة غير مسبوقة، وبرأيه: لا تحتاج ألمانيا ولا أوروبا إلى استيراد معاداة السامية. مما دفعه ذلك أيضا إلى عقد مقارنة تاريخية موجزة عن وضع اليهود في السياقين الحضاريين الأوروبي الغربي في مقابل الإسلامي الشرقي، يثبت فيها أنه لم يحدث أن وقعت مذبحة واحدة- قبل بدء الصراع العربي- الإسرائيلي- بحق يهود الدول العربية الإسلامية. بينما، ما الذي لم تفعله أوروبا بحق وضد اليهود فيها؟!! بدءًا بطردهم من إسبانيا في نهاية القرن الخامس عشر، وصولاً إلى حرقهم في الحرب العالمية الثانية.

إن اللاجئين القادمين خصوصاً من سورية إلى ألمانيا، لديهم بالتأكيد مواجهة مشاكل مختلفة تماماً من أن يحصروا تفكيرهم في اليهود الموجودين هنا، يقول أبراهام ملتسر. كما أن موقف اللاجئين العرب والمسلمين عموماً من اليهود الصهاينة في ألمانيا مرده إلى قضية فلسطين واستعمار الصهاينة لها، لا معاداةً للسامية. ومن هنا، يبيّن لنا ملتسر، دور وأثر المجلس المركزي لليهود في تعبئة الألمان ضد اللاجئين العرب والمسلمين تحت زيف شعار “جلبهم معاداة السامية معهم “. بينما الحقيقة، في أن بعض الألمان باتوا أكثر وعيًا لسياسات وممارسات إسرائيل الاستعمارية في الأراضي المحتلة مع قدوم اللاجئين مؤخرا.

أخيراً:

يزخر كتاب “صنع معاداة السامية” بالتفاصيل والمواقف والأدوات التي يجري عبرها صنع معاداة للسامية غير قائمة أصلاً في المجتمع الألماني. في محاولة بات غرضها هو تحريم نقد إسرائيل وسياساتها في فلسطين، بالتالي خنق أي مساحة ممكنة بوجه الرواية الفلسطينية وقضية الفلسطينيين، إلى الحد الذي صار يعتبر فيه التضامن مع الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية أو إحياء ذكرى النكبة معاداة للسامية وتحريضاً على العنف.

فالدولة الألمانية بمؤسساتها القضائية والتشريعية والتنفيذية وكذلك أحزابها على اختلاف مشاربها، ساهمت كلها مساهمة تاريخية تحت طائل “عقدة الذنب” تجاه اليهود في بناء وعي ألماني مُفرط في حساسيته تجاه إسرائيل ونقدها. فضلاً عن مؤسسات المجتمع المدني، ومؤسسات الرقابة، ومراكز الدراسات والنشر، بالتواطئ مع لوبي الضغط الصهيوني المتمثل بالمجلس المركزي لليهود في ألمانيا. ناهيك عن من أطلق عليهم أبراهام ملتسر بـ”صيّادي معاداة السامية” في ألمانيا وخارجها، من صحافيين وإعلاميين مشبوهين، كان قد أفرد عنهم ملتسر فصولاً في كتابه، تحدث فيها عن دورهم في معاداته هو شخصياً. بالتالي تجريمه، وتجريم كل صوت ناقد للصهيونية بوصمه معادياً للسامية.

* كاتب فلسطيني وباحث في التاريخ الاجتماعي

المصدر: عرب 48

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.