الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

معاوية بن أبي سفيان و”طريق الحرير”.. “المفارقة الأموية” بين المصادر الإسلامية والأرشيف الإمبراطوري الصيني

تيسير خلف *

“المفارقة الأموية”، واحدة من معضلات التاريخ العربي والإسلامي غير القابلة للفهم، طالما ظلت الكتب والأبحاث العربية المعاصر تعيد إنتاج الروايات المنحازة المتضمَّنة في المصادر التاريخية العباسية. وحين نذكر مصطلح المفارقة (Paradox)، فإننا نعني تلك المسألة، غير القابلة للفهم، والتي يلمسها أي دارس أو مؤرخ يبحث في حقبة صدر الإسلام، بين مقدمات تطرحها مصادر شكلت عماد الرواية التاريخية العباسية التي يمثلها خير تمثيل عمدة التاريخ العربي أبو جرير الطبري من جهة، وبين النتائج التي لا تتناسب مطلقا مع المتغيرات الدولية الكبرى التي رصدتها المصادر والأرشيفات التاريخية لبعض الممالك والامبراطوريات المعنية بهذه المتغيرات ومنها الأرشيف الامبراطوري الصيني من جهة أخرى.

تحويل المثالب إلى فضائل:

يصلح معاوية بن أبي سفيان كأنموذج ممتاز لتلك المفارقة، حيث تقدمه المصادر التاريخية الإسلامية المكتوبة في العصر العباسي الأول، من قبيل كتب سيف بن عمر الضبي، وأبي مخنف لوط بن يحيى، ومحمد بن عمر الواقدي، تصوره مجرد طامع مغتصب للسلطة، أمضى سنوات حياته يحيك الدسائس لتثبيت “ملكه العضوض”، وتأسيس “سلالة هرقلية كسروية حاكمة بالبغي على حق آل البيت في الحكم”، وباتخاذ حادثة قتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان ذريعة للوصول إلى “غايته الدنيئة” تلك.

وتغدو دعوته للاحتكام إلى كتاب الله في معركة صفين في تلك المصادر مجرد خدعة، من دون إقناعنا بمكمن تلك الخدعة في هذه الدعوة المنطقية والمحقة لحق دماء المسلمين، والتي نتج عنها “قضية التحكيم”، أكبر وصمة عار في جبين معاوية وعمرو بن العاص في بعض المصادر الإسلامية. وتتغافل تلك المصادر عن قتل خليفة وأمير مؤمنين في بيته، ومحاولة إلصاق تهم باطلة ضده، في تبرير خجول لقتلته الذين أثبتت الروايات الإسلامية نفسها أنهم مجرد أشخاص طامعين بالسلطة والمال.

ومن أجل تثبيت ذلك الانطباع شديد القتامة عن معاوية بن أبي سفيان، حرصت مصادر إسلامية على التغاضي عن منجزاته العسكرية الكبرى، ودوره في حركة التاريخ، وتغيير مسار حركة التجارة العالمية، وخصوصا طريق الحرير الذي قامت بسببه إمبراطوريات واختفت أخرى.

ومع أن المؤرخين العرب والمسلمين في الحقبتين الأيوبية والمملوكية تنبهوا لهذه المفارقة وحاولوا جاهدين حلها، إلا أنهم لم ينجحوا البتة في مسعاهم ذاك، والسبب أنهم كانوا أسرى مصادر ومرويات الطبري صحيحها وفاسدها، ولذلك انصبّ جهدهم على تحويل مثالب معاوية، مثلما ترد في كتب الحقبة العباسية إلى فضائل عبر جهود لغوية وتفسيرية متكلفة غير مقنعة. وكمثال على ذلك محاولة تحويل تهمة زنا هند بنت عتبة، والدة معاوية في قصة الفاكه بن المغيرة الشهيرة، إلى فضيلة عبر تنبؤ الكاهن اليمني لها بأنها ستلد ملكا، من دون نفي القصة الركيكة الملفقة والمختلقة جملة وتفصيلا. وكذلك تحويل قصة عجيزة معاوية الكبيرة (!) إلى فضيلة، عندما يصبر ويَحلُمُ على شخص وضع يده عليها مشبها إياها بعجيزة والدته هند! وقصص أخرى من هذا القبيل، كثيرة مخجلة.

فتح أرمينيا وطريق الحرير:

التزمت الفتوحات الإسلامية في عهد الخليفة عمر بن الخطاب باستراتيجية فتح البلدان التي يشكل العرب فيها النسبة الأكبر، ولذلك كان حريصا على ألا تجاوز الفتوحات مواطن القبائل العربية في الشام والعراق ومصر، وكان من أشد معارضي ركوب البحر.

ولكن بعد مقتله نجح معاوية وعمرو بن العاص وعبد الله بن سعد بن أبي سرح كما يبدو في إقناع الخليفة الجديد عثمان بن عفان بالتمدد شمالا وغربا، وتحويل الفتوحات إلى مصدر عائدات ليس فقط بفرض ضرائب على الرعايا الجدد، بل بالاستفادة من عائدات طرق التجارة الدولية التي كانت المصدر الأهم في تمويل الامبراطوريتين البيزنطية والساسانية.

يظهر سعي معاوية المبكر للاستحواذ على الجزء الغربي من طريق الحرير البري عبر سلسلة من المعارك المدروسة بعناية والمتكاملة في نهاية المطاف، التي خاضتها جيوشه، بدءا من فتح أرمينيا والقوقاز، وصولا إلى الاستحواذ على جزر قبرص وكوس ورودس وما بينها من جزر صغيرة تشكل محاطات بحرية وصولا إلى أوروبا.

هذه المساعي لا نقرأ عنها في المصادر الإسلامية سوى شذرات لا تكفي لفهم ما جرى، والسبب أن رواة الأخبار المسلمين كان هدفهم التقليل من شأن هذه الفتوحات من جهة، ونسبتها إلى جنود وقادة من دون الإشارة إلى اسم معاوية بن ابي سفيان، وهو أمر لا نجده في المصادر السريانية والأرمينية والبيزنطية والصينية، والتي تحدد اسم القائد، وهو معاوية، وتسترسل في نقل تفاصيل معاركه ونتائجها.

ينسب الطبري ومعه البلاذري فتح أرمينيا لعياض بن غنم، المتوفى سنة 20 هجرية في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، مع أن عياض لم يفتح أرمينيا عمليا بل بلاد الجزيرة الفراتية ذات الأغلبية السكانية العربية، ولسبب محدّد هو الضغط على قبائل العرب النصارى المشاركين في الحملات البيزنطية. وإن حدث وتوغلت قواته قليلا في بعض المناطق الأرمينية المحاذية للجزيرة، فإنه لم يفتحها رسميا، بل حصل فتحها على يد أحد قادة معاوية بن ابي سفيان الرئيسيين، وهو حبيب بن مسلمة الفهري، والذي شكك مؤرخ “فتوح البلدان” الشهير البلاذري بتبعية حبيب بن مسلمة لقيادة معاوية، ونقل رواية أن عثمان بن عفان هو الذي كلفه بفتح أرمينية.

هدف جيوسياسي:

لا يمكن فهم سعي معاوية بن أبي سفيان ودأبه على فتح أرمينيا من دون وضع هذا الفتح في سياق فتح آخر لا يقل أهمية عنه، قاده سراقة بن عمرو سنة 21 هجرية، وهو فتح مدينة الدربند (باب الأبواب) في داغستان الحالية في معارك مطاردة آخر أباطرة الساسانيين الذي كان يسعى لاستعادة العراق بدعم صيني على ما يبدو، فهذه المدينة كانت أهم محطة على طريق الحرير، فما فعله حبيب بن مسلمة هو السيطرة على بقية الطريق وصولا إلى ميناء تفليس في جورجيا الحالية، وهي المحطة الرئيسة الثانية في الجزء الغربي من طريق الحرير، قبل شحن البضائع إلى الفسطنطينية.

وتزودنا المصادر السريانية بتفاصيل مهمة عن سير المعارك على هذه الجبهة، إذ يذكر البطريرك ديونيسيوس التلمحري المعاصر لهارون الرشيد في أحداث سنة 958 يونانية، و25 هجرية، نقلا عن كتاب تاريخي وضعه ابن قائد عسكري سرياني في القوات البيزنطية يدعى يوحنا الرصافي، كان شاهد عيان على الأحداث، ما يلي: “لقد قسم معاوية قائد العرب جيشه إلى معسكرين، وعين حبيب الشرير قائدا لأحدهما، وأرسله في تشرين إلى أرمينيا، فلما بلغوها وجدوها مغطاة بالثلوج، فأتوا بثيران وسيروها أمامهم، فمهدت لهم الطريق، فدخلوها دون أن يحولهم عنها الثلج، أو يشعر بهم السكان، إذ لم يخطر ذلك على بالهم. فحارب العرب الأرمن، وغنموا وأسروا عددا كبيرا، وأحرقوا القرى وعادوا إلى موطنهم فرحين، أما الجيش الذي يقوده معاوية فجاء إلى قيصرية قبدوقيا، وعبروا الحواجز، ووجدوا قرى مكتظة بالناس والحيوانات فغنموها. ثم حاصر معاوية المدينة وقاتلها مدة عشرة أيام، وأخيرا دمر الولاية برمتها وترك المدينة معزولة.. ثم أعاد الكرة إليها بعد عدة أيام وحاربها. وإذا رأى زعماء وقادة قيصرية قبدوقيا أن لا مناص من الغضب الآتي، استسلموا وطلبوا الإبقاء على حياتهم، فخرج الزعماء ووقعوا تعهدا بدفع الجزية، فدخل المسلمون، ورأوا جمال أبنية الكنائس والأديرة والمال الوفير، فندموا لإعطائهم تعهدا، لكنهم لم يتراجعوا عن قسمهم، فأخذوا ما أرادوا واتجهوا إلى منطقة عمورية، وإذ رأوها بجمال الفردوس، لم يلحقوا بها أذى، بل داروا حول المدينة، ورأوا من الصعوبة احتلالها، فأعطوا ذهبا ومالا وفيرا كالتراب، ثم عادوا إلى بلادهم”.

تلك كانت محاولة معاوية الأولى لفتح أرمينيا، ويبدو أنها تكللت بالنجاح، فقد تحولت أرمينيا إلى مملكة تابعة لمعاوية، تدفع الجزية له، وبذلك فقدت هذه المنطقة أهميتها التجارية التي كان البيزنطيون يعتمدون عليها.

أبو الأعور قائد بحري مجهول:

الخطوة الثانية بعد فتح ارمينيا كانت السيطرة على جبال الأناضول، وصولا إلى احتلال قبرص وجزر البحر التي تشكل محطات تجارية، وبذلك يكون الجزء البيزنطي من طريق الحرير قد أصبح بيد قوات معاوية. وقد تحدثت المصادر السريانية بشكل مسهب عن فتح معاوية لجزر قبرص ورودوس وكوس وغيرها من المحطات البحرية الاستراتيجية، وضم أرمينيا نهائيا لبلاد المسلمين: “في سنة 960 يونانية، و27 هجرية، جمع معاوية آلاف الجنود، وجلب من الإسكندرية مع جيش 1700 سفينة عليها رجال مسلحون. ولدى وصولهم إلى قبرص أمر معاوية بضم الأرمن وأوقف السفن في البحر، وأعطى الأمان لأهل الجزيرة، لكنهم لم يرضوا، فانزعج منهم الاسكندريون لعدم سماحهم لهم بالدخول، فربطوا السفن ودخلوها مسلحين، وشرعوا يخربون وينهبون، ثم اتجهوا نحو قسطنطينية قبرص، أم البلاد، وكانت مكتظة بالسكان فاحتلوها بقوة السلاح، وحلّ معاوية في دار الأسقفية، حيث أكمل شهوة نجسة.. وبعد أن جمعوا ذهب الجزيرة ومالا وعبيدا، قسموا الغنائم، فأخذ المصريون قسما، وأخذوا هم القسم الآخر وقفلوا راجعين. وإذ كان الله قد قضى بإبادة الجزيرة، حرك بعد فترة أبا الأعور وجيشه، فعادوا إلى قبرص ثانية لأنه سمع أن أناسا استوطنوها، ولدى وصوله ارتعب أولئك السكان، فدخل العرب وأخرجوا الناس من أنفاق تحت الأرض، ونهبوا الجزيرة كلها، ثم انتقلوا إلى مدينة بافوس وشددوا عليها الخناق، فطلب سكانها الأمان، فاشترط أبو الأعور أن يعطي لهم الذهب والفضة والأموال متعهدا بعدم إيذاء أي منهم، ففتحوها وجمعوا ثرواتها وعادوا إلى سوريا”.

وتتحدث المصادر السريانية عن قيام أبي الأعور السلمي بفتح جزيرتي كوس ورودوس، بخلاف المصادر الإسلامية التي تتجاهل أبا الأعور السلمي وأخباره بسبب موقفه المتشدد من جماعة علي بن ابي طالب في معركة صفين، كما يبدو، حيث تنسب المصادر الإسلامية إلى علي بن أبي طالب بأنه كان يلعن أبا الأعور على المنبر.

بعثة دبلوماسية إلى الصين:

من جانب آخر، تساعدنا المصادر الصينية في فهم حركة الفتوحات على هذه المحاور، ففي هذه الفترة توقفت التجارة الصينية عبر طريق الحرير البري بسبب التوسع الإسلامي، وكان من نتيجة ذلك أن أرسل معاوية مبعوثين إلى الصين لتعريف الحكام هناك بطبيعة المتغيرات الحاصلة في المنطقة. وثمة تقرير صيني معنون بـ”داشي من تونغديان” يقول إنه في فترة يونغ هيو، من سلالة تانغ (تعادل 650-656 م) “حضر مبعوثون من بلاد العرب مرارا إلى بلاط ملكِنا لتقديم الهدايا”.

واللافت أن هذه البعثة أعقبت مقتل يزدجرد الثالث آخر أباطرة الفرس الساسانيين عام 649 م على يد سعيد بن عثمان بن عفان، كما تؤكد المصادر السريانية، فيما يغيب، كما هي العادة، اسم سعيد عن المصادر الإسلامية.

ويبدو أن البعثات الدبلوماسية المتعددة التي أرسلها معاوية كانت تهدف إلى إقناع الصينيين بعدم مساعدة ولي العهد الفارسي فيروز بن يزدجر، لاستعادة ملك أبيه، وهو ما تم فعلا، إضافة إلى طرح فكرة اتفاقية تجارية مع الدولة الإسلامية الناشئة. ومن أجل ذلك أرسل الصينيون وفدا لاستطلاع الأمور، ولكتابة تقرير عن مشاهداته، فكتب المبعوث الصيني في تقريره المليء باضطراب المصطلحات ما يلي: “يقال إنه في البداية كان هناك بدوي في منطقة تحت نفوذ الفرس باركه الإله بسيف يمكن أن يقتل أي شخص. بدأ هذا الرجل في استدعاء البدو الآخرين حوله. كان هناك أحد عشر شخصا هم أول من وصلوا وآمنوا به، وتم تكريسهم كفرسان مثل الملوك الفرس. وقد اتبعه المزيد والمزيد من الناس. وجمعوا في نهاية المطاف جيشا أطاح ببلاد فارس نفسها، وغزا مدن فولين (بيزنطة) و بولومين (الهند).

ويضيف كاتب التقرير: “جميع أعداء العرب لم يكونوا في قوّتهم. كان لديهم أكثر من 420.000 جندي..توفي الملك الأول (المقصود أبو بكر الصديق)، وتولّى العرش الفارس البدوي الأوّل الذي عينه بيده (المقصود عمر بن الخطاب). في وقتنا تم تتويج الملك الثالث لهذه الدولة (المقصود عثمان بن عفان). لدى رجالهم أنوف طويلة وكبيرة. وهم نحيفون وذوو بشرة سمراء، ولهم لحى كاملة. ونساؤهم جميلات. لديهم أيضا شكل من أشكال الكتابة، على الرغم من أنها كانت مختلفة عن كتابة بلاد فارس. أرضهم تحتوي على العديد من الحيوانات المختلفة، بما في ذلك الجمال والخيول والحمير والبغال والظباء. لم تنجح الزراعة في أرضهم التي تتكون من الصخور والرمال؛ وبسبب هذا، كان نظامهم الغذائي يتكون في الغالب من لحوم الجمال والخيول واللحوم الأخرى. بعد فتح بلاد فارس وبيزنطة، بدأ العرب بتجارة الأرزّ ودقيق القمح. كما يقال إن الملك غالبا ما يرسل السفن التجارية إلى البحر محمّلة بالملابس والأطعمة”.

وثمة تقرير صيني آخر يتحدث عن اضطراب العلاقات مع الدولة البيزنطية في عهد الامبراطور الصيني يانغ تي، من سلالة سوي الذي حكم من 605 وحتى 617 م، وهذه الفترة هي مرحلة الهزيمة الكبرى للروم البيزنطيين أمام الفرس الذين احتلوا أقاليم الشرق كلها، بما فيها بلاد الشام ومصر. ولكن التقرير يشير إلى أن البيزنطيين عادوا ليرسلوا وفدا لإعادة العلاقات في السنة السابعة عشرة من فترة تشنغ كوان التي تعادل عام 643 م، والظاهر أن الصينيين تريثوا وأرسلوا مبعوثا، فوجد العرب قد احتلوا البلاد البيزنطية، وأن قائدهم معاوية (مذكور بالاسم) أرسل قوات لمحاصرة عاصمتهم، أي القسطنطينية. ويذكر التقرير أن معاوية انتصر وفرض الجزية على البيزنطيين. وهذا الكلام يتطابق تماما مع الرواية السريانية التي تحدثت عن محاولة معاوية الأولى لفتح القسطنطينية وقبوله بالهدنة مع الروم، مقابل جزية كبيرة بسبب الفتنة التي أدت إلى قتل الخليفة عثمان عام 656 م. ويخلص التقرير الصيني إلى أن تكملة الطريق، أي تلك التي كانت بيد البيزنطيين، قد أصبحت بيد العرب.

عودة للمصادر السريانية:

بعد ذلك تتحدث المصادر السريانية عن محاولات بيزنطية لاستعادة السيطرة على أرمينيا، ولكن معاوية يحبطها بذكاء من دون إراقة نقطة دم واحدة من جيشه، إذ لعب على المتناقضات بين الأرمن الموالين له، وأولئك الموالين للقسطنطينية، وفي هذه المرحلة استطاع استكمال سيطرته على الأناضول وسواحل ليقيا التي جرت فيها معركة ذات الصواري، وفر نتيجتها الإمبراطور البيزنطي قسطاس بن هرقل إلى جزيرة صقلية هربا من المسلمين الذين وصولوا إلى عاصمته وكادوا أن يضربوا الحصار عليها لولا انلاع فتنة مقتل الخليفة عثمان بن عفان، وقبول معاوية للجزية الكبيرة من الإمبراطور البيزنطي ريثما تستتب له أمور الحكم.

وبالفعل عاد معاوية لمحاصرة القسطنطينية بعد مبايعة الحسن بن علي له، وبعد أن غدت منطقة آسيا الصغرى (الأناضول) كلها بيد جيوشه، لكن ظهور قوة جديدة هي مملكة الخزر كانت تسعى لتوسيع نفوذها غربا وصولا إلى البحر الأسود، قلل من فرص احتكار معاوية لطريق الحرير البري، فما كان منه إلا أن حوَّل هذا الطريق باتجاه بلاد الجزيرة الفراتية وصولا إلى قنسرين جنوبي حلب، وأنطاكية وباقي موانئ بلاد الشام على المتوسط، فيما كان الخزر يحاولون جاهدين السيطرة على أرمينيا وبلاد الجزيرة الفراتية من دون طائل. وبالإضافة إلى ذلك أعاد معاوية افتتاح طريق الحرير البحري بعد سيطرة المسلمين على حوض السند وشواطئ القرن الافريقي وصولا إلى البحر الأحمر، بعد توقف استمر 400 عام، ليبدأ عصر جديد في تاريخ العالم وتجارته واقتصاده، وصل في فترات لاحقة لتحول البحر المتوسط إلى بحيرة عربية إسلامية.

هذا جانب واحد من الجوانب الكثيرة المتعلقة بفترة حكم معاوية بن أبي سفيان، تجاهلتها المصادر العربية الإسلامية بشكل جائر، ولأسباب عقائدية ومذهبية وسياسية، ولكن من حسن حظنا أن مصادر أخرى غير معنية بهذه المواقف غطت شيئا من مساحات الفارغ التي تعتري الرواية الإسلامية، وهو أمر يستحق اهتماما أكاديميا يمكن أن يجد حلا للمفارقة الأموية في التاريخ العربي.

* كاتب وباحث سوري- فلسطيني

المصدر: المجلة

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.