الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

دبلوماسية الكبتاغون

بكر صدقي *

لن نفاجأ إذا عرفنا، في وقت ما من المستقبل، أن أجهزة المخابرات السورية هي مصدر المعلومات التي أفضت إلى إحباط تهريب شحنتين من الكبتاغون والإمفيتامين في ميناء جدة وعلى الحدود السورية الأردنية، بالتزامن مع انعقاد «الاجتماع التشاوري» الذي جمع وزراء خارجية السعودية ومصر والأردن والعراق إلى زميلهم السوري فيصل المقداد في عمان قبل عدة أيام.

ففي مثل هذه الحالات من مصادرة شحنات المخدرات نادراً ما يتعلق الأمر بمصادفة. فأي مفتش جمارك قد يفتش شاحنات تحمل مواد بناء أو شحنات رمان بشكل دقيق فيكتشف ما خبّئ بداخلها؟ ففي الغالب تحصل أجهزة التفتيش على معلومات من مصادر موثوقة تحدد وسائل الشحن والمخابئ المستخدمة للتمويه وأسماء الأشخاص الذين يقومون بالنقل والاستلام، فيتم كشف الشحنات المهربة وإلقاء القبض على الجناة بالجرم المشهود. كل الناس يعرفون أنه لا يمكن أن تتم عمليات التهريب عموماً إلا بتواطؤ من السلطات المكلفة بأمن الحدود، وكل فترة يشي المهربون بواحدة من شحناتهم عربوناً لاستمرار التعاون، للتغطية على عدد أكبر من الشحنات، وتبييض صفحة المكلفين بأمن الحدود أمام السلطات الأعلى منهم.

في حالة تصدير المخدرات السورية التي بات العالم كله يعرف أن النظام الأسدي هو القائم عليها، وتحولت إلى مشكلة إقليمية وعالمية، نملك كل الأسباب التي تدعو إلى افتراض أن «المهرب السوري» هو الذي وشى بتفاصيل المعلومات التي أفضت إلى إحباط عمليتي التهريب المشار إليهما أعلاه، بالتزامن مع اجتماع عمان التشاوري لتحقيق هدفين، «تجاري» وسياسي. الأول هو ما ذكرناه من التضحية بشحنة مقابل استمرار تدفق الشحنات التالية، أما الهدف السياسي فهو لتحديد أجندة اجتماع عمان لكي ينحصر في وقف تدفق الكبتاغون إلى الأردن والسعودية وغيرها من البلدان. فإذا تم إغراق المجتمعين بهذا الموضوع فقدت المسائل الأخرى (الحل السياسي، إعادة اللاجئين…) أولويتها، وبات السعي للتخلص من كارثة المخدرات، أو الحد منها على الأقل، هو الأولوية القصوى الأكثر إلحاحاً. ومن شأن تعاون النظام في إحباط الشحنتين أن يعطي فيصل المقداد سلاحاً فعالاً في الاجتماع: فقط نحن من يملك مفتاح تجارة المخدرات سماحاً أو وقفاً! عليكم التعاون معنا وأن تعطونا ما نحتاج لنعطيكم هذا التعاون!

وهكذا أعلن البيان الختامي الصادر عن الاجتماع أنه «جرى في أجواء إيجابية للغاية» وأنه سيتم تشكيل لجنتين أمنيتين من المخابرات الأردنية والعراقية مع نظرائهم السوريين للمساعدة على وقف تدفق الكبتاغون. بهذا الإنجاز (!) الكبير تكون خطة «خطوة مقابل خطوة» الأردنية قد وضعت موضع التطبيق العملي. كيف؟ كلما استجابت الأنظمة العربية المعنية لطلبات النظام السوري، أعطاهم هذا معلومات عن شحنة جديدة عبر اللجان الأمنية المشتركة ليتم «إحباطها» وبهذه الطريقة يكون الطرفان رابحين! يا لها من شطارة طالما برع فيها نظام الأسد بإعادة حق لأصحابه مقابل مكاسب!

أما البنود الأخرى في البيان الختامي فهي لزوم ما لا يلزم: ضرورة المضي في الحل السياسي وفقاً للقرار 2254، إحياء عمل اللجنة الدستورية، العمل على توفير الشروط لعودة «طوعية وآمنة» للاجئين السوريين، مصالحة وطنية… إلخ… إلخ… إنها بنود باتت توضع في البيانات الختامية بحكم العادة، مثلها مثل التأكيد الروتيني في اجتماعات القمم العربية أو منحدراتها على حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وفقاً لقرارات الأمم المتحدة، أو ضرورة عودة الجزر الإماراتية الثلاث في الخليج العربي إلى السيادة الإماراتية، أو إعادة مرتفعات الجولان إلى السيادة السورية، أو توحيد جهود الدول العربية لمكافحة الفقر، أو غيرها من الشعارات الجوفاء التي لا تقوم على أي إرادة حقيقية.

في جميع الصور التي ظهر فيها فيصل المقداد في اجتماع عمان التشاوري كانت على وجهه ابتسامة ارتياح عريضة، فهو منتش بتحقيق انتصار دبلوماسي كبير، لا يقتصر على استبعاد مسائل الحل السياسي لمصلحة موضوع الكبتاغون، بل من المحتمل أنه تلقى أيضاً وعوداً سخية من زملائه بشأن ما يمكن أن تقدمه دولهم للنظام من أعطيات غير معلنة مقابل التعاون في وقف تدفق الكبتاغون. ولا بد أن زعيم كارتل المخدرات السوري في قصر المهاجرين يترجم ابتسامة المقداد إلى قهقهة صاخبة يهنئ بها نفسه على بعد نظره «الاستراتيجي» في ابتكار سلاح المخدرات هذا الذي يبيض ذهباً مالياً وسياسياً كيفما استخدمه.

ما هي الطلبات الأسدية المحددة، وغير المحدودة، التي تقدم بها المقداد مقابل تعاون نظامه؟

من حيث الشعارات الجوفاء، وضع المقداد كل الترهات التي يكررها النظام وإعلامه كل يوم، في نص البيان الختامي، كالمساعدة على تحقيق سيادة «الدولة» السورية على جميع الأراضي السورية، ومكافحة الإرهاب بكل أشكاله، وخروج كل القوات الأجنبية الموجودة بشكل غير شرعي (!) على الأراضي السورية (وهذا يعني في لغة النظام استثناء للقوات الإيرانية والروسية، فهذه موجودة بناء على طلبه) والمساعدة على إعادة الإعمار وتمويل مشاريع التعافي المبكر لتوفير شروط عودة اللاجئين… إلخ من هذه المطالب التي لا تتجاوز قيمتها أكثر من الحبر الذي كتبت به.

أما المطالب الحقيقية للنظام فيمكن استشفافها من وسائل إعلامه التي تناقش الأمور وفقاً للمنطق التالي:

تريدون إعادة اللاجئين؟ حسناً، مولوا لنا إعادة تأهيل المناطق المدمرة التي سيعودون إليها، وأعطونا استثمارات لإيجاد فرص عمل لهم، وإلا فمن أين تريدوننا أن ننفق على طعامهم وسكنهم وكسائهم؟ وبعد يومين سيزورنا رئيس الجمهورية الإيراني إبراهيم رئيسي ليطالبنا بالديون المتراكمة علينا بسبب الحرب التي شننتموها علينا، ألا تطالبوننا بالحد من الوجود الإيراني في سوريا؟ بأي وجه نطالبهم بذلك ونحن لا نملك غير الأرض سداداً لديوننا؟ سددوها أنتم عنا، فترتاحون ونرتاح من مطالباتهم… وسائل إعلامكم المسمومة واظبت على تحريض السوريين على «دولتهم» طوال السنوات الماضية، فأصبحوا يكرهونها ويتآمرون عليها. كيف تطلبون منا إعادة من هرب منهم إلى الخارج، فهم يحتاجون إلى إعادة تأهيل سيكولوجية مكلفة ليحبوا «وطنهم» مجدداً ويندمجوا في النسيج الاجتماعي المتجانس…

بدلاً من دعوة الأسد لحضور اجتماع القمة العربية في جدة، وقد تم إحباطها، ربما نرى انعقاد الاجتماع القادم لمسار التطبيع هذا في العاصمة السورية. فلطالما كرر الناطقون باسم النظام القول إن العرب هم من سيعودون إلى سوريا وليس العكس.

* كاتب سوري

المصدر: القدس العربي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.