الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

البطولات الفرديّة والتّكوين الفلسطينيّ القادم

سليمان أبو ارشيد *

بصمت، مات الأسير الشيخ “خضر عدنان”، الذي ملأت إضراباته العقد الفلسطيني الأخير، صخبا وحيوية. ربما هي ثقتنا الزائدة بقدرة صموده، أو عجزنا عن مجاراة وتيرة كفاحاته، أو أي سبب آخر يرتبط بعموم حالنا المتعثر والمنقسم والرديء، ولكن في كل الأحوال فإن سادية العدو، وطبيعته الإجرامية، لا تعفينا من المسؤولية كطلائع وقيادات وشعب، عن تخلفنا في إطلاق جرس الإنذار في الوقت المناسب، وإنقاذ حياة الأسير، قبل أن تسبقنا إليه الشهادة.

الأسير الذي كان سبّاقاً في شقّ طريق الإضرابات والبطولات الفردية، في ظلّ حالة التراجع الوطني والتردي الجماعي، ظلت مسافة تقدمه التي تفصله عنا، تزداد بعد كل إضراب وآخر من إضراباته الستة التي خاضها خلال سنواته الثمانية، التي قضاها في السجن، إلى أن احتجب عن مدى رؤيتنا، وفقدنا إحساسنا به في المرة الأخيرة.

هذا أيضاً هو حال شهداء نابلس الذين قضوا في حي الياسمينة اليوم، كما هو حال شهداء جنين وأريحا وسائر البؤر التي تشكل بدايات التكوين الفلسطيني الجديد، الجاري في إطار عملية إعادة بناء الذات الوطنية، استعدادا للمرحلة القادمة والحاسمة من الكفاح ضد الاحتلال والأبارتهايد الإسرائيلي.

إسرائيل التي تعتقد أنها قادرة على التعامل مع هذه الحالات عبر آلة قمعها، مستغلة التجربة الميدانية التي راكمتها وحداتها المتخصصة بالقتل في اقتحام مراكز المدن، وتنفيذ الإعدامات الميدانية، إلى جانب تنفيذ اعتقالات جماعية، والتعامل مع الحركة الأسيرة وطلائعها على غرار الشيخ “خضر عدنان”، بقبضة حديدية؛ يجب أن تدرك أن سياسة القتل والقبضة الحديدية، ستؤتي عكسها، وأن البطولات الفردية ستتحول عاجلا أم آجلا إلى فعل جماعي جارف ومنظم، سيؤدي إلى انفجار قادم لا محالة.

وإن كان جيش الاحتلال ووحداته الميدانية، قادرون على الانفراد اليوم بهذه البؤرة، وبذاك المخيم، والتعامل مع هذا الأسير المضرب عن الطعام هنا أو هناك، وبالتالي يسجّل لنفسه نجاحات وانتصارات وهمية من خلال إيقاع الشهداء في هذا المخيم، وتلك المدينة بعمليات اقتحام خاطفة وغادرة؛ فإن الجميع يعلم أن هذه النجاحات والانتصارات مردّها، ترك هذه المجموعات لقمة سائغة في ظل غياب حركة مقاومة فلسطينية شاملة، منظمة وقادرة على إغلاق الفجوات التي ينفذ منها العدو.

لقد دفعت طلائع حركة المقاومة الفلسطينية في بداياتها، أيضا، أثمانا كبيرة من الشهداء والجرحى والأسرى، وشيّدت بتضحياتها صرح الكينونة الوطنية الفلسطينية التي أرادوا محوها من الوجود، واليوم تعيد هذه الطلائع بأجساد شهدائها مجددا، بناء الجسر الذي أُريد هدمه، والذي يصل الماضي الوطني الفلسطيني، بالمستقبل المأمول والموعود، الذي يضمن لشعبنا العودة والحرية والاستقلال، وإقامة دولته الوطنية.

وبدون شكّ، فإن هذه التضحيات تؤسس لمرحلة جديدة، ولتكوين فلسطيني قادم سيأتي، مستفيدا من التجربة الوطنية السابقة، وهو أكثر إصرارا وتصميما وإدراكا لعدوه، ومواضع ضعفه وبواطن قوته. كما أنه أكثر حساسية لحاجات مجتمعه، وآلام وطموحات شعبه.

وفي المحصّلة، إن حكاية بطولات خضر عدنان وسامر عيساوي وبلال كايد وغيرهم من الأسرى، مثل حكايات شهداء جنين ونابلس وأريحا، وقصص عشرات الأطفال والطفلات الذين جرى إعدامهم بدم بارد، بادعاء امتشاقهم مقصًّا أو سكين مطبخ، مثلما هي شاهد على مرحلة من الإرباك الفلسطيني، فإنها ستكتب في الوقت ذاته، فصلا جديدا في فصول الكفاح الفلسطيني الطويل والدامي، الذي يتواصل على هذه الأرض منذ 100 عام ونيّف، ولا بدّ أن تضع أساسا متينا لمرحلة قادمة، باتت فيها الرؤية والأهداف أكثر وضوحا، بعد أن سقطت جميع النظريات والفرضيات والتسويات، وأعادت الصراع إلى نقطة البداية، كصراع وجود ضد نظام أبارتهايد، باتت سلطته السياسية على كامل الأرض الفلسطينية بين البحر والنهر.

* كاتب فلسطيني

المصدر: عرب 48

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.