الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

معادلة اللُّجوء

محمد أمين الشامي *

يحمل موضوع اللُّجوء بعدين رئيسين: الأوَّل يتعلَّق باللّاجئ والثّاني يرتبط ببلد اللُّجوء، أو القوانين النّاظمة للُّجوء في البلد. ولأنَّ التَّركيز سيكون في هذا المقام على اللّاجئين السّوريين، سنعمد إلى عرض المقال مدعَّمًا ببعض الإحصاءات.

لا يخفى على أحد المنافع الَّتي تعود على طرفي معادلة اللُّجوء من الدَّمج الواعي للّاجئين في المجتمعات المضيفة، المتطوِّر منها والنّاشئ على حدٍّ سواء. فاستثمار هذه الطّاقات الوافدة وتوظيفها التَّوظيف الأمثل يساهم في رفد عمليّات البناء والتَّطوير في ذلك البلد مهما بلغ من التَّقدّم. ويتطلَّب هذا رسم استراتيجيّات تسهِّل عمليّة الاندماج وتحدُّ من سلبيّاتها. ولنا في الولايات المتَّحدة الأميركيّة قديمًا المثال الأعظم: مجتمع مكوَّن من شتّى الأصول والجنسيّات، يقود الأمم بما فيها القومي والوطني والإيديولوجي، وجميعنا يعلم موقف كندا وألمانيا من الأمر وهما من هما بين البلدان القائدة.

ومن هنا ننتقل إلى حالة السّورييّن، فمن نافل القول إنَّ انتشار السّوريّين في أصقاع المعمورة نتيجةً لما لحق بالبلد من أذى ودمار وما حاق بهم من تهلكة وتهديد، حتّى غطَّت جغرافية تواجدهم ما تجاوز المساحة الَّتي وصلت إليها الفتوحات الإسلاميّة في أوج الدَّولة الأمويّة- تحوَّل في بعض البلدان إلى فرصة استثمرت فوائدها استثمارًا استراتيجيًّا نتيجة استشراف واعٍ للقادم. لم يشكِّل السّوريّون عمومًا عالة على أحد في أيِّ بلد التجؤوا إليه، بل ساهموا في إعماره ورفد اقتصاده بشتّى الأوجه، تجارةً وصناعةً ويدًا عاملة وفكرًا مبدعًا، لكن لم يقابل هذا الأمر بكثير ترحاب في كلِّ الدُّول لأسباب شتّى، منها السِّياسي ومنها الإيديولوجي ومنها النَّفسي أيضًا. وسأعرض هنا بعض الإحصائيّات لمساهمات السّوريين في اقتصادات بعض البلدان، وهي بلدان تعد من البلدان النّامية.

ففي مصر، حيث وصل عدد اللّاجئين ما يقارب نصف مليون، قدِّر حجم الاستثمار ب 800 مليون دولار وعدد رجال الأعمال والمستثمرين 30 ألفًا وفق ما صرَّح به حينها خلدون الموقع رئيس تجمُّع رجال الأعمال السّوريين في مصر، وتركَّزت الاستثمارات في الغزل والنَّسيج والصناعات التكاملية مثل الاسفنج والورق والصناعات الدوائية البسيطة والمفروشات، إلى جانب المطاعم والمحلّات التِّجاريّة، وكلُّها توظِّف اليد العاملة السّوريّة والمصريّة، مع الانتباه إلى أنَّ هذه الأرقام تعود إلى العام 2018 (فراس حاج يحيى، السوريون في مصر: استثمارات كبيرة في جو متقلب). وقد وصف المحامي المصري يوسف المطعني الاستثمارات السّوريّة “بالإضافة النَّوعيّة” لسوق العمل في مصر، إذ وفَّرت فرصًا للعمل وساهمت في الحدِّ من البطالة وطوَّرت بيئة العمل ونوعيَّته (الوجه الآخر للجوء: استثمارات نوعيّة للسوريين في مصر، العربي الجديد، 2022). وقد ورد هذا على لسان رأس السُّلطة هناك يوم أشاد بدور السّوريين من جهة الاستثمار والعمالة.

وفي الأردن، خلقت الاستثمارات السّوريّة في السّوق الأردنيّة فرص عمل جديدة أسهمت في تشغيل السّوريين والأردنيين على حد سواء، كما أنعش الوجود السّوري القوّة الشِّرائيّة هناك. وقد سجَّل السُّوريّون 855 منشأة برأسمال 37 مليون دولار تقريبًا حتّى عام 2022 بحسب وزارة الصِّناعة والتِّجارة والتَّموين الأردنيّة، عملت على تشغيل عدد لا بأس به من العاطلين عن العمل بموجب القانون (تشغيل 10 أردنيين مقابل كلِّ أجنبي). ومن جهتها، أقدمت هيئة الاستثمار الأردنيّة على منح المستثمرين بطاقة خاصّة بهم من بعض ميزاتها استقدام الأسرة أو من يعيل واستخدام المركبات ذات اللَّوحات السّوريّة وغيرها من الميِّزات. (الوجه الآخر للجوء: مكاسب اقتصاديّة لاستضافة اللّاجئين السّوريين في الأردن، 2022).

فإذا انتقلنا إلى دول اللُّجوء الأوروبيّة، نجد أنَّ السُّوريّين قد أثبتوا تواجدهم على الصَّعيدين الاستثماري واليد العاملة، إلى جانب نقطة عظيمة الأهميّة وهي اكتشاف المواهب والعقول الفريدة وتعزيز الابتكار وهو ما أثبته تفوُّق كثير من الطَّلبة السّوريين في الجامعات على تنوُّعها. وأذكِّر أنَّنا نتحدَّث بالعموم ولا نخصِّص. ففي ألمانيا الَّتي استقبلت 800 ألف لاجئ، منحت الحكومة هناك 72% من اللّاجئين السّوريين الحماية والحق في العمل دون أيِّ عقبات وقيود. ولعل شارع العرب الذَي كان اسمه شارع “سونينالي”، خير مثال على ما نتطرَّق إليه في مقالنا هذا، إذ ينتشر فيه الباعة والتُّجّار وتحتوي محلّاته على البضائع “الحلال”، وتمتزج في فضائه اللغة العربية باللغتين الألمانية والإنجليزية. وقد تحوَّل إلى ما يوصف “بسوريّة مصغرة” بعد أن وجد العديد من اللّاجئين عملًا في مطاعمه ومتاجره ووكالات السَّفر، حتّى صار أشبه بالوطن بالنِّسبة لهم. ولمن أراد أن يعود إلى الاستثمار في العقول العلميّة، فله أن يعود إلى منصّات كثيرة تشير إلى هذا الأمر.

ليس المقصد من كلِّ هذا توصيف الحياة في الأمثلة الّتي ذكرناها على أنَّها ورديّة، إذ تبقى حياة اللّاجئ نهبًا للكثير من التَّهديدات والمنغِّصات والتَّمييز العنصري. لكن المقصد أن نصل إلى حقيقة مؤكَّدة تفيد بأنَّ اللُّجوء ليس أعباء يفرضها تدفُّق اللّاجئين، فهذه نظرة قاصرة ومجحفة، لأنَّ هؤلاء يشكِّلون على المدى المنظور استثمارًا اقتصاديًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا مميَّزًا للدُّول الحاضنة، لا سيَّما بوجود القوانين الدّاعمة والنّاظمة لهذا الظَّرف. إنَّ الدُّول الَّتي استقبلت اللّاجئين وبنت استراتيجيَّتها على أساس الجذب وترسيخ الاستقرار النَّفسي من خلال دمجهم والاستفادة من هذه القوَّة العاملة الهائلة لرفد الاقتصاد بها، قلبت المعادلة إلى منفعة مشتركة للطَّرفين أظن أنَّ ثمارها لا تخفى على أحد، وإلّا ما طلبت المزيد، وهذا الفيصل في نجاح الاستثمار من عدمه.

* كاتب سوري

المصدر: إشراق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.