الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

بعض محددات السلوك الانتخابي لدى الناخبين في تركيا

بكر صدقي *

لم يبق إلى موعد الانتخابات العامة والرئاسية في تركيا إلا القليل، وقد تحددت الترشيحات بصورة نهائية لكليهما من قبل مختلف الأحزاب السياسية والتحالفات المشاركة فيهما، ويحتدم التنافس بين المرشحين الرئيسيين لمنصب الرئاسة، ومعهما مرشحان أقل حظاً، في حين تنقسم الأحزاب السياسية بين ثلاث كتل ائتلافية كبيرة، إحداها هي ائتلاف السلطة، واثنتان في الصف المعارض هما ائتلاف الأمة وائتلاف الحرية والعمل. تشير نتائج كثير من استطلاعات الرأي إلى تقارب في نتائج السبر الاجتماعي بين أردوغان ومنافسه كلجدار أوغلو من جهة، وبين كل من تحالف الجمهور وتحالف الأمة من جهة ثانية، مع بقاء حزب العدالة والتنمية في صدارة الأحزاب بفارق تقلص كثيراً بينه وبين أقرب منافسيه، حزب الشعب الجمهوري الذي يقود تحالف الأمة. بدلاً من إطلاق تخمينات حول النتائج المحتملة للانتخابات، ستحاول هذه المقالة أن تلقي نظرة على بعض العوامل المؤثرة على القرار الانتخابي للناخب التركي، أو ما يمكن أن يحدد خياراته في اللحظة الأخيرة.

على رغم العمر المديد للنظام الديمقراطي في تركيا، وكذا تاريخ التعددية الحزبية، ما زالت الهويات الاجتماعية تلعب دوراً مهماً في الخيارات السياسية للناخبين. ليس المقصود بالهويات الانتماءات الأهلية حصراً، وإن كانت هذه مهمة بذاتها، بل كذلك الانتماءات السياسية ـ الأيديولوجية، والجهوية، والطبقية وغيرها. على سبيل المثال يلعب الانتماء الإثني ـ الثقافي دوراً كبيراً في تحديد خيارات الناخبين الكرد، فيصوتون بغالبيتهم لحزب الشعوب الديمقراطي، لكن قسماً منهم يصوت أيضاً لحزب العدالة والتنمية الذي يتشكل من المحافظين اجتماعياً أو المتدينين السنيين، في حين يصوت قسم من الكرد العلويين لحزب الشعب الجمهوري أو لأحزاب يسارية.

وعموماً ينقسم المجتمع في تركيا، وفقاً للباحث “بكير آغردر”، بصورة عمودية على خطين رئيسيين: الأول بين علماني\محافظ، والثاني بين تركي\كردي. ويقول آغردر إن العمليات الانتخابية أقرب ما تكون إلى عمليات إحصاء سكاني بين هذه الكتل الاجتماعية، ولا تعكس خيارات لمواطنين أفراد بين برامج سياسية متنافسة. لذلك قلما تلعب تلك البرامج دوراً حاسماً في قرارات الناخبين، وبخاصة أن الثقة تزداد ضعفاً بالوعود الانتخابية، فيصوّت كل ناخب لمرشحي «جماعته» الذي قد «يمون» عليهم لتحقيق بعض مصالحه إذا فازوا في الانتخابات. وعلى سبيل المثال يشقّ على الناخب المحافظ لحزب السعادة أن يصوّت لكمال كلجدار أوغلو على رغم أنه متحالف مع «الشعب الجمهوري» في إطار ائتلاف الأمة. بالمقابل يصعب تصور أن يصوت ناخبو حزب اليسار الديمقراطي لأردوغان على رغم إعلان قيادة الحزب لتأييده، وترشح زعيمه ذي الخلفية الماركسية لمقعد نيابي على قوائم «العدالة والتنمية».

المثالان المذكوران يشيران إلى محاولات لكسر الانقسامات المذكورة التي تبدو وكأنها قدرية، وقد كان كلجدار أوغلو سباقاً في ذلك حين أسس تحالفاً عريضاً من ستة أحزاب، مثلت تيارات سياسية ـ أيديولوجية متنافرة، علمانية وقومية وإسلامية وليبرالية، كما انفتح على الكرد وضمنَ تأييد ناخبي «الشعوب الديمقراطي» له في الانتخابات الرئاسية. بالمقابل اجتذب أردوغان حزب «خوداـ بار» الإسلامي الكردي على أمل تعويض النزيف في شعبيته بين كرد البلاد في السنوات الأخيرة.

أما التيار القومي فقد انقسم بين الائتلافين المتنافسين، فبقي حزب الحركة القومية في تحالف السلطة، ورحل الحزب الجيّد إلى التحالف المعارض، مع وجود عناوين أخرى هامشية للقوميين كحزب الوحدة الكبرى وحزب الوطن، وكلاهما مع تحالف السلطة، في حين يغرد «حزب النصر» وحده خارج التحالفين عازفاً على برنامج من بند وحيد هو طرد اللاجئين السوريين إلى بلادهم.

تحالفات «الشعب الجمهوري» مع «السعادة» الإسلامي، وحزبين منشقين عن العدالة والتنمية، أثارت استياء البعض من العلمانيين المتشددين، أبرزهم محرم إينجة الذي انشق عن الحزب وأسس حزبه الخاص ويخوض الانتخابات الرئاسية القادمة بلا تحالفات.

القصد هو أن الانقسامات الاجتماعية التقليدية على أسس علمانية أو محافظة، قومية تركية أو كردية، سنية أو علوية، يمينية أو يسارية، ليست نهائية وثابتة على رغم قوتها، فالمجتمع يشهد تحولات عبر الزمن متأثراً بعوامل عديدة، والأحزاب السياسية تتغير بدورها وإن ببطء سببه التكلس الأيديولوجي أو بيروقراطية قياداتها. يشير العديد من الباحثين، مثلاً، إلى أن أولئك الذين سيتمتعون بالحق في التصويت في صناديق الاقتراع للمرة الأولى في حياتهم يشكلون كتلة كبيرة تعد بالملايين ممن بلغوا السن القانونية. ويميل المراقبون إلى أن قسماً كبيراً من هؤلاء الشباب يحملون نظرة سلبية إلى السياسة والطبقة السياسية ككل، ولا يعرف كم قد تبلغ نسبة من سيشارك منهم في الانتخابات، وكيف ستتوزع أصواتهم. ونظرياً يمكن لهذه الكتلة أن تشكل عاملاً حاسماً من شأنه أن يرجح هذا المرشح أو ذاك أو هذا الحزب أو ذاك الائتلاف على منافسيه.

كذلك هناك كتلة غير صغيرة تظهر في جميع استطلاعات الرأي هي تلك التي تعبر عن أنها لم تقرر بعد لمن من المرشحين أو الأحزاب ستصوت. هذه الكتلة من «المترددين» ستتوزع أصواتها، في اللحظة الأخيرة، بين المتنافسين، وقد تلعب دوراً حاسماً في نتائج الانتخابات أيضاً.

وعموماً من المرجح أن تلعب الأزمة الاقتصادية، وبخاصة البطالة والتضخم والفقر، دوراً كبيراً في تحديد خيارات الناخبين، من غير أن تكون العامل الوحيد.

* كاتب سوري

المصدر: القدس العربي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.