عبد الله السناوي *
ما بين التفجير إلى حد عودة أشباح الاحتراب الأهلي والتهدئة إلى حد الرهان على إحياء العملية السياسية، التي ماتت إكلينيكياً، يجد العراق نفسه معلقاً على احتمالات وسيناريوهات متناقضة.
لليلة طويلة دامية خيمت احتمالات الانجراف إلى احتراب أهلي جديد على المشهد المأزوم.
بدت المنطقة الخضراء، الأكثر تحصيناً وتأميناً في العاصمة بغداد حيث تتمركز مؤسسات الدولة والسفارات ومكاتب الصحف والفضائيات الدولية والإقليمية، موقع الصدام المسلح.
كان مثيراً للالتفات أن موجة العنف امتدت في نفس الليلة إلى ساحة الفردوس، أهم ساحات بغداد، التي شهدت الموجة الأولى لزحف قوات الاحتلال الأمريكي عام (2003) وإسقاط تمثال «صدام حسين» باسم «نشر الديمقراطية في العراق».
في صباح اليوم التالي تغيرت الصورة من نقيض إلى نقيض بفض الاعتصامين المتناقضين بدواعي طلب التهدئة وصيانة الدم العراقي.
المفارقة الأولى في قصة ما جرى، أن طرفي النزاع، التيار الصدري والإطار التنسيقي، ينتسبان إلى بيت واحد يطلق عليه «البيت الشيعي»، فيما أخذت الجماعات السياسية الأخرى التي تنتسب إلى السنة والكرد مسافة محسوبة من النزاع خشية أن تتورط فيما لا تريده ولا تطيق تكاليفه.
المفارقة الثانية، أن طرفي النزاع يختلفان جذرياً في توصيف الأزمة العراقية، كلاهما يحمل الآخر مسؤوليتها الكاملة.
«التيار الصدري» يتهم «الإطار التنسيقي» بإفساد الحياة السياسية ونهب مقدرات الدولة مطالباً بحل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة وإدخال تعديلات دستورية جراحية لإعادة بناء النظام السياسي، عهد جديد ونظام جديد.
و«الإطار التنسيقي» يتهم الصدريين بالتعدي على مؤسسات الدولة وتعطيل العملية السياسية وجر البلاد إلى الفوضى مطالباً بحكومة جديدة تمتثل عملياً لما يريده من سياسات ومصالح.
بعبارة الرجل الأول في «الإطار التنسيقي» «نوري المالكي» رئيس الوزراء الأسبق لثماني سنوات وأمين عام حزب الدعوة الأكثر تشدداً، وهو متهم من خصومه في ذمته السياسية والمالية: «القوة لا تُخول طرفاً أن يحدد البوصلة ويفرضها على الآخرين».
المفارقة الثالثة، أن كلا الطرفين المتنازعين صلاته ممتدة مع الجار الإيراني بدرجتين مختلفتين، «التيار» يطلب الحق في الاختلاف دون صدام فيما أغلب أحزاب وقوى «الإطار» أقرب إلى التماهي.
كان قرار «مقتدى الصدر» اعتزال العمل السياسي تعبيراً مباشراً عن علاقات معقدة مع المرجعيات الدينية في قم، لا يقدر أن ينازعها ولا يتقبل أن يمضي حيث تريد.
بعبارة لافتة في نص بيانه: «يظن كثيرون بما فيهم السيد الحائري، أن هذه القيادة، جاءت بفضلهم أو أمرهم».. «مرجعاً قيادته إلى فضل الله أولاً وفيوضات والده الذي لم يتخل عن العراق وشعبه ثانياً».. لا إلى مرجعية الحائري المقيم في قم، أو غيره من المرجعيات خارج العراق.
بتوقيته والأجواء المتوترة التي أحاطته استدعى ذلك الإعلان تفلتاً واسعاً في صفوف أنصار «الصدر».
جرى اقتحام القصر الحكومي ومؤسسات أخرى في المنطقة الخضراء وعمت الفوضى المكان.
بدا الأمن عاجزاً عن مواجهة ما يحدث أمامه، لا يريد أن يصطدم مع أحد طرفي النزاع، لكنه مطالب بالوقت نفسه حماية ما تبقى من هيبة واحترام.
دخل الطرف الآخر الأكثر تسليحاً على الخط وأفلت الزمام تماماً فيما يشبه «بروفة حرب أهلية».
باليقين يُحسب لـ«مقتدى الصدر» المبادرة الشجاعة، التي دعا فيها أنصاره للانسحاب خلال ساعة واحدة من محيط المنطقة الخضراء وإنهاء الاعتصام في مبنى البرلمان، وإلا فإنه سوف يتبرأ من «التيار».
وصف ما يحدث بأنه لم يعد ثورة وتياره بـ«المنضبط والمطيع».
فكرة «السمع والطاعة» من طبائع الأحزاب الدينية، الأمر نفسه يسري على «الإطار التنسيقي».
في خطوة مماثلة دعا «الإطار» أنصاره المعتصمين في المنطقة الخضراء إلى «العودة سالمين غانمين إلى منازلهم» حتى يستدعيهم مجدداً «نداء الوطن».
العبارة بنصها ورسائلها تعني أن الأزمة المستحكمة بجميع عناصرها ما زالت ماثلة في المشهد العراقي رغم ما جرى من تهدئة موقتة.
تجنب العراق الاحتراب الأهلي، لكن أسبابه ما زالت كامنة في انتظار نقطة تفجير جديدة.
ساعد على احتواء الخطر أن اللاعبين الرئيسيين الإقليميين والدوليين ليست لهم مصلحة الآن في تفجير الوضع العراقي المأزوم، العالم بأسره بلا استثناء تقريباً حث العراقيين على التهدئة واللجوء إلى الحوار وتجنب الانخراط في العنف.
بتلخيص ما: نحن أمام حرب أهلية مؤجلة.
المعضلة الآن أنه لا توجد فرص كبيرة للتفاهم السياسي عبر الحوار، فالصدريون يقاطعون دعواته المتواترة حتى إشعار آخر فـ«لا حوار مع الفاسدين ولا تنازل عن طلب حل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة» فيما قادة «الإطار» يتمترسون حول طلب تشكيل «حكومة خدمة وطنية»، يشكلونها هم بطبيعة الحال بالنظر إلى استقالة نواب الكتلة الصدرية من البرلمان في إجراء غير مفهوم وغير مبرر.
الحقيقة الرئيسية في كل ما يجري بالعراق أن ما توصف بالعملية السياسية تقوضت بالكامل حتى أصبحت «خرقة مهلهلة».
كان ذلك آخر تداعيات زلزال احتلال العراق قبل نحو عشرين عاماً، عندما حلت مؤسساته العسكرية والأمنية وفككت دولته ونهبت ثرواته وجرى التنكيل بشعبه الذي نهض لمقاومة الاحتلال.
العراق لا يزال يدفع فواتير الاحتلال التي يصعب تجاوز أعبائها الثقيلة في أي مدى منظور.
ما يدعو إليه التيار الصدري أقرب إلى نبض الشارع وأنينه، غير أن المصالح التي ترسخت تكاد تجعل من فكرة التغيير الجذري عملاً بعيد المنال دونه نيران قد تشتعل بأنحاء البلد كله.
يستلفت الانتباه- هنا- أن رئيسي الجمهورية والحكومة، كلاهما استنفد ولايته لكنه باقٍ في منصبه لتصريف الأعمال، تبنياً بصيغة واحدة تقريباً ما يطالب به «التيار الصدري» لكن بطريقة مختلفة.
حل البرلمان والذهاب إلى انتخابات مبكرة مسار إجباري عبر الحوار الوطنى لا من خارجه، بالتوافق لا بفرض إرادة طرف على آخر.
ماذا قد يحدث لو لم تتفق القوى المتنازعة على إجراء انتخابات مبكرة باسم الحفاظ على المؤسسات والقواعد الدستورية والقانونية؟
.. وماذا قد يحدث إذا ما حكمت المحكمة العليا في دعاوى حل البرلمان.. بالقبول أو الرفض؟!
لا توجد قواعد حاكمة، متماسكة ومقنعة، في ظل المحاصصة الطائفية، التي أفسدت الحياة السياسية كلها.
«التيار» يطلب الانتخابات المبكرة واثقاً من شعبيته.. و«الإطار» يماطل خشية خسارتها مجدداً بصورة أكبر مما حدث في الانتخابات السابقة.
ثم.. ماذا قد يحدث إذا أطلت الاضطرابات مرة أخرى؟
رئيس الحكومة «مصطفى الكاظمي» لوح أنه سوف يعلن خلو المنصب إذا ما أفلتت الأمور مجدداً إلى حد الاصطدام المسلح.
خلو المنصب التنفيذي الأول في البلاد يعني انتقال مشروع الاحتراب الأهلي إلى واقع دموي على الأرض.
السؤال العملي الآن: أيهما أولاً.. انعقاد البرلمان لانتخاب رئيسيّ جمهورية ووزراء جديدين كما يطالب «الإطار» وأطراف عديدة أخرى، أم حل البرلمان فوراً وإجراء انتخابات مبكرة على ما يطالب «التيار»؟
لا بديل عن الحوار إذا ما أريد تجنب الاحتراب الأهلي، لكن كيف ومتى وبأية مخرجات؟
إنه سؤال يقع بالضبط في المساحة الحرجة بين التفجير والتهدئة.
* كاتب صحفي مصري
المصدر: الشروق
التعليقات مغلقة.