الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

قضية: أزمة المعارضة السورية || الصيغة…”حركة فتح سورية”

محمد خليفة

مقدمة

في الذكرى السنوية الثانية لرحيل محمد خليفة، رحمه الله، الباحث والكاتب الصحفي، والمناضل ضد نظام آل الأسد طوال سني حياته، نعيد نشر دراسة قيمة له، تكريماً ووفاءً وتذكيراً بمواقفه الوطنية المبكرة ونظرته الاستشرافية. الدراسة كتبها ونشرها على أربع حلقات، وباسم مستعار: “خالد العربي”، في مجلة “النشرة” التي كانت “تعنى بشؤون حركات التحرر العربية والعالمية” مساهمة منه في إطار ملف كبير عملت عليه، النشرة حينها، تحت عنوان: (أزمة المعارضة السورية).

الدراسة نشرت في الأعداد 119حتى 122 في الفترة الممتدة بين شباط/ فبراير 1989 حتى نيسان/ أبريل من العام نفسه.

في هذا الصدد الشكر الجزيل للأخ محمود خزام رئيس تحرير مجلة النشرة الذي قدم لنا ما يملك من اسهامات راحلنا الكبير محمد خليفة في المجلة المذكورة.

اليوم، في ظل المحنة السورية كم نحن بحاجة، لمحمد خليفة وأمثاله، لقلمه ورؤيته ومواقفه.؟

***************************

المجتمع السوري على استعداد دائم لإفراز أدوات وأساليب وأشكال للمعارضة والصمود

كثرةُ الأحزاب على النحو الحاصلِ كثرةٌ غيرُ مبررة، وهي تعبيرٌ عن التمزق والتشتت.

مبدأُ اختراق وتمزيق الأحزاب استخدمه الأسد ضد الأحزاب الحليفة والمعارضة بلا استثناء

واجبُ قوى المعارضة اختزالُ الأحزاب والتنظيمات القائمة إلى تيارات رئيسة

بعد أن يستعرضَ زميلُنا «خالد العربي» في الحلقة الرابعة والأخيرة من دراسته الهامة عن «أزمة المعارضة السورية» إيجابيات وسلبيات المعارضة، مركّزا في الوقت نفسِه على «الدم» الجديد الذي بدأ يسري في أوصال وأطراف وأعضاء القوى المعارضة وهو «الحوار» فيما بينها…

يؤكِّد: بأنَّ على القوى السياسية المعارضة في سوريا، وهي تبحث عن تحالف وطني عريض وجبهة تجمعُها وتوحدُ قواها في مواجهة النظام، يجب أن تدرس اقتراحاتٍ غيرَ عادية، وتبحثَ عن أشكال غيرِ تقليدية، تناسب حجم وضراوة المعركة المفروضة عليها من النظام السوري…لذلك فهي مطالَبَةٌ بإحداث ثوراتٍ عديدةٍ دفعةً واحدة…ثوراتٍ على نفسها، وفي أفكارها وأساليب عملها…ثوراتٍ في علاقاتها ببعضها، وبعلاقاتها بالجماهير…وثوراتٍ نضاليةٍ في مواجهة الطغيان والاستبداد السلطوي الحاكم…

المعارضَةُ السياسية المنظمة في أحزاب على الساحة السورية تزيد في مجموعها على خمسةَ عشرَ حزبًا، وهو عددٌ كبيرٌ نسبةً إلى عدد الشعب السوري (12 مليونًا) ومقارنةً مع أيِّ بلدٍ من البلدان العربية والأجنبية، المتخلفة والمتقدمة، وتزداد أهميةُ هذا العددِ إذا أدركنا حقيقة أنَّ الأحزابَ المعارضةَ تتناسب من حيثُ العددُ عکسًا مع طبيعةِ النظمِ الديكتاتوريةِ والفاشية في العالم، ولا شكَّ أنَّ النظامَ السوري كما رأينا نموذجٌ مروعُ للفاشية السياسية في نهايات القرن العشرين.

ومن المفيد هنا الاستشهادُ برؤية تحليلية لأحد أبرز أقطاب الحركة السياسية السورية المعارضة، وردت شفهيًّا على لسانه في حوار معه جرى عام 1980.

قال القطب: إنَّ النظامَ الحاكمَ ذو طبيعة فرانكوية (نسبة إلى الجنرال الإسباني فرانكو) ودموية، وهو لا يأبه لأي وازع أو رادع أخلاقي أو دستوري أو دولي، وهو على استعداد کاملٍ لسحق أيِّ معارضةٍ تواجهُه، ولو كلفت الوطن نهرًا من الدماء؛ ولذلك ـ يضيف القطب ـ فإنَّ الأجدى للأحزاب المعارضة عدمُ مناطحته اقتصادًا بالطاقات وحقنًا للدماء، وعليها أن تنتظر موته؛ لأنَّ مقاومتَه ما دام حيًّا لن تفيد، ولن تحقق تغييرًا، وعلى الأحزاب المعارضة تبعًا لذلك الانصرافُ إلى نمط من العمل الثقافي ـ والاجتماعي ريثما يموت هذا الحاكم الفرانکوي النموذج.

وبصرف النظر عن الاختلاف مع هذا الرأيِ في النتائج التي يصل إليها، فإنَّنا نتفق معه کاملًا في تحليله لطبيعة النظام والمرحلة الراهنة في سوريا.

إذن رغم فاشيةِ نظامِ الأسد، تحفلُ الساحة السورية السياسية بخمسةَ عشرَ حزبًا، وهي ظاهرةٌ لم تتوفر في بلدان كثيرة مرت بمراحل وأنظمة مشابهة، مما يؤكِّدُ حقيقةً يجب إبرازُها وتأكيدها، وهي:

أنَّ المجتمعَ السوري، المدنيَّ، والسياسيَّ، مجتمعٌ حيويٌّ، غنيٌّ بالطاقات، ثريٌّ بالتعددية، يموج بالتيارات الفكرية والأيديولوجية والسياسية التي تُعبِّر عن الغالبية الساحقة، إنْ لم نقل جميع التيارات الفكرية والسياسية في العالم المعاصر عمومًا، والوطن العربي خصوصًا.

وفي سبيل تعزيزِ هذه النتيجةِ، لا بدَّ أن نشير إلى أنَّ عددًا هامًّا من الأحزاب الفاعلة نشأ ونما واحتل مواقعه على الساحة في إبان حقبة الأسد، وفي ذروة جبروته، وعبر غمار المعارضة والمناهضة والمقاومة الوطنية بمختلف أشكالها، مما يضيف إلى المجتمع السوري صفةً أخرى هي الفعالية الخلَّاقة، تؤشر بدورها إلى استمرار هذا المجتمعِ في إفراز أدواتٍ وأساليبَ وأشكال المعارضة والصمود، والزجِّ بقوى جديدة إلى ميدان المواجهة الوطنية رغم كلِّ سياسة القمع والاضطهاد ومصادرة الحريات ومنع أيِّ هامش للحرية السياسية خارج مسرحِ النظام وشرعيته.

وبالإمكان تصورُ المستقبلِ السياسي في سوريا بالاعتماد على تلك النتائج والتحقق من أنَّ وفرةَ الطاقات الخلَّاقة، وتعدديتَها وحيويتَها قادرةٌ على صنع التغيير الديمقراطي المنشود أو فرضِه، أو المساهمةِ فيه، وقادرةٌ أيضًا على ترميم البناء الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، ومعالجةِ الآفات والأزمات التي خلقها نظام الأسد وسيخلفها بعد انهياره.

غير أنَّ تسجيل الإيجابيات لوجود حركة سياسية مؤطَّرة ومنظمة ووافرة العدد يجب ألَّا ينسيَنا الوجهَ الأخر لهذه الظاهرة.

فكثرةُ الأحزاب على النحو الحاصل، كثرةٌ غيرُ مبررة في بعض الأحيان، وهي تعبيرٌ أيضًا عن التشتت والتمزق والتذرر؛ ولا أدلُّ على ذلك من وجود عدةِ تنظيماتٍ ناصريةٍ لا يوجد بينها خلافاتٌ حقيقيةٌ تبررُ توزعُها، وكذلك وجود عدة تنظيمات مارکسية لا خلافات عميقة فيما بينها، والأمر نفسُه بالنسبة للحركة الإسلامية، وفي الواقع، أنَّ هذه الظاهرة تعبيرٌ عن حالة انقسام وانشطار، لا ظاهرة تعددية صحية فقط.

وربَّما كنَّا نجد في هذا التحليل تفسيرًا لتأخر حركةِ المعارضةِ الوطنية في خلق صيغة جبهوية للعمل المشترك على قاعدة وحدةِ المصلحة الوطنية، ووحدةِ الهدف، فضلًا عن وحدة المعاناة.

وليس من قبيل الاكتشاف السحري القولُ: إنَّ التياراتِ والحركاتِ السياسيةَ المتشققةَ تُعيقُ التقدم نحو العمل الجبهوي؛ لأنَّ التجربةَ علمتنا ومازالت، أنَّ اجتماع التياراتِ المتباينة أيديولوجيًّا أصلًا أسهلُ من اجتماع الأحزاب المنقسمة والمتوالدة من ذاتها بلا مبررات مقنعة سوى الأمراض الذاتيةِ والحزبية.

ولعل الباحثَ المتأملَ في تجربة الحركة السياسية السورية منذ مطلع السبعينات، يتوصل إلى أنَّ نظام الأسد تعاملَ مع الأحزاب المعارضة بأسلوبين مختلفين، ولكنَّهما متطوران، أي جاء الثاني في مرحلة لاحقة بناء على استنفاد أول لأغراضه.

الأسلوب الأول: استخدمَه بعد انقلابِ تشرين الثاني 1970 وحتى عام 1980، وهو أسلوب اختراق الأحزاب السياسية وشقِّها وقسمها وتمزيقها من الداخل سواء كانت معه أو ضده، أو على الحياد.

الأسلوب الثاني: استخدمه منذ بداية الثمانينات وحتى اليوم، وهو يقضي بمنع أيِّ عملٍ حزبي أو سياسي خارج إطار النظام (بما في ذلك الجبهة)، وسحقِ أيِّ تنظيم حتى ولو كان مهادنًا.

ما يهمنا من هذه الملاحظة هو القول: إنَّ انقسامَ الأحزاب والحركات السياسية السورية شکَّل ظاهرةً حقيقية في حقبة الأسد، وفي ظل سياستِه وأساليبِه البوليسية ومواجهته مع المعارضة، وربَّما كان الاستطرادُ هنا مفيدًا لنُشير إلى أنَّ تمزيق الأحزاب من جانب أجهزةِ نظامِ الأسدِ؛ تمَّ تعميمُه وتوسيعُ نطاقِه إلى الساحة اللبنانية التي دخلتها القواتُ السورية منذ عام 1976، ثم الساحةِ الفلسطينية، وفي الداخل استخدم حتى في مواجهة الأحزاب الحليفة والخاضعة له والمشاركة في إطار ما يدعى بالجبهة الوطنية التقدمية؛ وأنَّ هذا «المبدأ» أو الأسلوب استخدم منهجيةً شديدةً حيثُ طُبِّقَ على الأحزاب الحليفة أو المعادية بلا استثناء.

لذلك ربَّما كان من الواجب العملي والضرورة الوطنية أن تعمد قوى المعارضة السورية وهي تسعى إلى تأطير قواها وتوحيد صفوفها إلى العمل على منهجين متوازيين متکاملين.

الأول: بناء الجبهة الوطنية العريضة على قاعدة الوطنية والديمقراطية.

والثاني: اختزال الأحزاب والتنظيمات القائمة إلى تيارات رئيسة، فتتوحد الفصائل الناصرية، لتشكل کیانًا تنظيمًا موحدًا، وتعود الحركة الإسلامية إلى وحدتها التنظيمية أيضًا، وكذلك تنظيمات البعث، والتنظيمات الماركسية المتقاربة أيديولوجيا، والمتفقة على معارضة النظام.

إنَّ هذه المهمة لو تحققت، تشكل خدمةً جليلةً للحركة الوطنية ولمستقبل العمل السياسي والديمقراطي، وهي مؤشرٌ کشَّافٌ على جدية جميع الفصائل في التحالف والتضامن والتضافر؛ لأنَّ اليساري الذي يُظهر استعدادَه للالتقاء مع اليمين، أجدی به وأجدر أن يلتقيَ مع شقيقِه وتوءمِه الحزبي والسياسي والفكري.

وللفكرة أيضًا قيمتُها الكبرى، ذلك أنَّ الجوهرَ فيها هو وضعُ «مبدأ الوحدة» موضعَ التطبيق الفعلي تأكيدًا أو تجسيدًا لكل دوائر العمل الوطني والقومي والإسلامي والأممي التي تنادي بها جميعُ القوى والفصائل، ولا مصداقيةَ في تلك الشعارات الكبرى مالم تبدأ من هذا الجذر العميق، ومن ذلك الأساس الراسخ.

«مبدأ الوحدة» أحدُ أهمِّ وأقوى الأسسِ التي تكوَّنت عليها أمتُنا، وحضارتُنا وعقيدتُنا، وثقافتُنا، وهو أحدُ أقوى العواملِ الفاعلة في أنماط حياةِ وتفكيرِ شعبِنا حتى اليوم، ولا بدَّ أن یکتسب مضامين واقعيةً وعمليةً في إطار الحركة السياسية والمعارضة وبناء الجبهة الوطنية العريضة.

ما الأحزاب المعارضة في سوريا؟

قد يبدو السؤالُ من نوع لزوم ما يلزم…ولكنَّنا نرى أنَّه سؤالٌ هامٌّ، أحدُ أهدافِه تسليطُ الضوء على جزء في الأحزاب السورية اعتادت قوى المعارضة الرئيسة إغفالَه وإهماله، وهو ذلك الجزءُ الذي قَبِل الخضوعَ للنظام والانضواءَ تحت مظلته من خلال ما يُدعى بالجبهة الوطنية التقدمية.

وفي تقديري أنَّه مهما كان اتفاقُنا كبيرًا على هزلية وشكلية تلك الأحزابِ ومحدوديتها، فإنَّنا يجب ألَّا نختلف على أنَّها أحزابٌ سوريةٌ قائمةٌ وشبهُ معارضةٍ وجزءٌ من خريطة التوزع الحزبي والسياسي في سوريا، وفيها حزبٌ واحدٌ على الأقل ذو أهمية كبيرة هو الحزب الشيوعي السوري (البكداشي)، تتأتى أهميتُه من التيار الذي يمثله في الواقع الوطني والعالمي، لا من حجم انتشارِه أو نشاطه.

وفي تقديري أيضًا أنَّ على الأحزاب المعارضة وضعَ خطةٍ أو ممارسة حوار مع بعضِ الأحزاب المشاركة في جبهة النظام؛ بهدف تحقيق المزيد من عزلة النظام وتوسيع قاعدة المعارضة الوطنية، وإذا كنَّا نتفق على أنَّ زعماء الأحزاب لا تُفيد ولا يُجدي الحوارُ معها، فإنَّ توجيهَ العملِ بهدف کسب قواعدِ هذه الأحزابِ وإخراجِها من ساحة النظام إلى الأفق الوطني مسألةٌ جديرةٌ بالاهتمام، ولو في الدرجة الرابعة أو العاشرة من سلم أولويات العمل الوطني.

الهدفُ الوحيدُ لما نطرح هو حشدُ أكثر ما يمكن من الفئات والأحزاب والقوى والشخصيات في مواجهة نظامٍ يجب أن يُعزل في الداخل والخارج؛ حتى يصبح نظامًا قائمًا على شخص واحد أو على عدد من الأجهزة، وفئة محدودة من الطائفة العلوية.

المعركةُ قاسيةٌ وضاريةٌ، وتستحق مثل هذه الجهود، والأهمُّ من ذلك أنَّ على المعارضة الوطنية أن تتحملَ منذ هذه اللحظةِ كافةَ مسؤولياتِها، وفي طليعتها مسؤوليةُ إعادةِ بناء المجتمع، وتدعيمُ الوحدة الوطنية، وغرسُ بذور الديمقراطية المنشودة؛ ولذلك لا بد أن تكون الجبهةُ الوطنية الديمقراطية المعارضة التي تتشكل الآن، مجسمًا صغيرًا ولكن دقيقًا وأمینًا للمجتمع الوطني السليم وللحياة الديمقراطية القادمة.

أمَّا الأحزابُ والقوى السياسية المعارضة للنظام، فهي معروفة للقاصي والداني في الداخل والخارج، وإن كان من المفيد تعدادُ هذه القوى وفقًا لأهميتها التي ظهرت نتيجةً للأدوار التي لعبتها على أرض الواقع خلال حقبة الأسد عمومًا، وخلال السنوات العشر الأخيرة:

أولًا: الحركة الإسلامية، ولاسيما الإخوان المسلمون.

ثانيًا: الحزب الشيوعي ـ المكتب السياسي…

ثالثًا: الاتحاد الاشتراكي العربي.

رابعًا: حزب العمل الشيوعي.

خامسًا: حزب البعث، (بشقيه: ۲۳ شباط، والقيادة القومية).

سادسًا: التنظيم الشعبي الناصري.

وعلى عاتق هذه الأحزابِ تحديدًا تقع المسؤولية الرئيسةُ في صياغة المشروع الوطني للتغيير، وبرنامجِ الحدِّ الأدنى للقاء السياسي الجبهوي، والحوار من أجل رسم وتحديد الأفق الوطني، والقومي، الديمقراطي لسوريا العربية.

وإذا كان من المؤكَّد أنَّ عددًا من هذه الأحزاب مازال يقف بعيدًا عن أعين المشاركة في أي لقاءٍ وطني، فإنَّه ممَّا يُؤسَفُ له؛ لأنَّ اللقاءَ كمبدأ مستقلٍ ومجردٍ عمَّا سواه هو مسألةٌ ذاتُ أهمية كبرى، ومعيارٌ رئيسي لجدية المعارضة، ومصداقية الطروحات السياسية والفكرية.

لقد خاضت هذه القوى المعارضِةُ، منذ بداية حكم الأسد، مواجهاتٍ سياسيةً عنيفةً ودامية، وقدمت تضحياتٍ سخيةً وثمينة، وساهمت مساهماتٍ متفاوتةً، ولكنَّها في محصلتها غنيةٌ وهامة، وحاولت فئاتٌ منها العمل الجبهوي والتحالف، في الداخل والخارج، وخرجت بتجارِب فيها إيجابياتٌ وسلبيات، ولكنَّها كانت ومازالت جميعًا تقترب رويدًا رويدًا من حقيقةِ أنَّ معركةَ إسقاط النظام، وملحمةَ صنع التغيير بمعناه الواسع والعميق تحتاج تضافرَ جميعِ القوى وتضامنها، وتسير باتجاه الوصول إلى صيغة تنظيمية ملائمة، والاتفاقِ على شروط وضمانات لعدم تكرار الماضي وخطاياه، والتأكيدِ على أنَّ شعاراتِ المرحلةَ السلبيةَ لن تُرفس بالأرجل من جديد؛ فيما لو أتاحت الظروفُ لأيِّ طرفٍ أن يصل إلى الحكم، ويعودَ من جديد للانفراد بالسلطة وإقامة نظام فردي ودیکتاتوري جديد.

وفي تقديرنا أنَّ الضماناتِ والشروطَ التي لا غنى عنها لقيام جبهةٍ وطنيةٍ عريضةٍ فاعلةٍ ومتينةٍ وسليمةٍ هي:

1-الديمقراطية: أيْ الإيمانُ بالديمقراطية منهج في التفكير ونمط في الحياة ونظام للحكم والمجتمع.

2 ـ الوطنية: أي نبذُ الطائفية كتفكير أو سلوك نبذًا مطلقًا، ورفضُ أيِّ معارضة للنظام الطائفي الحاكم حاليًّا بأساليب ومنطق طائفي.

3-الوحدوية (العربية والإسلامية): أي وضعُ العمل الوطني في سوريا والمستقبل السوري برمته في إطاره القومي العربي الطبيعي، وفي أفقه التحرري وفي مداه الإسلامي والحيادي الإيجابي؛ وعلى ذلك فإنَّ مسألةَ الصراع مع إسرائيل كعدو مطلق وشر مطلق وتحرير فلسطين، وإقامة الديمقراطية في جميع البلدان العربية، يجب أن تكون مسلماتٍ رئيسةً وواضحةً لجميع القوى الوطنية السورية المعارضة، وأيُّ خلل أو إغفالٍ لأيٍّ منها يُفقِدُ المشروع الوطني لسوريا مصداقيتَه وواقعيتَه ومبدئيتَه، ويهددُه من الداخل والخارج.

ويجب التأكدُ هنا بصورة أساسية على أنَّ المعارضةَ للنظام السوري جوهرُها رفضُ الديكتاتورية ونشدانُ الحرية والعدالة والديمقراطية، ورفضُ الخيانة الوطنية والقومية التي جسدها نظامُ الأسد تجسيدًا «رائعًا»؛ ولذلك فإنَّه يجب إظهارُ هذا الجوهرِ وصقلُه وتحويلُه إلى مبدأٍ ومنهجٍ ومعيار للجميع وفي كلِّ الأوقات والأماكن؛ وعليه فلا يجوز بأيِّ حال من الأحوال معارضةُ دیکتاتورية النظام السوري والسكوتُ عن دیکتاتورية أيِّ نظام عربي آخر.

كما لا يجوز معارضةُ خيانةِ النظامِ السوري الوطنية وتفريطِه بالمقدسات والواجبات القومية، والسكوتُ على أيِّ نظامٍ عربي يقوم بالجرائم نفسِها.

لقد أسفرتِ المرحلةُ السابقةُ في الوطن العربي عن بروز ظاهرة «تدوير المعارضة» كأسوأ إفرازاتِ العمل الوطني المعارض العربي؛ حيثُ كانتِ المعارضةُ السورية تستند إلى النظام العراقي، وتستند المعارضة العراقية إلى النظام السوري، كما تستند المعارضة الليبية إلى النظام المصري، وتستند المعارضة المصرية على النظام الليبي، وهكذا تكون محصلةُ نضالِ قوى التحرر والديمقراطية في الوطن العربي صفرًا أو مجموعةَ أصفار؛ لأنَّها تدور في حلقات مفرغة.

ما قد مضى، مضى، والمهمُّ الآن استخلاصُ الدروس والعبر وتجاوزُ الأخطاء. وفي رأيي أنَّ المعارضات العربية، ومنها المعارضةُ السورية، يجب أن تبحثَ عن إطار للعمل المشترك أو المتوازي، أو بناءِ تحالفٍ شعبيٍّ قوميٍّ عريض من المشرق إلى المغرب، يطرح التغييرَ الشامل، وإقامةَ الديمقراطية على امتداد الأرض العربية، لاسيما وأنَّ الأنظمةَ العربية متقاربةٌ أو متفقة على حد أدنى فيما بينها، وهو من أسباب استمرارها جميعًا حتى الآن، وكثيرًا ما قامت بعضُ الأنظمة بالتضحية بقوى معارضة من بلدان أخرى، والمساهمة على رأسها في صفقات ومقايضات تحدث كثيرًا بين الحكام العرب.

إنَّ الضمانةَ الوحيدة للديمقراطية (المنشودة) في سوريا أو في أي بلد عربي آخر هي أنَّ تعمَّ الديمقراطية جميع أرجاء الوطن الكبير، ولا أملَ في إقامة نظام ديمقراطي على جزء صغير أو كبير في الأرض العربية؛ لأنَّ الديكتاتوريات العربية لن تسمح له بالحياة أو بالاستمرار، ولبنان مثلٌ صارخ على هذا.

نظرة نقدية لتجربة المعارضة السورية:

ما حصيلةُ النضال الوطني للقوی السياسية السورية في ظل نظام الأسد وإفرازاته؟

وبالتحديد ما إيجابياتُ وسلبياتُ المرحلةِ السابقة من نضال وكفاح الحركة الوطنية السورية؟

أولًا: الإيجابيات:

حققت قوى المعارضة السورية إيجابياتٍ عديدةً وهامةً، أصبحت تشكل رصيدًا متراكمًا وكبيرًا لابدَّ أن يُحدثَ نقلةً نوعيةً في وعيها وممارستها ورؤيتها للواقع وللمستقبل:

أبرزُ هذه الإيجابيات وأهمُّها على الإطلاق إظهارُ القدرة على الصمود والاستمرار، بل والتطورُ في ظل أسوأ وأقسى الظروف السياسية العميقة، والاجتماعية الممزقة.

فرغم بطشِ نظام الأسد وأجهزته، وضرباتِه وعمليات المطاردة والاضطهاد والحرب الدموية الشاملة، للقوى المعارضة، استمرت هذه القوى في المواجهة وتحدي إرادة النظام، مما يجعل من وجود المعارضةِ السورية حقيقةً راسخةً في الداخل والخارج، وإن كانت في حدود تقلُّ عن الطموح، ويجب ألَّا ننسي ـ كما أسلفنا ۔ أنَّ المعارضة في ظل ظروفٍ مشابهةٍ في بلدان أخرى امَّحت نهائيا عن الوجود، ولم يبق لها أثر.

ومن هذه الإيجابيات أيضًا أنَّ التضحياتِ التي قدمتها فصائلُ المعارضة، والمثابرةَ على طريق الكفاح والنضال، خلقت رموزًا أو أسماءَ مضيئةً للعمل الوطني، وهي إيجابية كبيرة؛ لأنَّ العملَ السياسي بلا نماذجَ وأبطالٍ وقادةٍ وأمثلةٍ حيةٍ ومجسدةٍ في بشر ورجال يقاتلون، ويُقتلَون، ويعذبون، ويتحملون، ويصبرون…يفقد كثيرًا من جدواه وروحيته وطاقته، وفي سوريا الآن رموزٌ وأبطالٌ من قادة المعارضة، دخلوا وعي المواطن وضميره وسکنوا وجدانَه وفكره، وتحولت بطولاتُهم وتضحياتهم إلى تراث وطني لكل فئات الشعب.

ومن إيجابيات العملِ الوطني المعارض أيضًا انتشارُ «الحوار بين القوى والفصائل التي كانت على مدى المراحل الماضية في تاريخنا الوطني، منغلقةً على نفسها أو متعاديةً أو متصارعةً سلفًا على أي شيء، وكلِّ شيء، وبلا أيِّ شيء!! والحوارُ الذي بدأ يسري في أوصال وأطراف وأعضاء القوى المعارضة الآن هو الدمُ الجديدُ في حركتها القادمة؛ وهو الروحيةُ الجديدةُ التي حلت محلَّ الفردية الحزبية والهوية، وهو الاعترافُ بالآخر، وبالغير الذي بدأ يُغير النظرةَ السابقة إلى الواقع العام والوطني، النظرة التي كانت لدى جميع القوى والفصائل تنطبق من اعتبار الذات هي مصدر الحقيقة الوحيد، وهي التي تحتكر الوطنية الصحيحة والصواب، فيما يمثل الآخرون جميعًا صورًا متعددةً للزيف والخطأ والانحراف والعمالة أو الخيانة!!!

إنَّه لمن الإيجابي جدًّا أن تنزاحَ الأوهامُ الفكريةُ والسياسيةُ المتراكمةُ والمتسربة في الوعي والممارسة عبر الحقب السابقة، وتنهارَ الحواجزُ النفسية، وينشأ محلَّها النزوعُ الديمقراطي نحو القبول بالآخرين، والتعاملِ معهم، والتفكيرِ المشترك في قضايا الواقع والوطن والحياة، والتعاونِ على قواعدَ متفقٍ عليها ومشتركة، وتنظيمِ الخلاف فيما لا يمكن الاتفاقُ عليه في مسائل وقضايا فكرية وسياسية، وفيما ليس من الضروري أصلًا الاتفاقُ المكرر والمتناسخ عليه.

وإنَّه لمن الإيجابي جدًّا، ويدعو للتفاؤل الحقيقي تلك الحوارات، بين الفصائل والقوی الإسلامية والقومية والماركسية والليبرالية، والبحث المشترك في الهموم والاهتمامات العامة الوطنية.

إنَّ «سيادة الحوار» بحد ذاته إنجازٌ وطنيٌّ في هذه المرحلة، وإنجازٌ تاريخيٌّ وحضاريٌّ على صعيد المستقبل والغد.

وليس سرًّا أنَّ الحوارَ أصبح قانونًا ينظم حركة جميع أو غالبية التيارات والتنظيمات السورية، وبدا يفرز تلقائيًّا نتائجَ هامةً سيكون لها آثارٌ لا تُحصى ولا تُحصر على مستقبل العمل الوطني في سوريا، وعلى صعيد الفكر والديمقراطية.

ولا بدَّ للحوار أن يعطيَ نتائجَه العملية؛ لكيلا يبقى مجردَ مساجلاتٍ نظريةٍ أو أحلامٍ فكرية نخبوية، وأهمُّ النتائج المنتظرة منه هو بلورةُ مشروعٍ وطني وبرنامج عمل تلتف قوی المعارضة على أساسه، وتنسقُ نضالاتها وجهودها لإزاحة الكابوس الثقيل القابع على صدر الوطن وأنفاس المواطنين.

إنَّ قيامَ الجبهة الوطنية العريضة للمعارضة بصورة فعَّالة وبصيغة ملائمة، وحقيقيةٍ نضاليةٍ على الأرض في الداخل والخارج؛ هي الثمرةُ المطلوبة للحوار الخلَّاق الدائر الآن، وإلَّا فإنَّ عدمَ ظهور الثمر سيعطي دليلًا قاطعًا -لا نتمناه-على أنَّ الأشجارَ ذاتَها مريضةٌ ينخرها السوس، وأنَّ الحوارَ لم يسقِ جذورَها ویروِ فروعها وأغصانها.

هذه هي أهم إيجابيات المعارضة السورية بمختلف فصائلها وقواها، وبصورة عامة.

ثانيًا: السلبيات:

للأسف لابدَّ أن نشير إلى أنَّ حجمَ السلبيات وعددَها في فکر وعمل وتجارب المعارضة السورية ما يزال أكبرَ من الإيجابيات حتى اللحظة.

وتقريرُ هذه الحقيقة لا دافعَ له إلَّا الرغبة في تصوير الواقع بكل ما فيه من آفات وأمراض، ولا هدف له إلَّا التخطي والتجاوز والإصلاح والمعالجة.

ومن دون فحصٍ سريري دقيق لا أمل في علاج صحيح، ومن دون نقدٍ ذاتيٍّ جريءٍ وبناءٍ لا أمل في تصحيح المسيرة والمسار.

أبرز السلبيات:

  1. عدمُ القدرةِ على خلق «قضية سورية» على المستوى العربي والعالمي.

من المؤكَّد الذي لا خلاف فيه، والمتفق عليه لدى الجميع أنَّ هناك أزمةً وطنيةً عميقة في سوريا، ومشكلةً دیکتاتورية حاكمة، وقمعًا بلا حدود، وإلى جانبها، هناك قوى معارضةٌ تخوض مواجهةً داميةً باسلة، ومع ذلك فشلت هذه المعارضة في تحويل المشكلة السورية في الداخل إلى قضية عالمية أو عربية في الخارج.

إذا كان من المتفق عليه أيضًا أنَّ النظامَ السوري محميٌ من قبيل قطبي النظام العالمي، ومدعومٌ من غالبية الأنظمة العربية، فإنَّه كان من الضروري أن تعمل المعارضةُ على طرح وخلق قضيتها في الخارج، كما نجحتِ المعارضة الإيرانية في عهدي الشاه والخميني على خلق قضية إيرانية، وكما نجحتِ الحركة الفلسطينية البارعة منذ سنوات طويلة في خلق قضية فلسطينية رغم أنَّ النظام العالمي بكل أطرافه يدعم إسرائيل، ويغطي على جرائمها، مثل ما هو حاصل مع نظام الأسد وأكثر بكثير.

إنَّ تحقيقَ هذا الهدفِ لو نجحت فيه المعارضة السورية، لكان خلق معادلًا موازيًا لقدرة نظام الأسد على الاستفادة من دعم الدول العظمى له، ووضع قوة الرأي العام الدولي في مواجهة النظام السوري والدول الكبرى الداعمة له…

ولكن للأسف، لم تعملِ المعارضةُ السورية على هذه الجبهة الخطيرة، حتى أنَّ شخصیاتٍ سوريةً بارزةً ومعارضةً ومعتقلةً منذ عشر سنوات، لم يسمع بها أحدٌ في الغرب!!

  1. غياب الديمقراطية من الحياة الحزبية الداخلية؛ وربما كان هذا مبررًا حتى اللحظة، ولكن لا شيء يبررُه اليوم وغدًا. ونحن من الذين يرون أنَّ الإيمان العميق بالديمقراطية في البيئة السياسية السورية حديثُ العهد، في أحسن الأحوال، وربما كان هذا الإيمان ما يزال ضعيفًا، بدليل أنَّه لم يتحولْ إلى سلوك ونمط حياة، في داخل غالبية التنظيمات السياسية.

ولعل الأسبابَ التي يرجع إليها هذا الإلحادُ بالديمقراطية كثيرةٌ، أهمُّها: أنَّ القوى السياسيةَ المعارضة حتى وهي تقاوم النظام الديكتاتوري تكتسب بعضَ طبائعِه وخصاله، وكذلك، أنَّ الديمقراطية كمرحلة من مراحل التطور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي، لم يبلغْها المجتمعُ السوري إلا لفترات قصيرة وعابرة بُعيدَ الاستقلال، وعاش جوانب منها، ولم يعشها كاملة أو مكتملة، ومازال هذا المجتمع حتى اللحظة يعاني ويمارس الاستبداد والقهر في علاقاته الداخلية على مستوى الأسرة والمدرسة والمجتمع والقبيلة والطائفة…إلخ، والديمقراطية تربيةٌ وتقاليد تُكتسَب وتترسخ، وتطورٌ يتحقق في ظل شروطٍ موضوعية اجتماعية واقتصادية.

وربما كانتِ الإيجابيةُ الوحيدة ـ إن كان هناك إيجابية ـ لحقبة الأسد، أنَّها مضت بالاستبداد والديكتاتورية والفاشية إلى نهاياتها العظمی السوداء البشعة، بحيث دفعت المجتمع والقوى السياسية إلى تلمُّس الخيارِ الديمقراطي دفعًا، واضطرته اضطرارًا للتشبث بها، والكفاح في سبيلها، بعد ما عانى ما عاناه من سياط القهر والقمع والاضطهاد وانعدام الحقوق والعدل والقانون.

إنَّ تطورَ المعارضة السورية باتجاه الديمقراطية في السنوات الأخيرة لايزال مجردَ اقتراب منها، وتبيُّنٍ لها تبيُّنا شعاريًّا مجردًا وغنائيًّا أكثر منه إدراكها إدراكًا واعيًا کاملًا وشاملًا لشروطها ومعطياتها ونتائجها. ويبدو الحديث عنها في هذه الأوساط وكأنَّه إيمانٌ قدريٌّ غيبيٌّ وتعلقٌ بحل سحريٍّ سيُنهي كلَّ آثار ونتائج نظام حافظ الأسد…في حين أنَّ الديمقراطية ثورةٌ اجتماعيةٌ وسياسيةٌ عنيفةٌ وطويلةٌ، ومجردُ طرحِ شعارِها لا يحققها، فضلًا عن أنَّ مفاهيمَ الديمقراطية تختلف وتتباين تباينًا واسعًا واختلافًا عميقًا، وهي تمتد من أقصى المركزية وأشدِّها إلى أقصى الليبرالية وأوسعها…وربما كان ما تطرحُه القوى السياسيةِ المعارضة في سوريا حاليًّا هو شكل من أشكال الليبرالية السياسية فقط لا ديمقراطية، وهو جزءٌ من الليبرالية لا كلِّها؛ لأنَّه يقتصر وينحصر في الإقرار بالتعددية وحق التيارات في التعبير عن ذواتها بالأوعية التنظيمية وممارسة النشاط الحزبي السياسي.

على أي حال، وأيًّا كانت مضامينُ الطروحات ومفاهيمُها، وأيًّا كانت درجةُ اقتراب المعارضة السورية من مفاهيم الليبرالية والديمقراطية، فهو تحولٌ هامٌّ، وتطورٌ تاريخيٌّ كبير ستكون له نتائج ملموسة.

لكنَّ المهمةَ الرئيسة في المرحلة الراهنة بالنسبة للقوى السياسية هي «تعميقُ» عمليةِ الاقتراب والتحول من الديمقراطية إلى أعماق البُنى التنظيميةِ والحزبية؛ ذلك أنَّ الإيمانَ بالديمقراطية الآن یکاد يتوقف عند القيادات الأولى التي تتحاور فيما بينها، وتتعاون في البحث عن صيغة عمل جماعية ديمقراطية، بينما المطلوب هو نقلُ هذه العمليةِ الحيوية إلى داخل الأحزاب، وتكريسُها، وترسيخُها نظريًّا ودراسيًّا، وكذلك عمليًّا، ومن دون ذلك سيبقى التحولُ محصورًا ومحدودَ النطاق. ومما يساعد على إنجاز المهمة أنَّ البيئةَ العامة في المجتمع والأحزاب السياسية في سوريا مؤهلةٌ الآن لهذه النقلة، بعدما عانت الذي عانته على أيدي النظام، إضافة إلى أنَّ الوطنَ العربي كلَّه (وكذلك العالم) يتجه نحو الديمقراطية أو الليبرالية، ولا شعارَ أعلى من شعار الديمقراطية، ولا نداءَ أقدسُ وأعلى منها، ولا مطلبَ يحوز على ثقة الجماهير والأمة يتقدم على هذا المطلب، فهو الآن محلُّ إجماعِ الشعب بمختلف طبقاته وفئاته وقواه، ولكن ذلك يحتاج إلى ممارسة منظمةٍ وتربيةٍ واعيةٍ، وبرامجَ تقننُه وتكثفه وتنظمه؛ لأنَّ الأمنيات لا تتحقق من تلقاء نفسها.

3-غيابُ البرنامجِ الوطني الذي يمثلُ ويجسد أمانيَ وطموحاتِ شعبنِا العربي السوري، ويحوزُ على ثقته، ويرسمُ صورة المستقبل الذي يناضل من أجله، ويحددُ الخطواتِ المطلوب إنجازُها، والتدرجَ عبرها سواء بالنسبة لمهمة إسقاطِ النظام أو إحداث التغيير أو الاتفاق على القواعد التي تنظم العملَ الوطني في المرحلة اللاحقة وشكلَ النظام السياسي والاجتماعي وهويته ومبادئه الرئيسة.

إنَّ هذا البرنامجَ الغائب حتى اللحظة، يجعل نضال المعارضة مسربلًا بالغموض، ويحجب الثقة، ويثير الشكوكَ أكثرَ مما يثير الآمال والحوافز النضالية، وعلى هذا البرنامج الذي يجب إنجازُه في أقرب فرصة ممكنة -إن لم يكن حالًا-أن يُعيد التفكير والنظر في جميع جوانب الحياة السورية السياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية، وغير ذلك، ويجب أن يسبرَ أغوارَ الواقع، ويخرجَ بحلول ثوريةٍ شجاعةٍ وجذريةٍ لبعض المشاكل والأزمات…كالديمقراطية ومؤسساتها، والحريات وقواعدها، والمؤسسة التشريعية، والقضائية، والحكومية وشكل النظام المناسب، وكذلك بالوحدة الوطنية، وحقوق الأقليات القومية والدينية والمذهبية، الأكراد والأرمن والدروز والعلويين والشيعة وغيرهم، ويجب أن تُطرح هذه القضايا طرحًا واضحًا، وتُعالَجَ معالجةً عميقةً وجريئة.

وفي تقديري أيضًا يجب أن يتضمنَ البرنامج إعادةَ نظرٍ بدور المؤسسة العسكرية في سوريا على ضوء دورها وإنجازاتها التي حققتها والمصائب التي جرَّتها على المجتمع والدولة، وحجم الإنفاق الضخم الذي استنزفته من موارد البلاد منذ عام 1945 إلى اليوم بلا نتائج تذكر…وعلى ضوء تدخلها في الحياة السياسية، وكذلك على ضوء ضرورتها وأهميتها بالنسبة لقضية تحرير الأرض والوطن وفلسطين والصراع العربي ـ الإسرائيلي.

لكنَّ المهمَّ وبصرف النظر عن النتائج هو إعادةُ النظر في كثير من المسلمات على ضوء الواقعِ فقط بما في ذلك مؤسسة الجيش، واختيارُ الشكل والأسلوب الأمثل والأنسب والدور والوظيفة والمهمات التي يجب أن تضطلع بها.

إنَّ فقدان البرنامج الوطني السياسي للكفاح والمعارضة يمثل سلبيةً كبيرةً ونقطةَ تأخرٍ أو تخلف بارزة في مسيرة القوى السياسية، لابدَّ أن تتداركَها فورًا.

بعض الاقتراحات برسم المستقبل:

على قوى وأطراف المعارضة مهماتٌ خاصةٌ كثيرةٌ، لابدَّ أن تنجزَها، إذا أرادتِ الاستمرارَ والتجددَ ومواصلة لعب الدور الطليعي أمام شعبِها وجماهيرها، وإذا أرادت أن تتفادى حكمَ التاريخ بالفشل والسقوط والزوال.

إنَّ هذه المهماتِ المطلوبَ إنجازُها تصدر من طبيعة المعركة التي تخوضها، ومن طبيعة التحولات التي حصلت في المجتمع السوري، وكذلك طبيعة التحولات التي تحدث الآن في العالم كلِّه على جميع الأصعدة: الفلسفية والأيديولوجية والثقافية والسياسية والتكنولوجية والعلمية.

وعلى سبيل المثال فقط، نطرح بعض الرؤى والتصورات الشخصية:

1-إنَّ أنماطَ وأدواتِ وأساليبَ العمل الحزبي والتنظيمي المتبعة في سوريا تعود لعشرات السنين الخوالي، وهي تحتاج لثورة حقيقية على ضوء المعطيات العلمية الحديثة، وما كان يناسب الخمسيناتِ لم يعدْ يناسب التسعيناتِ أو القرن الحادي والعشرين وعلى سبيل المثال، فإنَّ العالمَ الذي ينمو بسرعة منحى لا مركزيا في بناء الدول والمؤسسات يتطلب إعادة بناء الأحزاب بالمنحى نفسِه، ولم تعدِ المركزيةُ الشديدة هي الطريقة الملائمة.

2۔إنَّ شعاراتِ العمل السياسي والخطاب الأدبي للأحزاب، ولغة النقد والمعارضة في مواجهة النظام المتبعة حتى الآن جزءٌ من مرحلة غابرة أيضًا، وفي العالم الآن لغةٌ جديدةٌ وطريقةٌ مختلفةٌ في طرح وصياغة الخطاب والأدب السياسي، وعلى سبيل المثال لم تعدْ لغةُ الهجوم الأدبي والإنشائي والكلمات الكبيرة في شتم النظام في الأسلوب المقنع للشعب، وحلَّت محلَّها اللغةُ العلمية، والمعلوماتية؛ إنَّ بیانًا حزبیًّا یکشف للجماهير حقائق الوضع الاقتصادي والاجتماعي بالأرقام والمعلومات الباردة العلمية المؤكدة أكثر تأثيرًا من اللغة النارية والكلمات الإنشائية.

3 ـ إنَّ على جميع النظريات والأفكار والفلسفات إعادةَ النظر في كثير من المسلمات التي تتبناها جميعُ الأحزابِ والقوى السياسية على ضوء الواقع فقط، بما في ذلك مؤسسةُ الجيش. واختيار السورية تتعرض الآن في العالم وفي الواقع وفي الشكل والأسلوب الأمثل والأنسب والدور المختبرات العلمية إلى زلازل عنيفة في التحولات والوظيفة والمهمات التي يجب أن تضطلع بها عميقة جدًّا، وكلُّ ذلك يحتاج من أحزابنا ومثقفينا إعادة نظرٍ بتلك النظرياتِ والمناهجِ والمعارضة يمثل سلبية كبيرة ونقطة تأخر، والأفكار التي كانت حتى الأمس مسلماتٌ لا تقبل الشك أو النقد، تتداركها فورًا.

إنَّ التيارَ الماركسي العربي مطالبٌ بثورة بريسترویکا شجاعةٍ في نظريته ومنهجه، على بعض الاقتراحات برسم المستقبل: غرار ثورة غورباتشيف، فضلًا عن أنَّه مطالبٌ بثورة مضاعفةٍ للالتحام بواقعة الوطني المحلي، والتيارَ الإسلاميَّ مطالبٌ بإعادة نظر على ضوء التطورات في مواقفه ومناهجه من القضايا العلمية والاجتماعية التاريخ والاقتصادية، وكذلك في مواقفه ونظرته السابقة للعروبة والقومية.

والتيارَ القوميَّ مطالبٌ بإعادة نظر لا تقلُّ عمقًا وعنفًا تجاهَ حقوقِ الأقليات وتجاه الديمقراطية والتعددية، وتجاه الإسلام والتيارات الإسلامية والحركات الإسلامية.

 4-إنَّ القوى السياسية المعارضة في سوريا، وهي تفكر وتبحث عن تحالف عريض وجبهة تجمعها وتوحد قواها في مواجهة النظام؛ يجب أن تدرس اقتراحاتٍ غيرَ عادية، وتبحث عن أشكال غير تقليدية تناسب حجمَ وضراوةَ المعركةِ المفروضة عليها من النظام السوري…اقتراحاتٍ جريئةً وغيرَ عادية من نوع إقامةِ صيغةٍ تنظيميةٍ وطنيةٍ عريضةٍ وموحدة، تتسعُ لجميع الجماهير، ولا تتبنَّى أيةَ أيديولوجية أو نظرية أو برنامج، وتقتصر على شعار: التغيير الوطني والديمقراطي…صيغة من نوع «حركة سورية» أي إطار وطني فضفاض يتسع لكل فئات وطبقات وتيارات الشعب العربي في سوريا؛ لأنَّ المعركةَ ضد النظام السوري أكبرُ من قوة أيِّ تنظيم أو حزب، ولأنَّ الحركةَ الشعبية العريضة هي الشكلُ الأرقي للجبهة…ولا يعني هذا الاقتراحُ حلَّ الأحزاب ونسيان النظريات والأيديولوجيات الخاصة بكل حزب، ولكنَّه يعني ولادةَ حركةٍ شعبيةٍ وطنيةٍ بالتعاون فيما بين جميع الأحزاب، تكون مهمتُها فقط حشدَ وتعبئة الطاقات الوطنية بأوسع مدى في مرحلة إسقاط النظام.

 وعلى أية حال، فإنَّ ما نقوله هنا ليس إلَّا مجرد اقتراح خاضع للنقاش…وربما هناك أفكارٌ واقتراحاتٌ أكثر تقدمًا وجدوى.

5 ـ إیجاد صيغة خلَّاقة للتعاون بين قوى المعارضة في الداخل، بعضِها مع بعض، وفيما بينها في الداخل من ناحية، والخارج من ناحية ثانية، بحيث لا تكبح المعارضة في الخارج المعارضة الرئيسة في الداخل، ولا تكون عبئا عليها، بحيث تخدمها إعلاميًّا وسياسيًّا، وتترك النضال المباشر واليومي للداخل.

وللأسف لقد حاولت بعضُ القوى السياسية في الخارج أن تكون في السنوات الماضية بديلًا عن الداخل، أو متاجرة باسمه، وحاولت في أحيان أخرى أن تعبر عن الخارج أكثر مما تعبر عن الداخل لمصالحها في الخارج لا العكس.

وهكذا…

كلمة أخيرة:

إنَّ الحياةَ لا تعرف الفراغ، والتاريخَ لا يحتل الفجوات…لذلك فإنَّ قوى المعارضة السورية مطالبةٌ بإحداث ثوراتٍ عديدةٍ دفعةً واحدة، ثوراتٍ على نفسها وفي أفكارها وأساليب عملها، وثوراتٍ في علاقاتها ببعضها، وبعلاقاتها بالجماهير، وثوراتٍ نضالية في مواجهة الطغيان والاستبداد السلطوي الحاكم…وإلا…

وإلَّا فإنَّ شعبَنا العربي السوري الذي يتمتع كما ذكرنا بحيوية خارقة وعبقرية فذة، وكذلك أجيالنا الجديدة التي وُلدت في وسط الجحيم، واكتوت بلهيبه، واشتدت أعوادُها في قلب النار، ستتجاوز جميعَ الأحزاب والتنظيمات والشعارات المطروحة، وستفرز أشكالَها وأدواتِها وأفكارها، وستخوض المعركة مع النظامِ مفردها، وربما خاضتها أيضًا معنا، أو أدانت ضعفنا وعجزنا وقصورنا…

إنَّ هذا قد يحدث…لأنَّ الأجيالَ الجديدة لن تنتظرنا طويلًا، ولكنَّ هذا سيكون من دون تعاون بين الأجيال القديمة والأجيال الجديدة ونقل للخبرات؛ ولربما سيؤدي هذا إلى خسائر وإطالة أكثر في عمر الصراع، وفي أمد النظام، وبالتالي في معاناة شعبنا الصابر الصامد، وإعاقة أطول لدور شعبنا وبلدنا في حياة أمته العربية، وفي معركة الصراع القومي المقدس ضد الصهيونية والاستعمار العائد بسرعة وزخم إلى بلادنا جميعًا…

فهل نختصر الشوط؟ وهل نقتحم التحديات؟ وهل نتجاوز الماضي والأخطاء والذات؟

إنَّ الأمل كبير!

ولا بدَّ أن يكون شعارُنا: لأنَّنا مسرعون جدَّا يجب أن نسير ببطءٍ شديد!

المصدر: موقع ملتقى العروبيين

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.