الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

السيناريوهات المعقدة: السودان أمام اتجاهين

عماد البليك

تهديد الحرب الأهلية كامن في أدواته المتمثلة في النزاعات الإثنية والصراعات القبلية والمناطقية وبنية التكوين السيسيولوجي والثقافي. تطرح أوضاع القتال في السودان عديداً من السيناريوهات المتوقعة لإمكانية ما سيحدث في الفترة المقبلة، في ظل رؤية ضبابية للأمور، إذ تبدو كل المسارات ممكنة ولا ممكنة في الآن ذاته، إذ إننا من منظور واقعي أمام أزمة معقدة ومتشابكة من حيث التعقيدات الجيوبولتيكية ومناظير العلاقات الدولية في الإقليم، إضافة إلى إرث مثقل من تراكم الوقائع الجارحة والتاريخ المرتبك باتجاه بناء أنظمة للسلم الداخلي في البلاد.

باختصار نحن أمام كل شيء ولا شيء، لكن هذا لا يمنع استكشاف الاحتمالات أو السيناريوهات المحتملة التي يمكن أن تتكشف وراء الأفق من خلال ما يجري الآن على أرض الواقع، وبالرجوع إلى آخر التطورات السياسية التي قادت للراهن من احتدام القتال في المركز السوداني ممثلاً في الخرطوم، التي طالما اعتقد بأنها خارج ما يدور في الهوامش من عواصف ونيران ملتهبة على مدى عقود طويلة.

مبدئيا يمكن قسم الوضعية المتوقعة إلى قسمين، الاتجاه للتهدئة واللجوء إلى الوضع السلمي وعودة التفاوض من جديد للخروج من مجمل المأزق السوداني المترتب ما بعد نهاية نظام البشير، فيما يوصل الاتجاه الثاني إلى مزيد من التعقيد، إذ يقود إلى مزيد من التوتر والعنف والموت والدمار، في حرب قد تستمر لتكون أهلية وتعم البلاد.

في الاتجاه الأول، الطريق يقود إلى وقف إطلاق النار ومن ثم الشروع في مفاوضات التسوية التي بإمكانها أن تقود إلى بلورة حكم مدني، أي العودة إلى نهج الفترة الانتقالية والمفترض أن يتم فيها من الأساس، لولا جملة ما جرى من تعقيد ووقائع قادت إلى الاشتباكات الحالية، هنا سيطرح سيناريو العودة إلى الاتفاق الإطاري الذي كان متوقعاً أن يتم التوقيع عليه في مطلع أبريل (نيسان) الجاري، لولا أن تداعيات الخلاف حوله استبقت ذلك.

ثمة من يرى أن العودة للاتفاق الإطاري ممكنة، سواء عبر صورته الأخيرة أو ببعض التحوير والإضافات والحذف، هذا بغض النظر عن حجم التصعيد الذي وقع فعلياً بين قيادتي الجيش والدعم السريع في المعارك وفي الخطاب الكلامي، الذي يشير إلى أن العودة للوراء شبه مستحيلة، غير أن الحسابات السياسية لها قول آخر عندما يعلو صوت المصلحة على الأصوات الأخرى.

تبدو مسألة الرجوع للاتفاق السياسي الإطاري مرحب بها من قبل الأطراف الخارجية، وفريق الوساطة الذي يضم الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي ومجموعة دول الإيقاد، إضافة إلى الآلية الرباعية، وهي مجموعة وساطة غير رسمية تضم الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية والإمارات، من خلال التصريحات والبيانات الرسمية لهذه الأطراف فإنه لا طرف يرغب في أن يتصاعد لهيب الحرب السودانية.

إذا تم هذا السيناريو ولعب المجتمع الدولي دوره في تقريب وجهات النظر بين الطرفين المتنازعين بما ينهي العنف، فهذا يعني إمكان التوصل إلى اتفاق قد يقود لتشكيل حكومة مدنية انتقالية تقود الأهداف السابقة في بسط الطريق إلى الانتخابات والمسار الديمقراطي في البلاد، الذي طالما شكل حلم الشباب السوداني الذي قاد حركة التغيير والثورة مع التفاوض مجدداً سوف يبرز رأس الأفعى مرة ثانية، وقضية دمج الدعم السريع في مؤسسة الجيش، وهي مسألة إشكالية وتبدو الآن أكثر تعقيداً من أي وقت مضى.

بيد أن هذا الرجوع للاتفاق الإطاري كما هو أو تطويره والجلوس من جديد، لن يعني أن المسألة قد حسمت، ففي أي لحظة قد يحدث اختلاف يقود للوضعية الصفرية ما يشعل النيران مجدداً، فتاريخ الفترة الانتقالية لم يكن مستقراً في كل أحواله، إذ ظل متقلباً ومشوباً بالتشكيك والخيانات وتشتت المصلحة المركزية، التي يزعم كل طرف بما في ذلك القوى المدنية، أنه من يمسك بها.

داخل هذا السيناريو هناك تعقيد مرتبط بالنظام السابق الذي يعتقد بأنه لا يزال يعمل كأشباح تهدد انتقال البلاد إلى السلام والاستقرار، وهي رواية ضمن المشهد تؤثر فيه حتى لو بجزء طفيف في الراهن، وقد تستخدم في بعض الأحيان كخطاب سياسي أو فزاعة للتخويف، في حين أو الواقع الحالي يفيد مباشرة بأن حالة الحرب والقتال ألغت الماضي وأوصلت السودان لمرحلة جديدة يجب الانطلاق منها للتفكير الصحيح في الحلول المستقبلية.

في الاتجاه الثاني الذي يدور حول عدم رغبة أي طرف أو الطرفين، في التهدئة أو التفاوض، فإن هذا يعني استمرار الحرب، جراء ذلك سيعمل المجتمع الدولي على ممارسة أسلحة الضغوط الدبلوماسية والعقوبات الاقتصادية التي لن تكون مجدية وقد مورست في عهد البشير لسنوات طويلة، وهذا النوع من السلاح في ظل عالم منقسم الآن جراء تداعيات ما بعد الحرب الأوكرانية، سيعني أن الأطراف المتعاركة ستعمل على التوزع شرقاً وغرباً، مما سيحول السودان إلى أرض معركة بين أطراف خارجية بالوكالة، بما يشبه حروباً أخرى دارت في الإقليم، أو نسبياً ما يدور في أوكرانيا التي تجد الدعم الغربي في مقابل الهجوم الروسي، كما أن السيناريو المتعلق بالخارج والجانب الأممي قد يقود إلى ما أبعد من ذلك من الشروع في عمل عسكري داخل الأراضي السودانية لإنهاء الصراع وحدث ذلك أيضاً في دول المنطقة ورأينا النتائج كارثية.

في ظل هذا الاتجاه فالقتال بين الجيش والدعم السريع لن يهدأ، والمتضرر الأكبر هو الشعب السوداني، فإذا كانت الخرطوم تفرغ الآن من ساكنيها حيث تشكل الإطار الحضري والمركز الاقتصادي للبلاد، فإن هجرة مضادة تتم إلى المدن الأخرى والأرياف، التي وإن بدت الآن بعيدة من اللهيب في بعضها إلا أن ذلك لا يعني السلامة المستمرة، فالتهديد قائم في سيناريو الحرب الأهلية، التي سوف تستخدم أدواتها المتمثلة في النزاعات الإثنية والصراعات القبلية والمناطقية وهي جملة عوامل (للأسف) حاضرة في بنية التكوين السيسيولوجي والثقافي السوداني، سيعني ذلك أزمات إنسانية مستمرة وفراراً من البلاد، وتشير التقارير الأولية إلى مغادرة ما لا يقل عن ربع مليون لدول الجوار، أيضاً التهديد بالمجاعة وقبل ذلك الموت المجاني والانهيار التام لبنية الدولة السودانية، كما أن توسع نطاق القتال في الأراضي السودانية سيهدد دول الجوار السبع.

ما يشير إليه سيناريو الحرب، أنه قد لا يكون هناك من ظافر على المدى القريب، حتى أن انتصاراً للجيش لن يعني نهاية المعركة، إذ سيقود إلى الهيمنة على الخرطوم وهي مركز الصراع الحالي، في حين ستبقى الجيوب والأقاليم الأخرى مفتوحة لمعارك مستمرة وطويلة بين الطرفين المتعاركين، ما يشبه حروب الحركات المسلحة التي عرف بها تاريخ السودان في الجنوب ودارفور والنيل الأزرق وغيرها، لهذا فالحديث عن الإجهاد والإضعاف لطرف وتحقيق نصر كاسح يبدو غير واقعي الآن.

هناك من يردد بأن الوضع قد يقود لانقلاب عسكري، وهنا سيكون السؤال المباشر، من سينقلب على من؟ فالانقلاب حصل فعلياً على تركيبة الدولة وهي هشة من الأساس، وإذا ما كان من حديث عن مثل هذا التصور فقد يقود إلى سيناريو حكومات داخل البلد الكبير، ما يشبه الوضع اليمني مثلاً، أو التوزع الذي تم في ليبيا، بحيث كل طرف يدير منطقته التي سيطر عليها، أو إقليمه.

نحن أمام مشهد لا يبدو مرناً في ظل مركبات الصورة المعقدة كما رأينا، إذ يجب أن تؤخذ في الاعتبار العوامل المختلفة من مصادر قوة وضعف طرفي النزاع (القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع)، مستوى الدعم الممكن لقيام حكومة مدنية والقابلية المسبقة لذلك من فتح باب التفاوض في البداية، إضافة إلى مدى استعداد وجاهزية المجتمع الدولي للإسهام في الحل، وفي ظل ذلك يأتي عامل الوضع الاقتصادي في السودان والانقسامات الاجتماعية والسياسية التي تمت الإشارة إليها، بالتالي فإن مستقبل البلاد غامض وغير مؤكد، ويرجح ان تستمر الأزمة لبعض الوقت، في حين سيكون على السودانيين أن يجنحوا للعقلانية والنظر إلى المستقبل.

المصدر: اندبندنت عربية

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.