سمير العيطة *
عام 1944، ومع قرب انتهاء الحرب العالميّة الثانية، عُقِدَ في بريتون وودز في الولايات المتحدة الأمريكيّة مؤتمر أسّس لنظامٍ مالي عالمي ولمؤسستي صندوق النقد والبنك الدوليين. مصر والعراق وحدهما شاركتا فيه بين البلدان العربيّة، لكن سرعان ما انضمت سوريا ولبنان إلى الاتفاقية عام 1947. كان الهدف هو تفادي تداعيات الحرب العالميّة الأولى على الاقتصاد العالمي وتجنّب الأزمات المالية وكذلك المساعدة على إعادة إعمار وتنمية البلدان الخارجة من الحرب.
رفض الاتحاد السوفييتى الانضمام لتلك المنظومة العالميّة لأنّها بالتحديد جعلت الدولار الأمريكي بمثابة عملة الاحتياطات والمبادلات الدوليّة، حتّى لو كان هذا الدولار في البداية قابلاً للتحويل إلى الذهب بسعرٍ ثابت، وهو ما ألغته الولايات المتحدة عام 1971. اللافت أنّ روسيا لم تنضمّ إلى مؤسّسات بريتون وودز إلا بعد انهيار الاتحاد السوفييتى، وأنّ الصين أخذت مقعد تايوان بين المؤسّسين عام 1980، وأنّ السياسات المالية لألمانيا الغربيّة هي التي دفعت الولايات المتحدة للتخلي عن معيار الذهب بعد أن أغرَقت أمريكا الاقتصادات العالميّة بدولارات عجزها التجاري المزمِن.
بالمقابل، تعدّدت دوريّا الدعوات لإنشاء نظام مالي عالمي جديد، خاصّة منذ أزمة 2008 وأكثر منها اليوم مع تداعيات الحرب الأوكرانيّة والعقوبات على روسيا، وتحوّل كثيرٍ من الدول للتخلي عن الدولار كعملة مبادلات واحتياطات دولية. وليس واضحاً إن كانت مجموعة العشرين G20 مع ما يعتريها من الخلافات الضمنيّة قادرة على ضبط آثار التحوّلات النقديّة الجارية حاليّا وبتسارعٍ كبيرٍ كما يبدو.
* * *
يبقى أنّ هناك منظّمتين أساسيّتين من هذا الإرث التاريخي، هما صندوق النقد والبنك الدولي.
صندوق النقد الدولي يرعى افتراضياً سلامة سياسات المالية العامّة وإدارة النقد في كلٍّ من البلدان على حدة، خاصّةً من خلال زيارات تقييمه السنويّة (مشاورات البند الرابع). ولكن اللافت أنّ هذا التقييم الدوري لم يؤدِّ دوراً ملحوظاً في تجنّب الأزمات، ليس فقط في الدول الصغيرة بل أيضاً على صعيد الدول الكبرى والعالم. بالتالي، هناك كثير من الانتقادات حول دور صندوق النقد الدولي في مسار الأزمة الماليّة والنقديّة اللبنانيّة مثلاً، وكيف أنّه لم يحذّر من مغبّات آليّات مصرف لبنان (الهندسات النقديّة!) منذ مؤتمر باريس 2 في 2002، ثمّ خاصّةً منذ 2016، أي قبل الانهيار بثلاث سنوات وكثيراً ما يُعزى هذا إلى ضرورة التوافق مع الحكومة والمصرف المركزي على نصّ تقرير التقويم السنوي. ولكن إذا كان هذا السبب صحيحاً فما بالنا ببرامج «الإصلاح» المطلوبة؟ وما بالنا بالتدخّلات الخارجيّة سواء في تقارير تقييم الصندوق أو في برامجه الإصلاحيّة؟ كما من اللافت أنّ تقرير الصندوق عام 2022 عن الولايات المتحدة ذاتها تحدّث عن أنّ «الاستجابة السريعة في السياسات (وضخ السيولة) ممّا حافظ على الأداء السلس للأسواق الماليّة الأمريكيّة ومنع موجة من الإفلاسات كان يخشاها الكثيرون». وهذا قبل أشهرٍ من انهيار مصرف «سيليكون فالي SVB».
أضِف أنّ هيئة الرقابة في الصندوق كانت قد أصدرت تقريراً يشير لافتقاره إلى الأدوات للتعامل مع «الدول الهشّة» (أي ماليّاً ونقديّاً). فما بالنا إذا أضيفت إلى ذلك الهشاشة المؤسساتية التي تعتري حكومات البلدان التي تغرق في أزمات كبرى؟ أو الهشاشة التي تنتج عن الحروب الأهليّة وصعوبات إعادة الإعمار والنهوض الاقتصادي؟ سوريا مثلاً.
أمّا البنك الدولي فيولي اهتماما أكبر بالسياسات الاجتماعيّة، وخاصّةً محاربة الفقر ومسائل التنمية، ابتداءً من الخدمات الاجتماعية وانتهاءً بالمرافق العامّة. يعمل في هذا البنك أيضاً أعداد أكبر من الاقتصاديين وخبرات لا يستهان بها، إلا أنه هو أيضاً لم يحذّر من الأزمات الكبرى الاقتصادية والمالية أو تلك الاجتماعيّة، بل فاقمها لفترات طويلة حين ساد ما بات يسمّى «توافق واشنطن» بينه وبين الصندوق بأنّ الأولويّة هي لخفض الإنفاق الحكومي حتّى على التعليم والصحة.
وقد تغيّرت نصائح البنك ونتائج دراساته نوعاً ما منذ الانتقادات الشديدة التي وجّهت لـ«توافق واشنطن»، إلا أنه يبقى في النهاية… مصرفاً يعمل على إقراض الدول أو في أفضل الأحوال آلية دولية لتأطير مساعدات الدول الثرية لمكافحة الفقر ولتمويل البنى التحتية، وما يدخل في منافسةٍ أحياناً مع آليّات منظّمات الأمم المتحدة.
ومع أن موظفي الصندوق والبنك الدوليين يحملون جوازات سفر أمم متحدة، من السهل على أي متتبِّع ملاحظة الخلافات في التوجّهات بينهم وبين مؤسّسات الأمم المتحدة المعنيّة بالشؤون الاقتصادية والاجتماعية، وكذلك بين هذه المؤسسات ذاتها. وما يخلق مشهداً شديد التباين في عمل المنظمات العالمية تجاه البلدان التي تحتاج للمساعدة في النهوض من أزماتها. تباين قد يأخذ الحكومات القائمة إلى «رمي» قضايا الفقر و«اللاجئين» (المسماة «اجتماعية») على المؤسّسات الدوليّة والتهرّب من «إصلاح» آليّات الاقتصاد والمجتمع للنهوض بالبلاد، بحيث يضحى التفاوض مع هذه المؤسّسات تفاوضاً ضمنيّاً مع «المانحين الدوليين» (وبالتالي مع مصالح دولهم) وما قد يجلب بعض الأموال لتجنب انفجار اجتماعي في وجه هذه الحكومات المستمرّة بالتهرّب من «الإصلاح». وبحيث يضحى «الفقر» موضوعاً اجتماعياً واقتصاديّاً رئيساً وليس نتيجة لسياسات عامة ولضعف التشغيل ولغياب الحماية الاجتماعية ولعدم المساواة، أي لغياب دور «الدولة» في حماية المجتمع وفي تنشيط الاقتصاد.
يبقى أنّ تقارير البنك الدولي، كما تقارير للصندوق، تؤثّر على مشهد اقتصاد وماليّة بلدٍ في الإطار العالمي، كما أنّ تمويلاتهما (أو حتّى مصادقتهما الإيجابيّة) تُسهِّل الحصول على منح وقروض من الدول والأسواق العالميّة. لكنّها لا يُمكِن أن تحلّ مكان تواجد وتدابير «دولة» قادرة وعادلة في البلاد تضع همّ مواطناتها ومواطنيها (وسكانها بمن فيهم اللاجئون واللاجئات) في الأولويّة وليس حماية مصالح فئات معيّنة، ومصلحة السلطة القائمة بشكلٍ خاصّ.
* * *
السؤال الكبير هو حول كيفيّة تحوّل الإدارة في بلدٍ ما (أو إعادة بناء مثل هذه الإدارة) إلى «دولة» قادرة وعادلة؟ خاصّةً إذا كان هذا البلد قد وقع في أزمة كبرى أو عاش حرباً مدمّرة. فليس شرطاً أن يؤدّي أي اتفاق مع صندوق النقد حقّاً إلى سياسات ناجعة، بل على العكس لا بدّ للسياسات الناجعة أن تجد لها صدىً إيجابيّاً لدى الصندوق كما في الاقتصاد العالمي. كذلك يُمكِن للبنك الدولي عبر خبراته أن يساعِد مثل هذه السياسات الناجعة، لا أن يقوم مقامها في رمي «الفقر» و«التنمية» على مسؤوليّته ومسؤوليّة الأمم المتحدة.
والسؤال الآخر الكبير هو أن واقع «اللانظام» العالمي اليوم بحاجة إلى إعادة هيكلة مؤسّسات «بريتون وودز» كما مؤسّسات الأمم المتحدة المعنيّة بالاقتصاد والتنمية والتشغيل والغذاء و.. و.. وذلك بغية التوجّه نحو.. نظام أقلّ هشاشة.
* باحث اقتصادي سوري ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب
المصدر: الشروق