الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

حوار مع ’’فدى صبري جريس‘‘ | بيوغرافيا فلسطينية بين الغربة والاغتراب

سليمان أبو ارشيد *

خلال سنوات عمرها الـ22 التي كانت قد بلغتها لحظة هبوطها في مطار “بن غوريون” في كانون الأول/ ديسمبر 1994، ظلت فدى صبري جريس التي تركت عائلتها فسوطة قسرا عام 1970، تحلم بالعودة لفلسطين دون أن تعتقد للحظة أنها ستجد نفسها غريبة عندما تعود إلى وطنها.

شعور الغربة انتابها منذ لحظة سماعها كلمات “أهلا وسهلا بكم في تل أبيب” عبر سماعات الطائرة لحظة الهبوط ورؤيتها منظر الأعلام الإسرائيلية المرفوعة في كل مكان، وهي تصف ذلك بالقول “سرت في جسدي رجفة ونظرت حولي في محاولة للتعرف على المكان وتساءلت لدى سماعي لغة غريبة، أين اللغة العربية؟ أين كل الفلسطينيين؟”.

وعلى مدى الـ27 سنة التي أضيفت لعمرها بعد ذلك ظل شعور الغربة يطاردها في كل بقاع الوطن، في الجليل حيث ترى المستوطنات تحاصر قريتها الصغيرة وفي الضفة حيث ينتصب جنود الاحتلال على الحواجز العسكرية التي تقطع رام الله عن القدس ونابلس عن جنين وسائر مدن الضفة الغربية.

“غريب في وطني” تحول إلى عنوان كتاب صدر مؤخرا باللغة الإنجليزية، روت فيه فدى قصة عائلة فلسطينية هي عائلتها بين الغربة والاغتراب في الوطن وعلى حدوده، والد كان من أوائل الذين ناطحوا واقع الظلم ولاطم مخرزه وأم دفعت حياتها شهيدة على هذا الطريق وعودة بدلا أن تغلق الدائرة إعادتها إلى نقطة البداية.

وبهذا الصدد، حاور “عرب 48” ’’فدى جريس‘‘ حول الكتاب والغربة والاغتراب وقصة عائلة فلسطينية، تبدأ بالنكبة وتتواصل تحت الحكم العسكري لتمر بمرارة المنفى وآلامه ولا تنتهي بالعودة الفردية المنقوصة التي لا تطابق العودة المتخيلة والمأمولة.

“عرب 48”: أن تكون ضمن طلائع حركة التحرر وحلمها الكبير ثم تعود إلى وطن تقطعه حواجز الاحتلال وتمزقه المستوطنات ويطمس الواقع الاستعماري لغته ومعالمه الفلسطينية، لا بد أن تشعر أنك غريب في وطنك؟

جريس: نحن من الفلسطينيين القلائل جدا الذين استطاعوا تحقيق حق العودة، وكما تعرف فإننا من فسوطة في أعالي الجليل، الوالد صبري جريس، الشخصية المعروفة، كان عمره عشر سنوات عندما وقعت النكبة ورأى الناس الذين هجروا من القرى المحيطة، مثل سحماتا ودير القاسي وهم يمرون من قريتنا في طريقهم إلى لبنان، وعندما ذهب إلى تلك القرى ورآها فارغة ترك ذلك في نفسه أثرا عميقا وفهم أن هناك شيئا كبيرا يحدث، لم يدركه إلا لاحقا.

وبعد النكبة كانت الحياة داخل دولة إسرائيل بعد قيامها صعبة جدا لأن الفلسطينيين وضعوا تحت الحكم العسكري، الذي تحكم بتفاصيل حياتهم الصغيرة والكبيرة فكان الإنسان لا يستطيع التنقل من مكان إلى آخر لغرض العمل أو التعليم أو الزيارة إلا بتصريح من الحاكم العسكري وهو ما أثر ليس فقط على حرية الناس بل على سبل معيشتهم، خاصة بعد تدمير مراكزهم الاقتصادية المتمثلة بالمدن الفلسطينية ومصادرة أراضيهم.

تحت الحكم العسكري أكمل أبي تعليمه الثانوي في مدرسة التيراسنطة في الناصرة وانتقل بعدها لدراسة الحقوق في الجامعة العبرية بالقدس، وقد انضم في ذلك الوقت إلى حركة الأرض وأصبح من قادتها، وكما هو معلوم فإن حركة الأرض هي أول تجربة فلسطينية قامت في إسرائيل بعد النكبة وكانت تنادي باسترجاع حقوق الشعب الفلسطيني وتطبيق قرار التقسيم بما يعنيه ذلك من إقامة دولة فلسطينية في المناطق التي نص عليها وبضمنها الجليل والمثلث والنقب وعودة اللاجئين.

وقد جرى محاربة حركة الأرض من قبل السلطات الإسرائيلية التي أخرجتها في النهاية عن القانون عام 1964، ولكن بالرغم من ذلك جرب قادة الحركة دخول انتخابات الكنيست عام 1965 في محاولة للالتفاف على القرار والحصول على شرعية قانونية، إلا أن رد السلطات لم يتوقف عند شطب القائمة التابعة لها، بل قامت أيضا بنفي أربعة من قادتها البارزين هم صالح برانسي، حبيب قهوجي ومنصور كردوش ووالدي صبري جريس عن قراهم لمدة ثلاثة أشهر، إلى حين انتهاء الانتخابات.

“عرب 48”: والدك صبري جريس غادر البلاد قسرا بعد سنوات من إخراج الحركة عن القانون والتحق بمنظمة التحرير الفلسطينية ليبدأ فصلا نضاليا جديدا وتصبح بيروت التي ولدت فيها مهد طفولتك وشبابك؟

جريس: المضايقات الإسرائيلية ضد والدي تواصلت بعد إخراج حركة الأرض عن القانون، مما اضطره إلى مغادرة البلاد هو ووالدتي عام 1970 والانتقال إلى بيروت التي كانت في حينه عاصمة المقاومة الفلسطينية، حيث التحق هناك بمنظمة التحرير الفلسطينية وعمل في “مؤسسة الدراسات الفلسطينية” وأصبح لاحقا مديرا لـ”مركز الأبحاث الفلسطيني” ومستشارا للرئيس الراحل ياسر عرفات، للشؤون الإسرائيلية، كونه واحدا من مجموعة قليلة خرجت من إسرائيل وعايشت تجربة الحياة فيها وتعرف اللغة والثقافة والسياسة الإسرائيلية.

أنا وأخي ولدنا في بيروت وقضينا طفولتنا المبكرة فيها، وأحمل منها الكثير من الذكريات الجميلة والمؤلمة أيضا، فقد عشت تجربة الحرب الأهلية وفظاعتها، وتجربة الاجتياح الإسرائيلي القاسية ثم خروج المنظمة في أيلول/ سبتمبر 1982 ومذبحة صبرا وشاتيلا واقتحام مركز الأبحاث حيث يعمل أبي وأمي، في ذات الأيام وسرقة محتوياته بالكامل.

“عرب 48”: والدتك استشهدت في التفجير الذي استهدف مركز الأبحاث الفلسطيني؟

جريس: بعد خروج الفصائل الفلسطينية من بيروت جرى ارتكاب مذبحة صبرا وشاتيلا ونهب محتويات مركز الأبحاث، حيث عمل فريق من القوات الإسرائيلية التي كانت في قلب بيروت الغربية لمدة أربعة أو خمسة أيام على تحميل محتويات المركز من كتب وأرشيف على شاحنات ونقلها إلى داخل إسرائيل.

لكن بالرغم من ذلك استمر المركز بالعمل وسط حالة تحريض وتوتر، لأن القوات اللبنانية كانت تريد إنهاء الوجود الفلسطيني في لبنان بالكامل، وفي 5 شباط/ فبراير 1983 تحديدا، أي بعد خمسة أشهر من خروج المنظمة تم تفجير سيارة مفخخة أمام المركز في الساعة الثانية بعد الظهر، أي ساعة خروج الموظفين من عملهم، ما أدى إلى استشهاد 18 شخصا بينهم عدد من المارة وعدد من الموظفين ومن ضمنهم والدتي.

كان ذلك الإنذار الأخير بعدها بثلاثة أشهر اضطررنا أنا ووالدي وأخي إلى الرحيل عن لبنان واللجوء إلى قبرص، حيث سكننا هناك مدة 12 عاما حتى توقيع اتفاقيات أوسلو، وقد أكملت الدراسة هناك وفي بريطانيا لاحقا.

“عرب 48”: من قبرص عدتم إلى فلسطين، وتحديدا إلى مسقط الرأس فسوطة، كيف تيسر ذلك؟

جريس: تضمنت اتفاقيات أوسلو بندا صغيرا يسمح بالعودة للناس الذين كانوا يحملون الهوية الإسرائيلية قبل أن ينضموا لمنظمة التحرير الفلسطينية، قام والدي باستغلاله قانونيا من أجل العودة إلى فسوطة بعد 24 عاما قضاها في المنفى، وهي عودة تسنت لعدد قليل جدا من الفلسطينيين الذين استجابوا لشروط هذا البند فقط.

وهكذا وجدت نفسي أنا الشابة ابنة الـ22 عاما التي تربيت في المنفى وعشت في كنف حركة التحرر الوطني الفلسطينية ممثلة بمنظمة التحرير، وعمل والدي في مركز الأبحاث الفلسطيني واستشهدت والدتي بتفجير إسرائيلي، أعود بين ليلة وضحاها إلى فسوطة وأحمل هوية إسرائيلية.

أصبح مطلوبا مني أن أتعلم اللغة العبرية والعمل في المؤسسات الإسرائيلية، لأن موضوع دراستي – الكمبيوتر تقتضيني الاندماج في سوق العمل الإسرائيلي، وهكذا بدأت رحلتي الشاقة في محاولة الاندماج في هذه البلاد، إنها البلاد التي طالما حلمت بالعودة إليها ووجدت بعد تحقق هذا الحلم أن البلاد ليست هي البلاد والناس ليسوا هم الناس وربما العودة ليست هي العودة التي حلمت بها أيضا.

“عرب 48”: لهذا السبب لم تستطيعين الاندماج في سوق العمل والحياة وغادرتي البلاد مرة أخرى؟

جريس: اليوم أستطيع أن أقول وبعد مرور 27 سنة إن كل المحطات التي عشت فيها، حيث كنت قد خرجت لمدة من الزمن إلى بريطانيا لأعود إلى البلاد ثم أخرج إلى كندا لفترة زمنية أخرى، في كل تلك الأماكن لم أجد بلدا مشوها بقدر ما هي عليه الحياة في إسرائيل، وأقول ذلك ليس من قبيل الشعارات بل من تجربة ذاتية ملموسة واحتكاك مباشر بهذا المجتمع مكنني من فهمه واكتشاف الأسس العنصرية العميقة الراسخة فيه والنظرة الفوقية التي يتحلى بها تجاه الآخر غير اليهودي، خاصة إذا كان فلسطينيا أو عربيا.

حاولت مدة ثماني سنوات ولم أستطع تحمل المزيد فخرجت (هاجرت) إلى كندا وعدت عام 2009 إلى رام الله حيث استطعت أن أجد عملا واستقر فيها.

“عرب 48”: فضلت العيش تحت الاحتلال وبين الحواجز العسكرية على “ديمقراطية إسرائيل” التي يتمتع بها فلسطينيو الداخل؟

جريس: أنا عشت مختلف نواحي التجربة الفلسطينية، غربة اللجوء في بيروت واغتراب الوطن داخل إسرائيل والاحتلال والحواجز العسكرية في الضفة الغربية، وشاركت تلك التجربة في كتابي “غريب في وطني” وهو الشعور الذي أحسست به حيثما حللت، إن كان في بلدتي فسوطة داخل الخط الأخضر وإن كان في رام الله بالضفة الغربية، القاسم المشترك هو الشعور بعدم الاستقرار وغياب الأمان وأنك مستهدف كفلسطيني.

“عرب 48”: لا يمكن الحديث عن سيرة عائلة صبري جريس دون الحديث عن حركة الأرض التي ارتبط اسمه بها الكتاب هو سيرة ذاتية شخصية وسيرة عائلة فلسطينية عاشت الوضعيات المختلفة التي خلقتها النكبة والاحتلال؟

جريس: لقد أفدت في إنجاز الكتاب من تجربة والدي صبري جريس الذي غادر الوطن في السبعينيات وانضم لمنظمة التحرير الفلسطينية وعاد أيضا إلى فسوطة، وقد أجريت لغرض إنجاز الكتاب مقابلات مطولة مع والدي صبري جريس ومع عمي جريس جريس الذي غادر فلسطين قسرا هو الآخر وانضم لمنظمة التحرير ثم تسنى له العودة.

وبدون شك أن حركة الأرض هي محطة بداية تبلور الوعي الوطني الذي ترجم بخروج مجموعات من الشباب الفلسطيني من الحركة الشيوعية التي كانت الملجأ الوحيد الباقي بعد نكبة 48، وإنشاء الجبهة الشعبية ومن ثم حركة الأرض، وقد تزامن ذلك تاريخياً مع نهوض الناصرية وتأثر هؤلاء الشباب بالفكر الناصري.

هي بدايات اختمار الوعي الوطني لدى من بقوا في الوطن ترافق مع بدايات تململ مماثل وخروج من تحت ركام النكبة في المنفى أيضا، وأسفرت عن تشكل تنظيمات فلسطينية متعددة تبلورت في فصائل انتظمت لاحقا تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية التي أعادت تشكيل الهوية والكينونة الفلسطينية.

……………….

’’فدى صبري جريس‘‘: كاتبة فلسطينية من قرية فسوطة في الجليل. ولدت في لبنان وعاشت في قبرص قبل أن تعود إلى قريتها مع عائلتها في 1995 بعد اتفاق أوسلو. عاشت في الجليل وبريطانيا وكندا ورام الله. تكتب بالعربية والإنجليزية، صدرت لها ثلاث مجموعات قصصية هي “حياتنا الصغيرة”، “الخواجا”، و”القفص”، عن الحياة في فلسطين. بالإنجليزية، شاركت في كتاب (Kingdom of Olives and Ash) في 2017 مع الكاتب “ماريو فارغاس يوسا” وكتّاب عالميين، وفي عام 2022 صدر لها كتاب (Stranger in My Own Land)، عن تجربتها في العودة إلى فلسطين من الشتات ورؤيتها حول حياة الفلسطينيين في إسرائيل والضفة الغربية.

ــــــــــــــــــ

* كاتب فلسطيني

المصدر: عرب 48

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.