الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

من يطفئ الحريق السوداني؟

محمود الريماوي

في واحدةٍ من خرجاته المميزة، قال رئيس مجلس السيادة السوداني، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، تعليقاً على زيارة وفد إسرائيلي إلى الخرطوم، إن لا طابع سياسياً لها، وإنها مجرد زيارة استخبارية أمنية. وبهذا “طمأن” البرهان معارضي التطبيع مع دولة الاحتلال بأن الجاري حينذاك في العام 2021 مجرّد علاقات استخباراتية وأمنية، ويجب عدم تضخيم المسألة. يستذكر المرء ذلك في ظروف نشوب الصراع الدموي على السلطة في السودان، والذي تبرز فيه وساطاتٌ بينها وساطة إسرائيلية بين الطرفين المتنازعين، قيادة الجيش ممثلة بكبار العسكريين في مجلس السيادة وقوات التدخل السريع بزعامة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، وهي قوات رديفة للمؤسّسة العسكرية، وقد سعى زعيمها حميدتي ويده اليمنى شقيقه عبد الرحيم، إلى منحها كيانية مستقلة بجعلها قوة أمر واقع مسلحة، على غرار الحشد الشعبي في العراق، وبحيث تتحوّل إلى قوات موازية للمؤسسة العسكرية تأتمر بأوامر زعيمها بعيدا عن أي قانون. ولهذا طالب حميدتي في مفاوضاتٍ حول دمج التدخل السريع في الجيش، بمنحه مهلة إجراء ترتيباتٍ لتحقيق هذا الغرض لا تتجاوز 14 عاماً.

ومنذ الإطاحة الشعبية بحكم الفريق عمر البشير عام 2019، سارع الرجلان إلى تنصيب كل منهما في موقع القيادة. ولهذا نشطا بصورة ثنائية بإجراء زياراتٍ إلى الخارج، وقبل أن يكتسب أيٌّ منهما الشرعية لتمثيل بلاده في الخارج، ما كشف مبكّرا عن طموحاتهما السلطوية. وبغير استخلاص للدرس الذي عبرت عنه الانتفاضة الشعبية الرافضة لمسلسل الانقلابات والحكم العسكري. وقد عملا معا على التفلّت من الاتفاقيات مع المكوّن المدني، ولم يتوان كلاهما عن قمع الاحتجاجات الشعبية التي خرجت مندّدة باستئثار المكوّن العسكري بالحكم، ما أدّى إلى سقوط مئات الضحايا والجرحى.. وقد عمد الجانبان بعدئذ إلى تفريغ الاتفاق على إنشاء لجنة التحقيق من محتواه، ولم يتم الإعلان عن نتائج هذا التحقيق وتحديد القيادات التي أمرت بإطلاق النيران على المتظاهرين.

وفي 21 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، ذهب الجانبان معا خطوة أبعد من ذلك بإقالة الحكومة المدنية، برئاسة عبد الله حمدوك، وذلك لتمسّك هذه الحكومة بالاتفاقيات التي تقضي بالانتقال إلى إجراء انتخابات عامة ينبثق عنها حكم مدني. وهو ما يدلل على أن الفروق بين هاتين الزعامتين ضئيلة على مستوى التوجهات السياسية والنظرة إلى حكم البلاد، مع وجود فروق شخصية، كون البرهان عسكريا محترفا، بينما تقتصر خبرة حميدتي في العمل العسكري على نشاطه في الجنجويد، المليشيات التي كانت متفرّغة للتنكيل بالمدنيين، بمن في ذلك النساء، والاستيلاء على ممتلكاتهم، وتأجيج النعرات القبلية والمناطقية. ومع ذلك، حظي الرجل يوم 13 إبريل/ نيسان 2019 بترقية إلى رتبة فريق أول، وذلك بعد أشهر من استئثار المكون العسكري بالسيطرة على الدولة.

وإلى ما تقدّم، كان الرجلان على قلب رجلٍ واحد بما يتعلق بإقامة علاقة غير شرعية مع الدولة العبرية، وإن كان للبرهان “فضل” السبق في هذا المجال، إذ لم يتوان عن اللقاء برئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو في أوغندا برعاية من رئيسها يوري موسيفيني، في الثاني من فبراير/ شباط 2020 من دون أن يحمل أي تفويض بذلك، وبخاصة من الحكومة القائمة، وقد أعلن نتنياهو حينها أنه جرى الاتفاق على إقامة علاقات وإرساء تعاون متعدّد المستويات بين البلدين. ولم يلبث البرهان أن اعترف بإجرائه هذا اللقاء، حيث نشطت الاتصالات والزيارات بين الطرفين برعاية أميركية، ولم تمض تسعة شهور حتى كان الجانبان يوقّعان يوم 23 أكتوبر/ تشرين الأول من العام نفسه ما عُرف بالاتفاق السوداني الإسرائيلي، والذي أقرّ بسعي الطرفين إلى إقامة علاقات دبلوماسية كاملة بينهما. وقد كشف “المؤشر العربي” للعام 2022، والذي أنجزه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، أن 13% من السودانيين أيّدوا إقامة علاقات دبلوماسية بين السودان وإسرائيل فيما عارض هذه الخطوة 79%. فيما لم تؤيد الاتفاق أيٌّ من الأحزاب والهيئات الاجتماعية الوازنة، وهو اتفاقٌ لم يحظ بأي تصديق من هيئة شرعية منتخبة.

واقع الحال أن البرهان ظل يسعى إلى فرض أمر واقع وتثبيته، قبل أن يتمتع السودانيون بحكم مدني ديمقراطي، يكفل المشاركة السياسية الواسعة في تقرير خيارات هذا البلد، وبحيث يصعب لاحقا التراجع عن هذه القرارات، والحجّة التي استخدمها البرهان هي رفع السودان عن قائمة الدول والأطراف المصنفة بالإرهاب أميركياً. وقد كان في وسع الرجل أن يختار طريقا آخر لتحقيق هذا الهدف، وذلك بتسهيل إقامة حكم مدني وبإعادة الجيش وقياداته إلى الثكنات والامتناع عن نسج علاقاتٍ مع أطراف تصنّف إرهابية. وبطبيعة الحال، حظي التوجّه إلى إقامة علاقات مع تل أبيب بموافقة زعيم التدخل السريع، فالطرفان يريان في الدولة العبرية التي نشأت على الإرهاب، وتوسّعت بممارسته على أوسع نطاق، أفضل عون لهما في تثبيت ركائز حكمهما، ومنحمهما ما يكفي من أسلحةٍ ومعدّات وأدوات وخدمات استخبارية للإطباق على الحياة السياسية العامة في السودان. ومن مساخر هذا الزمان، ومن تفاهات السياسة الأميركية، أن تدعو واشنطن الدولة المدمنة على إشعال الحروب والتنكيل بالمدنيين، إسرائيل، إلى إطفاء الحريق السوداني.

وإذ تسعى حاليا أطراف وهيئات عديدة، أفريقية وعربية ودولية، إلى وقف الصراع الدموي الدائر، فقد برزت بين هذه المساعي تحرّكات واتصالات إسرائيلية نحو الرجلين. ووفق ما ورد في موقع أكسيوس الأميركي، تولّت الخارجية الإسرائيلية الاتصال بالبرهان، فيما عمد الموساد للاتصال بحميدتي. وعليه، لن يكون مستبعداً أن يحمل أي اتفاق لاحق وأي نتيجة يسفر عنها الصراع بصماتٍ إسرائيلية، وبما يضمن مصالح دولة الاحتلال، وبما يكفل تكريس النفوذ الإسرائيلي مستقبلا في أحد أكبر الدول العربية الأفريقية.

ومع ما يحمله هذا الصراع من نتائج كارثية، وما يتّسم به من وقائع مشينة، مثل إخراج مستشفياتٍ عديدة من الخدمة (أفاد المتصارعون كما يبدو من خبرة الحرب على المدنيين في سورية باستهداف المراكز الصحّية والخدمية)، إلا أنه كشف مجدّدا أن الحكم العسكري لا يحمل إلا الوبال والويلات على مختلف مظاهر الحياة والعمران، وأن العسكر قد طعنوا هذه المرّة بأنفسهم بأي شرعية مدعاة لهم، مع ما لذلك من انعكاساتٍ مستقبليةٍ على مصير النظام السوداني قيد التشكّل العسير، وخياراته الداخلية والخارجية.

المصدر : العربي الجديد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.