الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

مارشال هودجسون و“مغامرة الإسلام”: الحضارة والضمير قبل التاريخ والوقائع

صقر أبو فخر *

في سنة 1968 توفي الباحث والمؤرخ الأميركي مارشال هودجسون الذي كان زميلًا في جامعة شيكاغو لأستاذنا الراحل هشام شرابي. غير أن كتابه “مغامرة الإسلام” لم يُنشر إلا في سنة 1974. ومنذ سبع وأربعين سنة والباحثون العرب في حقلي الحضارة والتاريخ ينتظرون صدوره بالعربية، إلى أن غامرت الشبكة العربية للأبحاث والنشر بإصداره في ثلاثة أجزاء في سنة 2021 بعنوان “مغامرة الإسلام: الضمير والتاريخ في حضارة عالمية” (ترجمة أسامة غاوجي). وقد وضع المترجم مقدمة مطوّلة ومهمة للكتاب الذي كنا قرأنا فصولًا منه في مجلة “الاجتهاد” التي أفردت ملفًا له عنوانه “تاريخ الإسلام وتاريخ العالم: الوعي والتاريخ في حضارة عالمية” (العددان 26 و27، شتاء وربيع 1995). وقد قرّظه هشام شرابي في كتابه “الجمر والرماد” (بيروت: دار نلسون، 1998) واصفًا إياه بأنه “أهم ما كُتب في التاريخ الإسلامي في القرن العشرين” (ص175). وقال عنه شارل عيساوي إنه “أنجح المحاولات المبذولة لدراسة الحضارة الإسلامية في سياقها العالمي” (مجلة “الاجتهاد”، أوروبا والمشرق وتحولات القوة، العددان 26 و 27، شتاء وربيع 1995، ص 117).

صار هذا الكتاب اليوم إحدى الدراسات التاريخية والاستشراقية الكلاسيكية المهمة، لكنه، خلافًا للدراسات الكلاسيكية الأخرى، اهتم بالحضارة لا بالتاريخ فحسب، وبالوعي لا بالوقائع وحدها. وأبعد من ذلك، فقد كان المستشرقون يطابقون تاريخ العرب وتاريخ الإسلام مطابقة لصيقة. لكن هودجسون، في هذا الكتاب، انهمك في قراءة تاريخ الإسلام في موازاة تاريخ العرب، الأمر الذي جعله يرى مركز ثقل الإسلام متمركزًا في النطاق الإيراني وفي أوراسيا، لا في القاهرة أو دمشق أو بغداد، خصوصًا أن المسلمين العرب لا يشكلون غير عشرين في المئة من المسلمين في العالم. ودافع هودجسون عن نظريته القائلة إن العنصر الايراني، دينًا وحضارة، كان مكوّنًا رئيسًا في الإسلام، ولا سيما في تبنّي العرب النظام السياسي الساساني بعد تعديله ليتوافق مع المثل العربية والمثل الإسلامية الجديدة (ص26). ويرى هودجسون أن قراءة النهضة الأوروبية، اقتصاديًا وعلميًا وثقافيًا، لا يمكن أن تستقيم من دون قراءة الإسلام في عشرة قرون، أي منذ بداياته في القرن السابع ميلادي حتى القرن السابع عشر. والواضح أن هودجسون ينتمي إلى مدرسة التاريخ الشامل التي ظهرت في جامعة شيكاغو منذ 1955، وهي المدرسة التي نظرت إلى تاريخ العالم نظرة شاملة بحيث أمكنها أن توضح ترابطه وتكامله الحضاري، فضلًا عن التأثير المتبادل بين حضاراته وشعوبه وثقافاته.

في ميزان الاستشراق:

إن نزاهة هودجسون العلمية قادته، بلا شك، إلى نقد انحياز المستشرقين إلى أطروحاتهم التقليدية، ولم يوفر حتى الاستشراق نفسه، كميدان علمي، فنقدَه من داخله، وانتقد المناهج التاريخية الغربية استطرادًا. والمعروف، من وجهة نظر الاستشراق الكلاسيكي، أن التاريخ الإسلامي يتركز في المنطقة الممتدة بين الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط وبين دمشق وبغداد ومكة والقاهرة، فيما يرى هودجسون أن قلب العالم الإسلامي في الطور الذي نشأ بعد سقوط بغداد في أيدي هولاكو في سنة 1258 ميلادية، يتركز في المنطقة الإيرانية – المغولية، وأن مراكز الحضارة الإسلامية لا تقتصر على القاهرة ودمشق وبغداد وجوارها فحسب، بل تمتد إلى أبعد من ذلك بكثير؛ من نهر النيل إلى نهر جيحون، أي أنها تشمل وادي النيل والهلال الخصيب والعراق والهضبة الايرانية والهند وسمرقند وبخارى. ويُعد هودجسون من المؤرخين التنقيحيين، إذ أقام قطيعة غير حادة مع تراث الاستشراق الكلاسيكي والمركزية الغربية. فالاستشراق الكلاسيكي، ومعه مدارس التأريخ الكلاسيكية، ظل يرى أن هناك خطًا واحدًا متواصلًا من الإغريق إلى الرومان، فعصر النهضة الأوروبي، ثم عصر التنوير، وصولًا إلى حقبة الحداثة. أما تواريخ باقي الشعوب، بما في ذلك الشعوب المجاورة، كالعرب والأتراك والفرس على سبيل المثال، فليست غير هوامش في متن التاريخ العالمي، أي التاريخ الأوروبي.

من أبرز نُقاد هذه المدرسة أنور عبد الملك في كتابه “الاستشراق في أزمة”  والذي حذا حذوه إدوارد سعيد في كتابه “الاستشراق“. لكن إدوارد سعيد تعمّد، لسبب غير مفهوم، تجاهل مستشرقين مُنصفين أمثال هودجسون وكلود كاهن وأندريه ريمون (مغامرة الإسلام، ص24). والفكرة الأساس في كتاب “الاستشراق” هي نقد تصورات المستشرقين عن الشرق بعدما تحول الاستشراق نفسه، في جانب منه، إلى جهاز أيديولوجي للإمبريالية بحسب سعيد. وبهذا المعنى فقد كان الاستشراق ذا وجهين: فهو من جهة مؤسسة، وهو من جهة أخرى، ميدان من ميادين الدراسات الأكاديمية. ومع أن إدوارد سعيد هو أحد نقاد الحضارة الغربية المرموقين، وأحد نُقاد التوحش الرأسمالي، إلا أنه كان يميل، على ما يبدو، إلى نظرية الطبائع الثابتة للشعوب على منوال مقوله روديارد كيبلنغ “الشرق شرق والغرب غرب”، أي أن لكل من الشرق والغرب طبيعة جوهرانية ثابتة ذات خصائص دائمة ومختلفة عن غيرها (راجع في هذا السياق: صادق جلال العظم، “الاستشراق والاستشراق معكوسًا“، في سلمان رشدي وحقيقة الأدب، بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، 1992). ولا ريب في أن الإسلاميين استفادوا، أيما استفادة، من كتاب “الاستشراق” الذي عزّز حججهم المناوئة للماركسيين العلمانيين العرب الذين كانوا يميزون بين غرب الفتوح العلمية والثقافية التي صنعت العالم المعاصر، وغرب الكولونيالية والهيمنة الامبريالية. وقد تبنت معظم التيارات الإسلامية في العالم العربي مقولات المستشرقين الغربيين من حيث تأكيدها الطبيعة الثابتة للغرب، وبالتحديد الاستعمار والسيطرة الاحتلالية والهيمنة، والطبيعة الثابتة للإسلام. والخلاف الوحيد، كما يلوح لي، بين الإسلاميين ومقولات المستشرقين يتمثل في مخالفة الإسلاميين لآراء المستشرقين في أن الغرب متفوق حضاريًا وأخلاقيًا على الشرق. والإسلاميون لم يتطرقوا، في نصوصهم، إلى أطروحة “الإمبريالية”، واكتفوا بعبارة “الغرب” فحسب، ثم أدرجوا في سياق “الغرب” هذا روسيا واليابان وكوبا؛ فصارت حتى الشيوعية لدى الإسلاميين غربًا، وكم تساءل كثيرون في هذا المجال: هل الصين وكمبوديا وفيتنام ولاوس وكوريا غرب كذلك؟ بيد أن السؤال الحيوي في هذا المجال هو التالي: بعد أربع وأربعين سنة على صدور كتاب “الاستشراق” بالإنكليزية، وأربعين سنة على صدوره بالعربية، هل صار لدى الغرب فهمٌ أفضل لقضايا العالم العربي؟

هل هناك حضارة إسلامية حقًا؟

هذا الكتاب يغاير في منهجه وفي رؤيته المؤلفات الكلاسيكية الغربية عن تاريخ الحضارات بما في ذلك الحضارة الإسلامية، مثل أوزوالد شبنغلر “تدهور الحضارة الغربية” (1918)، وكتاب وليم ماكنيل “صعود الغرب” (1963). ويدرس هودجسون في كتابه هذا الإسلام في جغرافياته المتعددة، مع التركيز على فارس وبلاد المغول والهند وتركيا. ويتعقب، علاوة على ذلك، تاريخ الإسلام في مراحله المتراكبة، وفي أقطاره الكبرى. ويتسم الكتاب بالنظرة المنصفة للحضارة الإسلامية (مقدمة المترجم، ص 42). ويرسم الكتاب في مجمله صورة ناطقة للحضارة الإسلامية في تحولاتها وتشابك عناصرها واختلاف مناطقها وترابط مصالح شعوبها أو تنافرها. لكن، هل هناك حضارة إسلامية حقًا؟ وهل يجوز أن ننسب الحضارة إلى الدين الغالب في أرجائها؟ إذا كان الجواب بالإيجاب، فيمكن، في هذه الحال أن نزعم وجود حضارة يهودية وحضارة مسيحية وحضارة بوذية وحضارة هندوسية وحضارة زرادشتية وحضارة تاوية وحضارة كونفوشيوسية… وهكذا. وبهذا المعنى ثمة تحفظ علمي أكيد على مصطلح “الحضارة الإسلامية”. هناك، بحسب ما أعتقد، فضاء إسلامي، أو رقعة جغرافية ممتدة، في داخلها حضارات متعددة: مغولية وفارسية وعربية وتركية… إلخ. وبين هذه الحضارات ثمة اشتراك وافتراق في الآن نفسه. وضمن الفضاء الإسلامي هناك تمايز حضاري لا يمكن إخفاؤه أو إنكاره، خصوصًا في المجال اللغوي والثقافي: بين العرب والفرس، وبين الفرس والترك، وبين العرب والمغول.

الحضارة الإسلامية الممتدة من المغرب إلى الصين، على الرغم من التحفظ عن المصطلح، هي لوحة ملوّنة جراء تعدد الألوان الحضارية للشعوب وتغايرها في الوقت نفسه بل تنافرها في أحيان كثيرة. فتاريخ الفلاحين في صعيد مصر يختلف اختلافًا جذريًا عن تاريخ فلاحي البنجاب بحيث لا يمكن إدراج هؤلاء الفلاحين وتاريخهم في حضارة واحدة (ص34). وكان الإسلام، كدين في البداية وكجماعات ذات مصالح في ما بعد، يتلون بألوان الشعوب التي تغلغل بينها. ولا شك في أن تلك الحضارة لم يكن بعضها معزولًا عن بعض، بل إن من البدهي أن تتفاعل الحضارات المتجاورة وتتداخل وتتعاقب في صعودها وانحدارها من خلال التبادل التجاري والثقافي والهجرات البشرية. وكتاب هودجسون هو، في بعض جوانبه، فحص معمق لظواهر التواصل بين حضارات العالم، وكان أفضل مثال لذلك “الحضارة الإسلامية” التي امتدت من الصين إلى سورية، ومن الأرخبيل الماليزي إلى جنوب الصحراء الأفريقية وشمالها.

يعالج الكتاب، على امتداد 2313 صفحة، العالمَ قبل الإسلام، والتحدي الكبير الذي تصدى له النبي محمد، ثم تأسيس الدولة الإسلامية المبكرة وظهور المعارضة ثم نشوء الحكم المطلق. وفي هذا المجرى ينعطف ليدرس الفلسفة وعلم الكلام والرؤية الإسلامية للدين والحضارة، وصولًا إلى أفول الحكم المطلق، وهذا ما احتواه الجزء الأول (814 صفحة). أما في الجزء الثاني (844 صفحة) فيعرض للمصالح التجارية والقوة العسكرية والتصوف والإسلام السُني الأممي وتفتّح الثقافة الفارسية، ثم يتوفر على البحث في العصر المغولي وتأثير المغول في السياسة والمجتمع والفنون البصرية وتوسّع الإسلام. وفي الجزء الثالث (655 صفحة) يُكّب على دراسة الدولة الصفوية وانتصار الشيعة، علاوة على الامبراطورية التيمورية في الهند وتعايش المسلمين والهندوس، وصعود الامبراطورية العثمانية التي مثّلت تحالف الشريعة والعسكر بحسب المؤلف. وإلى ذلك عالج هودجسون في هذا الجزء التحديث في تركيا، وإحياء التراث في مصر وبلاد العرب، وعلائق إيران بالإمبراطورية الروسية، فضلًا عن تحولات القرن العشرين.

نُقصان وأغلاط وملاحظات:

ليست عناوين الموضوعات التي عرضناها أعلاه هي جميع ما في الكتاب الذي يحتوي، علاوة على ذلك، آراءً وأفكارًا ومعلومات يضيق المجال أمام الإشارة إليها هنا بالتفصيل. وفي أي حال، من المحال أن نعثر على كتاب شامل وكامل عن الإسلام يغطي 1500 سنة من الزمن؛ هذا شأن الموسوعات العلمية الكبرى. ومن المعروف أن صاحب هذا الكتاب تُوفي قبل أن يُنهي فصوله، وقبل أن يراجع صفحاته بصورة نهائية بحيث يتمكن من أن يعيد صوغ ما يراه ضروريًا ليكتسب الكتاب ميزة الإحاطة والشمول. ومع ذلك لا بد من الالتفات إلى النقصان الذي، وإن لم يكن مُخلًا في المبنى والمعنى، يترك ثقوبًا في نسيج الثوب العلمي، وفجوات في الجدار البحثي المتين.

لم نعثر على مبحث، ولو مختصر، عن تجارة العبيد وتجارة الحج والحج نفسه، ولا يوجد أي رصد لخط التجارة التاريخي الممتد من البصرة إلى عُمان فالهند عبر محطة البحرين أو دلمون القديمة، وكذلك للشعوب المستقرة عند تخوم ذلك الخط. ولم نعثر أيضًا على حروب الفرنجة وتحولات المسيحية والمسيحيين، خصوصًا العرب، في معمعان تلك الحروب وقبلها وبعدها. ولم نعثر على الجماعات الجديدة المنشقة في إيران، مع أن الكتاب يزخر بالحديث عن حركات الإصلاح كالوهابية، وعن التشيع والتصوف. وقد تناول الكتاب الأدب والثقافة الأدبية الفارسية، والفنون البصرية كالعمارة، ولا سيما في الهند، ولكنه أغفل الموسيقى والغناء والرقص، ولم يذكر تلك الفنون إلا بأقل من مئة كلمة قصرها على الموسيقى في الهند. وركّز الكتاب على تمدد الإسلام نحو الشرق، وتوسّعه إلى ما بعد بلاد السند والهند، لكنه قلما تطرق إلى توسّع الإسلام نحو أوروبا، في ما عدا الأندلس، وتمدد الدولة العثمانية نحو وسط أوروبا. ففي فصل “توسع الإسلام” (المجلد الثاني) أغفل الكتاب غزوات العرب في أوروبا، وأثر ذلك في التجارة والعمارة والثقافة؛ فالعرب سيطروا، كما هو معلوم، على مقاطعة بروفانس، وبلغوا جبال الألب، واحتلوا مالطا وسردينيا وصقلية التي تحولت مركزًا مهمًا لترجمة الفلسفة إلى بعض اللغات الأوروبية كالألمانية والفرنسية. وهذه المهمة قام بها يهود الأندلس الذين فرّوا من شبه الجزيرة الإيبيرية، وأقام كثير منهم في صقلية وفي المناطق القريبة من جبال البيرينيه، وترجموا فلسفة ابن رشد إلى الألمانية. وكان ملك صقلية (الإمبراطور في ما بعد) فريدريك الثاني قد طلب من الفقيه والمتصوف الأندلسي المشهور ابن سبعين، وهو آخر فلاسفة الأندلس، الإجابة عن بضعة أسئلة عن الوجود الأزلي للعالم وخلود النفس وطبيعتها، فكتب له كتابًا عنوانه “الأجوبة عن الأسئلة الصقلية” قبل أن ينتحر في مكة بتمزيق شرايين يده. ومن علائم النقصان في الكتاب أنه جاء بلا فهارس لأسماء الأَعلام والموضوعات والأماكن والجماعات، وفهرسة الكتاب تقع على عاتق دار النشر الذي أصدرته.

ثمة عناء يكابده المترجمون هو مشكلة ترجمة المصطلحات. وفي هذا الميدان تحفظ المترجم على كلمة “مغامرة” venture الواردة في العنوان الرئيس لأنها- بحسب المترجم-لا تعني المغامرة بالمعنى الصريح، بل هي أقرب إلى معنى المشروع الذي ينطوي على قدر من المجازفة والمخاطرة (مقدمة المترجم، ص48). وعلى الرغم من ذلك استعمل المترجم كلمة “مغامرة” انسياقًا مع هشام شرابي وآخرين ممن استخدموا تلك الكلمة، والتي اعتبرها المترجم، مع ذلك، الأقرب إلى الصواب، وهذا نوع من التناقض الذي يمكن احتماله مع أنه رفض ما فعلته “الاجتهاد” (العددان 26 و 27) حين ترجمت العنوان الفرعي للكتاب على النحو التالي: “الوعي والتاريخ في حضارة عالمية”، بينما أصرّ على استعمال كلمة “الضمير” بدلًا من “الوعي”. واستعمل المترجم كلمة “إسلاماتي” Islamicate بدلًا من “إسلامي” Islamic لأنه رأى أن كلمة “إسلامي” تنصرف إلى كل ما يتصل بالدين الإسلامي، فيما “إسلاماتي” تنصرف إلى كل ما يتصل بالمجتمع الذي يحتوي عناصر غير إسلامية كاللغات التركية والفارسية أو الفلسفة والرسوم العارية. وعلى هذا المنوال راح المترجم يستعمل عبارات مثل “النطاق الإسلاماتي” و”النطاق الفارساتي” و”الثقافة الإسلاماتية” و”الحياة الزراعاتية” و”المجتمع الإسلاماتي” و”فن التصوير الإسلاماتي” و”الأراضي الإسلاماتية”… وهكذا. غير أن المترجم استخدم، في السياق نفسه، عبارة “العالم الإسلامي”. فلماذا لم يستخدم عبارة “العالم الإسلاماتي”؟ وفي أي حال إنني أتفهم معاناة المترجم في ما يترجمه من مصطلحات متقاربة اشتقاقيًا مثل “اقتصادات” Economies و”اقتصاديات” Economics على سبيل المثال. لكن، إن لم تصبح المصطلحات الجديدة مستقرة في النصوص العربية، فلا فائدة منها، وهي تزيد إعتام النص.

لا بد من تصحيح بعض الأغلاط في الكتاب توخيًا للدقة. ففي مقدمة المترجم (ص20، الهامش27) ورد الاسم التالي: حمزة بن أحمد بن علي. والصحيح حمزة بن علي بن أحمد. ووردت كلمة “الخواراه” Khuarnah في الصفحة 508 (الجزء الثاني). ولا أدري لماذا طار حرف N من الصيغة العربية؟ وإخال إنها “الخوارناه” أو الخورنق، أي المكان الذي يعتزل فيه الملك رجال دولته. ووردت كلمة “النبلاء” في الصفحة 518 (الجزء الثاني) وهي غير صحيحة إلى حد بعيد، والأحسن منها “أهل الحل والعقد” أو “الأعيان” أو “السادة”، لأن الذهن ينصرف عند قراءة كلمة “النبلاء” إلى التقسيم الطبقي في عصر الإقطاع الأوروبي. وترجم المترجم في الصفحة 536 (الجزء الثاني) كلمة Admiral إلى “أمير”، وهي ترجمة غير دقيقة تمامًا. والأفضل أن تُترجم إلى “أميرال” أي أمير البحر بحيث لا يُكتفى بكلمة “أمير” فحسب. ويرد في الكتاب (الصفحة 608 – الجزء الثاني) أن عين جالوت تقع جنوبي دمشق، ويُفهم من ذلك أن معركة عين جالوت التي اندلعت في عام 1260 ميلادية قد وقعت على مبعدة كيلومترات من دمشق، فيما جرت بالفعل بالقرب من غزة، فلو قال “جنوب سورية” لكان أحسن وأكثر دقة. ووردت في الكتاب كلمة “القفجاق” (الصفحة 608- الجزء الثاني). والشائع هو “القازاق” أي مغول الفولغا. أليست هذه هي تلك؟ وفي الصفحتين 722 و 723 من الجزء الثاني جاء أن الجامع الأموي الكبير في دمشق يحمل مسحة قديمة وربما قبل إسلامية. لماذا كلمة ربما التي تُستعمل دائمًا للترجيح؟ فالجامع الأموي يُعد من العمارة السورية الباهرة في حقبة ما قبل الإسلام، وكان في الأصل معبدًا للإله حدد الآرامي، ثم صار معبدًا للإله الروماني جوبيتير، ثم تحول كنيسة تحتوي، حتى اليوم، ضريح يوحنا المعمدان أو النبي يحيى، ثم زاد عليه الوليد بن عبد الملك القسم الشمالي وحوّل الكنيسة إلى مسجد. وحتى لو أن تلك الأغلاط وردت في النص الإنكليزي للكتاب، فقد كان على المترجم أن يضع لها الهوامش الإيضاحية لتصحيح تلك الأغلاط وهي قليلة في أي حال.

* كاتب عربي فلسطيني

المصدر: العربي الجديد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.