الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

“معتدل” استراتيجي أم لا؟

مايكل يونغ

يتحدّث فيليب مطر، في مقابلة معه، عن كتابه الذي يروي سيرة حياة مفتي القدس السابق الحاج أمين الحسيني.

فيليب مطر مؤرخ أميركي فلسطيني، ومؤلّف كتاب The Mufti of Jerusalem: Al-Hajj Amin Al-Husayni and the Palestinian National Movement (مفتي القدس: الحاج أمين الحسيني والحركة الوطنية الفلسطينية)، (منشورات جامعة كولومبيا، صدر بطبعة منقّحة في العام 1992)، ومحرّر Encyclopedia of the Palestinians (موسوعة الفلسطينيين) (دار نشر فاكتس أون فايل، صدر بطبعة منقّحة في العام 2005). شغل منصب المدير التنفيذي لمؤسسة الدراسات الفلسطينية في واشنطن العاصمة ومنصب رئيس المركز الفلسطيني الأميركي للأبحاث. يعمل في الوقت الراهن على إنهاء كتاب حول الفرص الضائعة للفلسطينيين. أجرت “ديوان” مقابلة مع مطر مطلع نيسان/أبريل لمناقشة كتابه حول الحاج أمين الحسيني، الذي يُعدّ من السيَر النادرة غير الجدلية لمفتي القدس.

مايكل يونغ: في العام 1988، وضعت سيرة حياة الحاج أمين الحسيني. مع أنه كان شخصية أساسية خلال فترة ما بين الحربَين في فلسطين، لم يُكتَب الكثير عنه باللغة الإنكليزية، وما كُتِب كان إشكاليًا عمومًا، إذ ركّز على روابطه مع النازيين. ما الدافع وراء إقدامك على مثل هذا المشروع؟

فيليب مطر: مع تزايد اهتمامي بالحكم البريطاني على فلسطين (1917-1948) أثناء متابعة دراساتي العليا في جامعة كولومبيا، تعزّز إدراكي أن السيَر الشخصية الصادرة باللغات الإنكليزية والعربية والعبرية عن الحاج أمين الحسيني (1895-1974)، القائد الأساسي للحركة الوطنية الفلسطينية والذي كان شخصية ذات شعبية في العالم العربي، متحيّزة ومثيرة للإشكاليات. لقد حرّفت الأعمال العربية، وبعضها يعتمد على مذكرات المفتي، سجلَّه في فلسطين، فأظهرته على أنه يخوض معركة ضارية ضد الصهيونية. أما الأعمال باللغتَين الإنكليزية والعبرية، التي كتبها قوميون يهود، فقد شوّهت سمعته ونزعت الصدقية عن حركته. فهذه الأعمال، التي استندت بصورة خاصة إلى الصحافة الغربية، افتقرت إلى عنصر التآلف الأساسي مع المفتي، والمجتمع والسياسة الفلسطينيَّين، والإسلام واللغة العربية.

كشفت الرسوم التصويرية في هذه الكتب الكثير عنها. الكتاب الأكثر رواجًا باللغة الإنكليزية هو سيرة كتبها جوزف شيشتمان بعنوان “المفتي والفوهرر” (The Mufti and the Fuehrer)، وتتضمن على الصفحة المقابلة لصفحة العنوان صورة للمفتي ظهر فيها ملتحيًا مع عمامة، ولكن الصورة ليست مطلقًا له. وفي سيرة أخرى عن المفتي، بقلم موشيه واترز (عُرِف لاحقًا بموشيه بيرلمان)، ظهر على الغلاف رسمٌ لرجل معقوف الأنف ذي مظهر مثير للنفور تسيل الدماء من أظافر أصابعه، ويشبه بطريقة ساخرة رسومًا كاريكاتورية معادية للسامية كانت تُستخدَم لتشويه سمعة اليهود. نادرًا ما أمكنت رؤية المفتي وحركته على حقيقتهما في هذه السيَر.

لذلك، عقدتُ العزم على اكتشاف المفتي الحقيقي، ولهذه الغاية حصلت على زمالة بحثية من برنامج فولبرايت لمدة عام، ما أتاح لي إجراء أبحاث في مكتب السجلات العامة في المملكة المتحدة، ودار الكتب في القاهرة، وأرشيف الدولة في إسرائيل، ومركز الأبحاث الفلسطيني التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية. وأجريت مقابلات مع ثمانية عشر قياديًا فلسطينيًا وفردًا في أسرة الحسيني، بمن فيهم اثنتان من بنات المفتي.

كان هدفي تجاوز القيود السياسية والثقافية للمصادر الأوّلية، وخلفيّتي بصفتي مواطنًا أميركيًا فلسطينيًا، وبالطبع، الأعمال الثانوية المنحازة. كنتُ مصمّمًا على تأليف سرديّة موضوعية، وقد كتب عنها آفي شلايم، المؤرّخ في جامعة أكسفورد، بعد صدورها عن منشورات جامعة كولومبيا أنها “التاريخ التنقيحي في أفضل تجلّياته”. ووصف الباحث في جامعة تل أبيب، أشير سوسر، الكتاب بأنه “المساهمة الأكثر مهارة وموضوعية وجدارة”. لم يكن آخرون لطفاء إلى هذه الدرجة، ومنهم رافاييل ميدوف، الباحث المتخصّص في دراسات الهولوكوست، الذي أيّد روايات شيشتمان وبيرلمان بأن المفتي شارك في الحل النهائي، أو الهولوكوست.

يونغ: تتعارض حجّتك مع النظرة العامة بأن المفتي كان على الدوام شخصية راديكالية. هلا تعرض لنا الخلاصات التي توصّلت إليها بشأن مساره السياسي، وكيف يتنافى كتابك مع الاعتقاد السائد عنه؟

مطر: ينظر الصهاينة أو الإسرائيليون إلى المفتي بأنه راديكالي بسبب معارضته الشديدة للصهيونية، وكذلك يراه الفلسطينيون الذين اعتبروا أنه خاض المعركة الجيدة. في الواقع، خلصت السيرة التي كتبتها عن المفتي، استنادًا إلى أدلة أوّلية، ولا سيما الأدلة من مكتب السجلات العامة وأرشيف الدولة في إسرائيل، إلى أن النظرتَين كانتا ولا تزالان مغلوطتَين.

يجب النظر إلى مسيرته من خلال مرحلتَين اثنتَين: المرحلة التي كان فيها مفتي القدس بعد العام 1921، ومرحلة تولّيه رئاسة المجلس الإسلامي الأعلى بعد العام 1922. تعاون الحسيني مع حكومة فلسطين البريطانية منذ العام 1921 حتى العام 1936، خلال المرحلة التي كان الصهاينة ينشئون فيها مؤسسات ما قبل الدولة. اعتبر أن سياسة بلفور البريطانية لدعم إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين – حيث عاش الفلسطينيون منذ الأزل وكان اليهود أقلّية صغيرة طوال 2,000 عام – هي سياسة غير عادلة، وعارض الصهيونية في خطاباته، وفي مرافعاته أمام المندوب السامي، وفي لندن خلال تواصله مع المسؤولين البريطانيين، لكنه رفض دعم أعمال العنف ضد البريطانيين والصهاينة. ولم أتمكّن من العثور على أدلة موثوقة، لا في المذكرات الفلسطينية ولا في المنشورات الصهيونية آنذاك، على أنه دعم خلسةً التحضيرات الفلسطينية لخوض مواجهة عنيفة مع البريطانيين والصهاينة.

ووفقًا لتقارير بريطانية مفصّلة، استغلّ أعمال الشغب خلال الاضطرابات التي شهدتها الأعوام 1920 و1921 و1929 و1933، ولكنه لم يقم بتنظيم أيٍّ منها أو قيادتها. في الواقع، قبل أعمال الشغب التي اندلعت في 23 آب/أغسطس 1929، حاول إقناع منظّميها بالعدول عن التحركات ونبّه الشرطة البريطانية إلى التظاهرات الوشيكة، وثمة أدلة على أنه رفض مناشدات الشيخ السوري عز الدين القسام الذي طلب المساعدة لإطلاق شرارة الثورة. في العموم، كان قائدًا حذرًا وتقليديًا تعاون مع الحكومة الفلسطينية. وقد خلصتُ إلى أنه كان “معتدلًا” استراتيجيًا، وهو مصطلح استخدمه البريطانيون آنذاك. أبدى مع الأعيان الفلسطينيين معارضته للصهيونية بالقول وليس بالفعل منذ العام 1921 حتى العام 1936. من وجهة نظر فلسطينية، أُهدِرت فرصة من خلال عدم تحدّي سياسة بلفور والصهيونية بأسلوب عدائي حين كانتا لا تزالان في مراحلهما الأولى والتجريبية المتمثّلة بإنشاء مؤسسات شبه رسمية.

ولّدت الهجرة اليهودية المتزايدة إلى فلسطين والقمع البريطاني للثورة العربية في الفترة الممتدة من 1936 إلى 1939، شعورًا بالمرارة وراديكاليةً لدى المفتي الذي انقلب على البريطانيين وتجاهل الفرص البراغماتية في العامَين 1937 و1939، وبالطبع في العام 1947. ومن خلال الفرار إلى ألمانيا النازية والتماس دعمها لطرد بريطانيا من فلسطين والعالم العربي، وصم المفتي نفسه وحركته وخسر صدقيته وصدقية الحركة في الغرب عن طريق تبنّيه بروباغندا معادية للسامية وتعاونه مع نظام الإبادة النازي بين العامَين 1941 و1945.

يونغ: هلّا تشرح لنا كيف تطوّر مصطلح “سياسات الأعيان”، المقتبس من المؤرّخ ألبرت حوراني، في فلسطين خلال سنوات ما بين الحربَين العالميتَين، وبخاصة كيف يندرج المفتي في إطار هذه السياسات؟

مطر: يخبرنا سلوك المفتي المعتدل بين العامَين 1917 و1936، كما وصفته آنفًا، الكثير عن سياسات الأعيان، ليس في فلسطين وحسب بل في سورية الكبرى بأكملها، وهذا ما توصّل إليه المؤرخ في جامعة أكسفورد ألبرت حوراني في تحليلاته. كانت أسرة الحسيني من بين أبرز الأُسر الحضرية العريقة، وقد هيمنت على المشهد السياسي الفلسطيني طيلة قرون من خلال تولّي مناصب دينية وجمع الضرائب وحيازة الأراضي، ما منحها قاعدة نفوذ في الأرياف وداخل المدن على السواء، وخصوصًا في القدس ويافا ونابلس. واستطاعت السلطة المركزية ممارسة حكمها من خلال قاعدة النفوذ هذه، بما معناه أن أسرة الحسيني ساهمت في الإبقاء الوضع القائم. فقد وقفت في وجه العثمانيين في قضايا محلية عدّة، لكنها نادرًا ما بذلت مجهودًا للإطاحة بحكمهم. وفيما لا يمكن اعتبار أن أفراد هذه الأسرة كانوا أداةً للحكم العثماني، لم يكن بإمكانهم كذلك تحدّي السلطة المركزية خشية عزلهم من مناصبهم الرفيعة وفقدان نفوذهم.

بدأ تعاون الأسرة مع القوات البريطانية في العام 1917 في مرحلة مبكرة. فحين توفي طاهر الحسيني، مفتي القدس ووالد أمين، في العام 1908، حلّ مكانه الأخ غير الشقيق لأمين، كامل الحسيني. ووفقًا للمؤرخ يهوشوا بوراث، بذل كامل “قصارى جهده لمساعدة سلطات الاحتلال البريطاني”. وعند وفاته، وقبل تعيين أمين مفتيًا، التقى به كلٌّ من المندوب السامي البريطاني السير هربرت صموئيل، والمستشار القضائي نورمان بنتويش، وكلاهما صهيونيان بريطانيان. ووعدهما باستخدام “نفوذ عائلته ونفوذه… للحفاظ على الهدوء في القدس”، ونصح الحكومة باتخاذ “الاحتياطات اللازمة” “لتجنُّب تكرار” أعمال الشغب التي وقعت في العام السابق، أي العام 1920.

وبعد أن أصبح مفتيًا واكتسب تدريجيًا سلطة سياسية، أظهر تعاونًا مماثلًا مع البريطانيين، كما تُبيّن محاضر اجتماعاته مع المندوبين الساميين. فمثلًا، بعد مرور شهرَين على أعمال الشغب عند حائط البراق في العام 1929، طمأن المندوب السامي بأنه يعتبر نفسه “نوعًا ما، أحد المسؤولين في الدولة”. ولم يضع حدًّا لتعاونه مع البريطانيين، كما أشرت سابقًا، إلا حين أرغمته الأحداث على الاصطفاف إلى جانب ثورة شعبه، أي الثورة العربية في العام 1936. لكن حتى حينئذٍ، استغرقه الانضمام إليها والمشاركة فيها بشكل كامل بعض الوقت. وتولّى القيادة من الخلف.

يونغ: أُدين الحاج أمين الحسيني مرارًا لعلاقته بألمانيا النازية، وثمة حادثة شهيرة، أو بالأحرى ذائعة الصيت، عن أنه نجح في العام 1943 في عرقلة خطة نازية لإرسال أطفال يهود إلى فلسطين، ما كان سيتيح لهم النجاة من الهولوكوست. كيف تقيّم هذه المرحلة من مسيرة المفتي؟

مطر: ما من مرحلة أكثر إثارةً للجدل في حياة المفتي من السنوات التي أمضاها في ألمانيا النازية (1941-1945). وقد واجه المؤلّفون العرب واجهوا صعوبةً كبيرة في الكتابة عنها، حتى إن بعضهم إلى تجاوزها تمامًا في كتاباتهم عن حياته، فيما أشار آخرون إلى أنه لم يكن يملك مكانًا آخر يذهب إليه هربًا من البريطانيين، على الرغم من أنه لم يحاول الذهاب إلى مكان آخر، وبدا حريصًا على الاصطفاف مع ألمانيا. وبرّر كتّاب عرب أنشطته في ألمانيا بأنه كان يأمل أن تلحق ألمانيا الهزيمة ببريطانيا، ثم تعمد إلى تحيّر فلسطين والعالم العربي من الحكم البريطاني. وفي هذا السياق أيضًا، أغفل الكثير من الكتّاب العرب عن ذكر خطابه المعادي للسامية وأنشطته في خدمة النازيين – التي شملت تجنيد مسلمين للانخراط في الحرب، وإرسال فرق تخريبية إلى الشرق الأوسط، وبثّ حملات دعائية في العالم العربي – والتي لم تؤدِّ في الغالب إلى نتائج تُذكر في مطلق الأحوال.

وحاول كتّاب صهاينة ربطه بالحلّ النهائي. ولا أستغرب أن كتّابًا مثل شيشتمان وبيرلمان أطلقوا مثل هذه الاتهامات المستندة إلى أدلّة ضعيفة قدّمتها حملة البروباغندا الخاصة بالوكالة اليهودية في أواخر الأربعينيات. لكن المخيّب للآمال أن باحثين مثل تسفي إلبليغ ورافاييل ميدوف وجيفري هيفت ساهموا في استمرار هذه القصة غير المثبتة حقيقتها عن دور المفتي في الهولوكوست.

وفي العام 2015، زعم بنيامين نتنياهو حتى أن مفتي القدس أقنع هتلر بتنفيذ الحل النهائي، قائلًا إن “هتلر لم يرغب في إبادة اليهود”، هو “أراد طردهم” ليس إلّا، لكن المفتي اعترض لأنهم كانوا سيسافرون إلى فلسطين. وسأل هتلر المفتي: “ماذا أفعل بهم؟” فأجابه المفتي “احرقهم”، وهذا ما فعله هتلر. والمشكلة أن ما من حديث مماثل مذكور في محضر الاجتماع الوحيد الذي جمع هتلر بالمفتي ودام 95 دقيقة في 28 تشرين الثاني/نوفمبر 1941. وتمحور الحديث في الدرجة الأولى حول الحصول على إعلان ألماني ينفي وجود مصالح إمبريالية في العالم العربي ويدعم استقلال الدول العربية، ويسعى من خلاله المفتي إلى إطلاق شرارة الثورة ضد البريطانيين. في مطلق الأحوال، لم يكن النازيون بحاجة إلى أي تشجيع من المفتي لارتكاب الإبادة الجماعية.

صحيحٌ أن المفتي حاول في مناسبات عدّة منع اليهود في الأراضي الخاضعة لسيطرة الألمان من التوجّه إلى فلسطين، في خطوة تتماشى مع رغبته في وجود عدد أقل من اليهود هناك. وفي رسالة وجّهها إلى ريبنتروب، في العام 1943، اعترض على نقل 4,000 من الأطفال و500 من البالغين إلى فلسطين. وفي العام نفسه، كتب إلى وزير الخارجية الروماني حول مغادرة 1,800 طفل و200 بالغ من رومانيا إلى فلسطين. وفي العام 1944، تواصل مع وزير الخارجية المجري بشأن منح تصاريح هجرة لنحو 900 من الأطفال و100 من البالغين. لكن الجانب الأكثر إثارةً للقلق في هذه الرسالة هو القسم الذي كتب فيه أنه إذا كان من الضروري التخلّص من اليهود، فيجب إرسالهم إلى مكان يخضعون فيه لـ”رقابة فعّالة”، مثل بولندا. ولم أتمكن من العثور على أي دليل حول عدد اليهود الذين مُنعوا من المغادرة وماذا حلّ بهم.

في الحالات التي قمت بدراستها، تم القبول برسائل المفتي، و أتى الردّ بأنها ستؤخذ في الحسبان، لكن من دون القيام بأي التزامات. وفي رسالة إلى فون ريبنتروب في تموز/يوليو 1944، اشتكى المفتي من أن اليهود كانوا يغادرون إلى فلسطين، مشيرًا إلى أن رسائله السابقة لم تؤخذ في الاعتبار. وذكّر وزير الخارجية بتصريح ألماني وعد بتدمير الوطن القومي لليهود، وبالتزام الألمان الانخراط في “المعركة ضد الشعب اليهودي”. ومع أنني أضفتُ هذه التفاصيل إلى الفصل المتمحور حول المفتي وألمانيا النازية في طبعة العام 1992 من كتابي، لم أُغطِّ الموضوع بشكل وافٍ. وما لم يفُتني ذلك، ما من دراسة شاملة وغير متحيّزة لغاية الآن تستند إلى الأرشيف الألماني الضخم، من شأنها إجلاء الغموض الذي يكتنف دور المفتي في ألمانيا، ولا سيما إذا أدّت تدخلاته إلى موت يهود.

يونغ: كيف أمضى المفتى السنوات الأخيرة من حياته، حين سيطر الشباب الفلسطينيون على الحركة الوطنية؟ فعلى الرغم من أن الغرب غالبًا ما وصفه بالراديكالية، كانت مشاعر الناشطين الأصغر سنًّا في الستينيات “مختلطة”، كما كتبتَ. هلّا تشرح لنا سبب ذلك، وعمومًا كيف كانت سنواته الأخيرة في المنفى اللبناني؟

مطر: بحلول خمسينيات القرن المنصرم، كان الجيل الجديد من الفلسطينيين يتوق إلى إطلاق حركة تهدف إلى استعادة فلسطين. وعلى الرغم من أن معظمهم كان معجبًا بنزاهة المفتي وتضحياته واستقامته وإخلاصه للقضية الفلسطينية، رأوا فيه قائدًا تقليديًا غير قادر على تولّي المهمة التي سعوا إلى النهوض بها. فقد رفض التنازل عن قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية للرئيس المصري جمال عبد الناصر، وأدّت التوترات بينهما مغادرته القاهرة إلى بيروت في العام 1959. علاوةً على ذلك، كان معاديًا لمنظمة التحرير الفلسطينية، التي تأسست في العام 1964 بإشراف جامعة الدول العربية، لأنه كان يخشى خسارة الاستقلالية في صنع القرار واتّخاذ الإجراءات. مال الجيل الجديد نحو الزعيم الكاريزمي والبراغماتي ياسر عرفات، الذي كان يتولّى قيادة حركة فتح، وهي الفصيل الأكبر ضمن منظمة التحرير الفلسطينية. وكان المفتي معارضًا للإيديولوجيا الماركسية والمجموعات اليسارية، فيما أبدى عرفات تقبّلًا لمختلف المجموعات على يسار الطيف السياسي ويمينه وسعى إلى توحيدها تحت لواء منظمة التحرير.

فضّل الحاج أمين، وقد بلغ آنذاك منتصف السبعينيات من عمره، عرفات بشكل واضح، ووافق في النهاية على انتقال القيادة، إلا أن هذا الأمر لم يخلُ من بعض التوترات مع منظمة التحرير الفلسطينية حين كان لا يزال رئيس اللجنة العربية العليا. بقي الجيل الأقدم يكنّ له الاحترام، وظل يزوره المئات من بينهم. بحسب إحدى بناته، اعتاد خلال فترة تقاعده قراءه الكثير من الكتب الأدبية، ولا سيما الشعر، ومتابعة القنوات الإخبارية العربية والغربية، مثل قناة بي بي سي، والاستماع إلى الموسيقى العربية مثل أغاني أم كلثوم.

لماذا هذه المشاعر المختلطة حيال المفتي؟ مع أنني لم أجرِ الكثير من البحوث حول حياته بعد حرب العام 1948، أعتقد أنه كان تقليديًا للغاية وساهمت سياساته في النكبة. قبل تخصيصي عامًا لإجراء بحوث حول المفتي، كنتُ في حفلة في واشنطن العاصمة، حضر فيها ممثل منظمة التحرير الفلسطينية. واقترب مني ليخبرني إنه يأمل أن أتمكن من تحسين صورة المفتي في الغرب. فأجبته أنني عازم على ترك المعطيات تُرشدني في كتابتي، لكن هذا الأمر لم يرضِه. وبعد أن مضت ساعة وكان قد شرب كأسًا أو اثنين، عاد ليطلعني على رأيه الحقيقي بالمفتي، وبالتأكيد لم تكن تفاصيل قد يرغب برؤيتها منشورة، إذ وصفه بالاستبدادي، والمتشدّد، والعنيد، والتقليدي جدًّا، ومتزمّتًا.

في الواقع، لم تظهر المعطيات التي عثرت عليها أن المفتي كان متزمّتًا. فقد استخدم العدالة في الدرجة الأولى، وليس الإسلام، لتبرير الصراع ضد الصهيونية. وأحاط نفسه بفلسطينيين مسيحيين، مثل جورج أنطونيوس، أحد أقرب مستشاريه، وإميل الغوري، الأمين العام للحزب العربي الفلسطيني الذي ينتمي إليه المفتي، وعيسى نخلة، ممثل الهيئة العربية العليا لفلسطين أمام الأمم المتحدة. وأخبرتني إحدى بناته أن الحسيني لم يكن قاسيًا مع بناته أثناء إقامته في بيروت، إذ سمح لإحدى أخواتها بارتداء تنورة قصيرة. من الصعب تخيّل زعيم ديني مسلم، آنذاك والآن، يضع مسيحيين كمساعدين كبار له ويُبدي هذا التسامح تجاه بناته.

برأيي، لم يكن المفتي ندًّا للزعيمَين الصهوينيَين ديفيد بن غوريون وحاييم وايزمان، اللذَين كانا يتمتعان بخبرة متميّزة وثقل دبلوماسي وفطنة استراتيجية، واللذَين كانا عازمَين على إقامة دولة يهودية على حساب الفلسطينيين من خلال طردهم والاستيلاء على أراضيهم. ولم يكن الفلسطينيون قادرين على مقاومة الحكومة البريطانية وجيشها في سعيهما إلى تنفيذ سياسة بلفور، التي مكّنت المجتمع اليهودي (اليشوف) من النمو في عشرينيات وثلاثينيات القرن المنصرم وإقامة وطن قومي لليهود، أي الدولة اليهودية، من خلال الهجرة وشراء الأراضي والقوة المؤسسية والعسكرية. وبحسب أعضاء حزب الاستقلال القومي العربي في مطلع الثلاثينيات، تبنّى المفتي وأعيان آخرون سياسات خاطئة حتى الثورة العربية في العام 1936، إذ أبدوا تعاونًا ومراعاة شديدة للآخرين فيما كانت الحركة الصهيونية تكتسب زخمًا وقوة.

وخلال المرحلة الثانية بعد الثورة، حين أضحت الصهيونية قوية وحظيت بدعم دبلوماسي واسع عقب الهولوكوست، كان على المفتي أن يصبح براغماتيًا أكثر للاحتفاظ بأكبر قدر ممكن من فلسطين. لقد أهدر فرصة الاحتفاظ بـ45 في المئة من فلسطين، وربما أكثر من ذلك، لو أنه تفاوض حول قرار التقسيم الوشيك في العام 1947. كان بإمكانه أن يجادل بأن جزءًا كبيرًا من فلسطين أراضٍ خاصة أو ملك للمجتمع الفلسطيني، وأن الصهاينة عُرض عليهم 55 في المئة، على الرغم من أنهم لم يمتلكوا سوى 7 في المئة من الأراضي، وكانوا يشكّلون ثلث عدد السكان. ونظرًا إلى التفاوت الهائل في القوى، ربما لم يكن هذا الموقف المعتدل سيؤدي إلى قيام دولة فلسطينية، وبخاصة بعد الاتفاق الصهيوني الهاشمي في أواخر الأربعينيات على تقسيم فلسطين، لكن افتقار المفتي إلى الواقعية وموقفه الرافض قلّص احتمال قيام مثل هذه الدولة. وفي حالته، كان التوق إلى المثالية عدوًّا للجيّد.

تشكّل الفرص الضائعة محور كتاب أعمل على تأليفه في الوقت الراهن، ويتناول الفرص التي أضاعها الفلسطينيون خلال فترة الانتداب، ولا سيما في العام 1947 وبعد العام 1967، حين أضاعت إسرائيل وداعمتها الولايات المتحدة، فرصًا عدّة، وخصوصًا عملية أوسلو للسلام (1993-2001).

المصدر: مركز كارنيغي للشرق الأوسط

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.