الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

“نظام التفاهة”: هجاء الواقع ونقد الحياة اليومية

صقر أبو فخر *

حين قرأتُ كتاب الكَنَدي آلان دونو الموسوم بعنوان “نظام التفاهة” (بيروت: دار سؤال للنشر، 2020) أُصبتُ بالكمد وبالوجوم الشديد. وقد تمكنتْ مترجمة هذا الكتاب، الدكتورة مشاعل عبد العزيز الهاجري، من استدراجي إلى قراءة مقدمتها لهذا الكتاب كلمة كلمة وفقرة فقرة، لأنها حقًا مقدمة كافية ووافية. ثم جعلتني أستغرق في مقارنة ما جاء في فصول الكتاب بما يجري اليوم في الجامعات العربية وجامعات العالم كله، وفي ميادين الفنون والصحافة والإعلام، ولا سيما الإعلام المرئي وإعلام التواصل الاجتماعي، فازددتُ وجومًا. ولولا بعض المنائر المضيئة في ميادين الفكر والثقافة والإعلام والفن، مثل المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وهي قليلة في عالمنا العربي في أي حال اليوم، لاعتقدتُ أن هذا الكتاب كُتبَ خصيصًا لاكتشاف “التفاهة” في الوطن العربي بالتحديد. وواقع الحال أن هذا الكتاب المهم يعالج “التفاهة” في أوروبا أولًا، وفي العالم الغربي عمومًا، ولا سيما في الولايات المتحدة الأميركية. ونظام التفاهة هذا مرادف لفكرة الرداءة بلا تردد، حيث يزداد في نطاقه حضور الفن الرديء وغياب المعايير الجمالية. وهذه الظاهرة ربما نلاحظها في كل يوم لدى المترددين على معارض الفنون التشكيلية: يدخل الواحد من هؤلاء، وينهمك في مشاهدة إحدى اللوحات، ثم يبدأ في التنقل بين هذه الزاوية وتلك. يتقدم خطوة نحو اللوحة ثم يتراجع خطوتان. يحدق فيها مليًا وربما أطال الوقوف أمامها كي يراه الآخرون، ويبالغ في إبداء اهتمامه. وحين ينتهي هذا الاستعراض ينقلب الزائر إلى التفتيش عن معارفه لإلقاء التحية عليهم، ثم يغرق في احتساء الكؤوس وازدراد الطعام وهو يردد عبارات بلهاء مثل: إنه معرض مهم؛ اللوحات جميلة؛ الألوان متناسقة؛ إنها تتضمن ما هو جديد؛ إنها مدهشة أو غريبة أو غرائبية أو متوحشة… إلخ. هكذا يتحول الفن إلى غير غايته في الارتقاء والسمو والجمال، فيصبح مجرد زخرفة ساذجة لجعل الحياة اليومية القاحلة ممكنة بواسطة الترفيه الذي بات “سيد الفنون” كلها.

يندرج هذا الكتاب في سياق نقد الحداثة ورصد مآلاتها ومصائرها. وكان هذا الكتاب صدر بالفرنسية أولًا في سنة 2015. وسأحاول، بقدر الإمكان، رسم خطين متوازيين، لضرورات المقارنة، بين ما جاء في صفحات الكتاب وفي مقدمة المترجمة من آراء، وبين ممثولاتها في العالم العربي، أي أنني سأقرأ الكتاب في سياق قراءتي لأحوالنا الثقافية والراهنة التي تزخر بصعود الرداءة، وانحطاط الأذواق وشيوع السذاجة والسطحية والابتذال، وانحسار الجودة، وتسيُّد شريحة واسعة جدًا من التافهين والجاهلين على بعض المؤسسات الثقافية وعلى الإعلام، ولا سيما الإعلام التلفزيوني، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي التي ينتهكها على مدار اليوم راقصو التيك توك وصانعو شرائط القهقهة الساخرة أمثال يحيى الزعبي وعزيز الأحمد، ومغنواتية العذاب من عيار كتكوت الأمير وأبو الليف وعزة كوارع.

التفاهة والنقود والجامعات:

“التافهون” هنا ليسوا هم المبتذلون، بل متوسطو المعارف من ذوي الثقافة المتواضعة أو البسيطة الذين ينفذّون ما يُطلب منهم بلا اعتراض أو تساؤل ما داموا يتلقون المكافأة أو الترقي الوظيفي. وتتجسد “التفاهة” اليوم في الآراء التي تبثها وسائل التواصل الاجتماعي في تدفقها الطوفاني، وفي الفنون الترفيهية التي تعرضها محطات التلفزة، وفي برامج الأبراج والتوقعات والطبخ، وفي الثقافة العامة التي يُنتجها نظام التعليم الجامعي، وتُشِيْعُها منظومات الإعلام السائدة. ونظام التفاهة هذا لم يولد البارحة فجأة كما وُلدت مينيرفا من رأس جوبيتر، بل هو خلاصة لتاريخ طويل من تحولات الرأسمالية نفسها في أطوارها المتعاقبة ولا سيما في عصر العولمة. وفي نظام التفاهة ذاك تصبح النقود والنهود والقدود هي الثالوث الجديد والإله المبجّل، والقوة الهادية المسيطرة التي لا تكف عن طرد الثقافات الجادة والفنون الرفيعة وجمالياتها السامية إلى زوايا مهملة. وفي نظام التفاهة هذا تسود مظاهر الاسراف والجشع والاستعراض الاستهلاكي، وتعلو ما عداها من قيم، حضارية أَكانت تلك القيم أم ثقافية. وهذا النظام يُقصي غير التافهين باستمرار لأنه لا يحتاج إليهم البتة.

الجامعة، في الأساس، نقيض الرداءة والتفاهة بحسب المنطق البسيط وتاريخ الجامعات. لكن، ها هي الجامعة نفسها تتحول في سياق تحولات الرأسمالية، وبشكل متسارع، إلى مصنع لإنتاج “الخبراء” بدلًا من أن تكون حقلًا للمعرفة ولإنتاج المفكرين والباحثين والمثقفين، ولإعلاء شأن الحق والخير والجمال. وظاهرة “الخبير” نشأت جراء التقسيم المستمر للمعارف إلى درجة بات معها بعض أقسام المعارف بلا جدوى. والخبير، بهذا المعنى، إنما هو شخص يُدفع له كي يُنتج خططًا أو تقارير أو أوراقًا بحثية تلائم مصالح مَن يدفع. أما العلاقة بين المال والأكاديميا فقد صارت سافرة ومكشوفة تمامًا؛ فصناديق تقاعد الأساتذة يديرها مستثمرون رأسماليون “خبراء”. وودائع الجامعات تدار بطرائق رأسمالية فجّة، وتُستثمر مثل ودائع الفاتيكان في الأسواق المالية خلافًا لغاياتها الأصلية. وتبدأ عملية التسليع في البداية، ما إن يبدأ الباحث سعيه للحصول على منحة تعليمية. وهذا الباحث لا يستطيع أن يَدرُجَ في مدارج النجاح إن لم يحصل على منحة بحثية من إحدى الجهات المموِّلة. والجامعات نفسها صارت تموّلها الشركات التجارية كشركات الدواء والغذاء من خلال المنح التي تقدمها إليها، وتملي عليها إرادتها بواسطتها. وبهذه الطريقة تحوّلت الجامعات من إنتاج المعرفة إلى إنتاج “الخبراء” الذين يخدمون السوق؛ ومن إنتاج العلماء الذي يستطيعون مواجهة المشكلات إلى إنتاج “خبراء” ذوي تخصصات ضيقة جدًا؛ ومن إنتاج المعرفة إلى خدمة التجارة. ولعل الكاتب العثماني حاجي خليفة (كاتب جلبي) كان بصيرًا حين قال في القرن السابع عشر: “ليس الغرض من العلوم الكسب، بل الاطلاع على الحقائق وتهذيب الأخلاق. ومَن تعلّم علمًا لاحترافه لا يصبح عالمًا بل شبيهًا بالعلماء”.

المهنة والحرفة:

تحدث كارل ماركس قبل نحو 180 سنة في كتابه “مخطوطات 1844” عن اغتراب العامل عن منتوج عمله، وكيف أن الرأسمالية أقصت الحرفي عن مزاجه ولذته، ومنعته من أن يضع ذاته بين أصابع كفّيه فيُنتج الحائك نسيجه المزخرف، والخزّاف الأواني الجميلة، والإسكافي أحذيته المتينة، وحوّلته إلى عامل في مصنع للنسيج أو للخزف أو للأحذية. لكن خيال ماركس لم يصل، في ذروة جنوحه، إلى ما وصلت المهنة إليه اليوم حين صارت عديمة الصلة بمن يمتهنها، بل مجرد وسيلة للارتزاق فحسب، إذ صار في الإمكان إنتاج طبيخ بأيدي مَن لا يتقن الطبخ (من خلال الوصفات بالهاتف)؛ وبات كثيرون يحترفون بيع الكتب والموسوعات ويشرحون محتواها للزبائن من دون أن يكونوا قد قرأوها أصلًا، على غرار بائع الصحف الجوّال الذي لا يقرأ ما يحتقبه من الصحف والمجلات. وكل ما تتطلبه الحرفة في هذه الحال هو إتقان أسلوب الترغيب والترويج ولغة الاقناع التجارية المبتذلة. وهذا الأمر جعل الرأسمالية الحديثة تخلق وظائف لا حصر لها لا تحتاج إلى أي خبرات ومعارف، بل إلى تدريب بسيط وسريع على أيدي “خبراء” لا يفقهون أي شيء عن المنتج النهائي، فهم يعملون بواسطة برامج مصممة سابقًا؛ فالمحاسب في هذه الأحوال لا يفهم الاقتصاد أو علم الاجتماع أو قضايا التنمية، والطبيب لا يحدق في عيني المريض أو جلده لعله يكتشف أمرًا خفيًا بل يقرأ نتائج التحليلات فحسب؛ ومصمم أغلفة الكتب والمجلات لا علاقة له بالفنون التشكيلية؛ والخطاط لا يتأنق في رسم خطوطه ولا يضفي عليها أي رونق لأن عليه استعمال صندوق الحروف الموجود على حاسوبه بلا زيادة. واللافت في عالم “التفاهة” أن الكتب الأكثر مبيعًا هي الأقل في القيمة الفكرية، الأمر الذي يطابق القاعدة النقدية المشهورة (قانون توماس غريشام) التي تقول إن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من السوق. والتفاهة تعني تحويل السياسة من نهج رفيع يتضمن الحق والواجب والدستور وإعلاء شأن القيم المثلى وأولوية المصلحة العامة واحترام المواطن والقانون والإرادة الشعبية، إلى مجرد وصفات شائعة ومعايير خالية من منظومة الأخلاق مثل “الحوكمة” و”المساءلة” و”الشفافية”، وهي مفاهيم جميلة على مستوى الترويج، لكن همّها الوحيد هو الانغماس في تطوير خطط الخصخصة والتفاخر في تحقيق “الإنجازات” لغاية وحيدة هي تحقيق المكاسب المادية. ذلك أن الجاذبية في عالم الأعمال والمقاولات تتجسد في الحضور المتأنق للخبراء بدلًا من التفكير العميق. وبهذا يصبح النجاح والصعود الوظيفي هو المعيار بدلًا من الإتقان والابتكار والمعرفة. والعجيب أن عبارات الحوكمة والمساءلة والشفافية كلما ازدادت شيوعًا في أي بلد من البلدان، ولا سيما بلدان العالم الثالث، ازدادت في الوقت نفسه ظواهر الفساد والتديّن الشعبي بصورة لم يسبق لها مثيل، وبمقادير هائلة ومخيفة من الانغلاق والتعصب والكراهية.

إن هذه الأفكار الجديدة والسياسات الناجمة عنها تقلب وظيفة الدولة انقلابًا عاصفًا، وتحوّل الدولة إلى شركة ذات ثلاث وظائف فقط: الأمن الداخلي والأمن الخارجي والقضاء، أي تحويلها إلى مجرد حارس ليلي (ونهاري) للمصالح المالية والثروات؛ إنها الليبرالية الجديدة التي دحرت الكينزية وأدت، في جملة ما أدت إليه، إلى موت النقابات العمالية وجمعيات المستهلكين والأحزاب الاشتراكية، ومَحَتْ، إلى حد بعيد، الفوارق الفكرية والتاريخية والسياسية بين اليمين واليسار، وهو ما يعني موت السياسة أيضًا؛ إنها “الديمقراطية التافهة” التي أمست مهيمنة على الدولة والسياسة، والتي تغمر الحياة اليومية بلا حياء، وتكاد تغرقها بمياهها المبتذلة. غير أن لغة السياسيين الجدد، ولغة الأيديولوجيين ومحللي الوقائع اليومية على محطات التلفزة (الخبراء)، ومعهم كثير من رجال الدين، لا يتسمون بأي ابتكار غير تكرار اللغة الجوفاء إياها (توتولوجيا Tautology) المحمّلة ببعض الحقائق الجزئية؛ لغة تسرد باستمرار “تحصيل الحاصل” والبدهيات التي لا تضيف أي أمر جديد إلى ما هو معروف بالضرورة. فهي، بهذا المعنى، مجرد عبارات زائدة وتفسيرية في أفضل حالاتها، وتصلح لكل زمان ومكان، ومخلوطة بنكهة التفاصح المشيخي والتشدق الخبرائي.

في معمعان هذه “التفاهة” فإن الرداءة، ويا للمفارقة البائسة، تلقى التبجيل دائمًا. لكن “التافهين” غير عاطلين عن العمل، فهم يعملون بجد، لأن إنتاج برنامج تلفزيوني، على سبيل المثال، يتطلب “الحضور الصاخب” لـِ “الخبراء” في مضامير الإضاءة والديكور والدعاية والاتصال والمواصلات والمحاسبة المالية. ويحتاج تصميم غلاف أو قميص مرسوم عليه وجه فنان أو لاعب رياضي الجهدَ نفسه. لكن عملهم هذا، من ناحية جوهرية، عديم القيمة أو قليل القيمة. إنه “الكيتش” Kitsch، أي فن التفاهة في المضمون، والتزويق في الشكل. لقد أصابَ أبو سليمان السجستاني في وصف كُتّاب التفاهة هؤلاء بعبارة حاذقة هي: “تعبوا وما أغنوا، حاموا وما وردوا، غنّوا فما أطربوا، نسجوا فهلهلوا، مشّطوا ففلفلوا” (الشَعر المفلفل هو الشَعر غير المُسرّح).

ثنائية الخبز واللعب:

ترسّخ هذه الثنائية الأولويات العادية للناس أي الخبز واللعب: الخبز (أي الاستهلاك اليومي والسعي البقري في سبيل العيش والانشغال بالأسعار والغلاء والرواتب والضرائب والتأمين)، واللعب (أي الترفيه والفرجة التلفزيونية ولا سيما برامج التسلية والجوائز والغناء المخروب). وهذا الصندوق الساحر، أي التلفزيون، جعل الجمال الجسدي المعيار الذي لا يتقدم عليه أي معيار. وأي جميلة بلهاء (أو شاب وسيم فارغ من المعرفة والثقافة) يمكنها أن تقفز، في كثير من الحالات، من موقع إلى موقع؛ من العلاقات العامة إلى برامج الفوازير مثلًا، ثم إلى تقديم البرامج العلمية في غضون أسابيع قليلة في ما لو أنجدها جمالها أو ساعدتها “شطارتها”. وكانت الحروب في زمن الدول الحامية هي التي تصنع الأبطال، ثم صارت السياسة والسلطة في عهد الدول الراعية هي التي تصنع أبطالها. أما اليوم فقد صار استديو التلفزيون هو الذي يصنعهم. وتكفي لهذه الغاية قاعة واسعة مزخرفة ومُنارة جيدًا، وفيها مقعدان وآلة تصوير أو أكثر، وبعض الأوراق والأقلام وكأس من الماء ومذيعة جميلة. وكل ما يجب القيام به بعد ذلك هو إجلاس الشخص على الكرسي (العرش)، ووضع الميكروفون في يده (الصولجان)، وتثبيت سمّاعة الصوت على صدره (الوسام)، ثم يبدأ هرّ الكلام عن العدالة والحرية والديمقراطية وحقوق المواطن. والترفيه في أي حال ليس أمرًا سيئًا، بل هو شأن حيوي لحياة الناس، وضروري ومرغوب فيه دائمًا. كرة القدم وكرة السلة ورحلات البراري ونزهات الطبيعة وتسلق الجبال وارتياد المجاهل وانتخاب ملكات الجمال وعروض السينما والمسرح والغناء كلها من ضروب الترفيه، وكذلك الرياضة كمهرجانات السباحة وسباقات البحر. ومثل أي أمر مماثل ثمة ترفيه راقٍ وترفيه وضيع؛ ترفيه يرتفع بذائقة الفرد وعقله إلى عوالم متسامية فيهذبه ويمنحه متعًا غامرة، وترفيه هابط ومبتذل وبلا أي قيمة غير التسلية العابرة.

يقول ألان دونو إن الشعب إذا انغمس في تلك الثنائية فهذا هو الدليل على سقوطه في لجة “التفاهة”. والتفاهة هنا تختزل الحياة إلى غاية واحدة، مع أن مظاهرها متعددة، هي تركيم المصالح المادية والمعنوية: المادية أي الربح والخسارة والثروة، أما المعنوية فهي الشهرة والعلاقات العامة والـ show off. وعلى هذا المنوال ينتاب الفساد الجسم الاجتماعي، وتنحط الأمة، ويجر الانحطاط معه الأعلين نحو الأسفل لأن “التسفُّل أيسر من الترفُّع” (جمال الدين الأفغاني). وقصارى القول، إن مَن يتطلع إلى السمو في هذه الحقبة عليه أن يقاوم جاذبية الانحطاط. ومَن يتلذذ بالسقوط ما عليه إلا أن يسلم نفسه للتسفُّل من غير أن يبذل أي عناء. ومَن أراد السقوط لندفعه أكثر.

 

* كاتب عربي فلسطيني

المصدر: العربي الجديد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.