الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

هزّات الحرب الأوكرانية.. “الجبهة الغربية” لم تعد هادئة داخليّاً

سميح صعب *

حلّت المتاعب الاقتصادية على أوروبا دفعة واحدة، وجعلت دولها الرئيسية، ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإسبانيا تنوء تحت ثقل أزمات بدأت تفرض إيقاعها على الشارع بدرجات مختلفة؛ من المواجهات المحتدمة في بعضها إلى الإضرابات في بعضها الآخر إلى خلافات داخل الائتلافات الحاكمة.

بالطبع ليست الحرب الروسية الأوكرانية هي المحرك المباشر للاضطرابات الاجتماعية في غرب أوروبا، وإنما تلعب الحرب دوراً في زيادة الأعباء المالية على الحكومات التي لم تكد تخرج من التباطؤ الإقتصادي الذي فرضه وباء كورونا، حتى اندلعت الحرب الأوكرانية. وإذا ما أضيف إلى المشاكل الاقتصادية القديمة الناجمة عن زيادة المديونية إلى أرقام قياسية في بعض من هذه الدول، يصير المشهد أشد كآبة.

رُبّ قائل، إن الصدامات بين الحكومة الفرنسية والنقابات العمالية على خلفية إمرار الرئيس إيمانويل ماكرون قانون رفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة، لا علاقة مباشرة له بالحرب الأوكرانية، وبأن هذا الصدام ذو طبيعة محلية إلى حد كبير، ويصبُ في سياق سعي ماكرون الدؤوب إلى إنجاز ما في ولايته الثانية.

ومع التسليم بطغيان الطابع المحلي على المواجهة بين ماكرون والشارع، لا يمكن تغييب العامل الأوكراني مع موجة التضخم التي تجتاح فرنسا مثلها مثل دول أوروبية أخرى. وأزمة الطاقة ترخي بثقلها على البلاد والفرنسيون مطلوب منهم منذ اندلاع الحرب، التقنين في استخدام الكهرباء والماء. والكل يذكر كيف طلب ماكرون من الفرنسيين عقب الحرب مباشرة بأن “ينسوا عهد الرفاهية” الذي عاشوه لعقود والتعود على التعايش مع فكرة أن أوروبا في حالة حرب.

النيران التي تحاصر ماكرون في الداخل، تضاف إلى سلسلة من الإخفاقات على صعيد السياسة الخارجية. فالرجل لم يستطع الدفاع عن فكرة طرحها أول الحرب وتقوم على ضرورة الحوار مع روسيا لإيجاد نظام أمني جديد في القارة الأوروبية من ضمنه روسيا. وسرعان ما اكتشف أنه لا يمكن القفز على دور الولايات المتحدة في القارة، وأن “استقلال” أوروبا عن واشنطن فكرة وُئدت في مهدها، فما كان من ماكرون إلا الانتظام في طابور الدول التي ترسل الأسلحة إلى أوكرانيا لتمكينها من إلحاق الهزيمة بروسيا. المطلوب من فرنسا تقديم الدعم أما الحديث عن السلام فهذا شأن أميركا.. أو شأن الصين.

التوترات مع المستشار الألماني أولاف شولتس أضعفت ماكرون. شولتس ليس أنغيلا ميركل التي شكّلت رافعة للرئيس الفرنسي بات يفتقدها كثيراً الآن.. والالتفات الفرنسي إلى إيطاليا وإسبانيا وإنكلترا في الآونة الأخيرة، لا يُعوّض الشريك الألماني.

ماكرون يخسر أيضاً في أفريقيا “الحديقة الخلفية” لفرنسا. شركة “فاغنر” فرضت وجودها في مالي وبوركينا فاسو وأفريقيا الوسطى على حساب النفوذ الفرنسي. و”المواجهة” مع الرئيس الكونغولي فيليكس تشيسيكيدي الشهر الماضي، كانت بليغة ومعبرة عن تذمر الأفارقة من السياسة الفرنسية التقليدية. قال تشيسيكيدي رافعاً إصبعه في وجه ماكرون الزائر: “أنظروا إلينا بطريقة أخرى، باحترام كشريك حقيقي، وليس بنظرة أبوية وإملاءات”.

الحال مع الجزائر في حال مد وجزر منذ أن قال ماكرون عن الحكومة الجزائرية بأنها تعيش على “ريع الذاكرة” مع الفرنسيين. وحتى في ليبيا التي كان للرئيس الفرنسي سابقاً نيكولا ساركوزي، الدور القيادي في إسقاط معمر القذافي عام 2011، يكاد النفوذ الفرنسي يتلاشى أمام أدوار تلعبها تركيا ومصر والولايات المتحدة. وفي الشرق الأوسط “الصيني”، تحاول فرنسا بالكاد الاحتفاظ بموطئ قدم في لبنان.

وعندما استدار ماكرون إلى الداخل هرباً من مشاكل الخارج، إذ بالداخل ينفجر بوجهه على أعنف مما شهدته مواجهته مع “السترات الصفر” في ولايته الأولى.

ألمانيا.. الائتلاف الحاكم مهدد:

التوتر الاجتماعي في ألمانيا هو الآخر يفرض إيقاعه على سياسة المستشار أولاف شولتس، الذي لم يكد يتسلم منصبه حتى انفجرت بوجهه الحرب الأوكرانية. وكانت ألمانيا البلد الأوروبي الأكثر اعتمادا على موارد الطاقة الروسية. الاستغناء عن هذه الموارد يُكلّف البلاد أربعة أضعاف ما كانت تدفعه قبل حظر النفط الروسي. والانتقال إلى الطاقة البديلة يواجه صعوبات جمة. والعودة إلى الفحم الحجري والمفاعلات النووية يصطدم بمعارضة قوية من بعض أحزاب الائتلاف.

الخضات الاجتماعية التي تشهدها ألمانيا لها علاقة أوثق بتطورات الحرب الأوكرانية. والتضخم يدفع العمال إلى المطالبة بزيادات على الأجور. وفي أقوى اقتصاد أوروبي هناك حاجة متزايدة إلى الأيدي العاملة. هذا ما يجعل الاتحادات العمالية في موقع قوة في المفاوضات مع الحكومة من جهة، ويجبر الحكومة على فتح الباب أمام المهاجرين من جهة أخرى. إضراب قطاع النقل في 27 آذار/مارس الماضي شلَّ البلاد، وكان بمثابة إنذار لما يمكن أنه يعقبه من حراك اجتماعي.

كذلك، ارتفعت الأسعار في ألمانيا بشكل كبير منذ أكثر من سنة مع تضخم بلغت نسبته 8.7% في شباط/فبراير الماضي. وتندرج ألمانيا ضمن فئة الدول التي تشهد أعلى معدل تضخم في الإتحاد الأوروبي.

أضف إلى ذلك، الزيادة الكبيرة في موازنة ألمانيا العسكرية بعد الحرب، وخطة بقيمة 110 مليارات دولار لتحديث الجيش الألماني وتزويده بأسلحة أميركية حديثة وخصوصاً مقاتلات “إف-35” وصواريخ “باتريوت” و”توما هوك” الأميركية. ويقع العبء الأكبر من تزويد أوكرانيا بالدبابات على ألمانيا التي وافقت تحت الضغط الأميركي على التبرع بعشرات الدبابات من طراز “ليوبارد 2″ و”ليوبارد 1” لكييف وعلى السماح لدول ثالثة بإرسال دباباتها من هذا الطراز إلى الميدان الأوكراني. وقريباً، تعلن برلين عن مساعدة مالية لأوكرانيا بـ12 مليار يورو.

وتدب الخلافات داخل الائتلاف الحاكم المؤلف من الاشتراكيين الديموقراطيين والخضر والديموقراطيين الأحرار، حول مسائل تتعلق بالمناخ وتمويل الجيش وموازنة 2024.. صحيفة “دير شبيغل” تلخص وضع الائتلاف قائلة :”أينما نظرنا يبدو أن النيران مشتعلة داخل الحكومة”.

بريطانيا.. دعم تسليحي مفتوح:

بريطانيا التي تعاني من آثار “بريكست” وكورونا هي الأخرى دخلت دوامة الاضطرابات الاجتماعية وسلسلة لا تنتهي من الإضرابات والمطالبة بزيادة الأجور لمواجهة متطلبات المعيشة.

وارتفع التضخم السنوي في بريطانيا بشكل غير متوقع في شباط/فبراير إلى 10.4 في المئة، في نسبة قريبة من أعلى مستوى للتضخم في أربعة عقود، فيما لا تزال أسعار المواد الغذائية وفواتير الطاقة مرتفعة للغاية.

ويُخطّط القطاع العام في بريطانيا لسلسلة من الإضرابات الواسعة في نيسان/أبريل الجاري، لينضم بذلك إلى قطاعات أخرى تنظم إضرابات منتظمة منذ أشهر.

وبريطانيا هي من أكثر الدول الأوروبية مساهمة في الدعم التسليحي والمالي لأوكرانيا. والحرب زادت من الأعباء الاقتصادية على الدولة، وانعكس عدم الاستقرار السياسي بتغيير 4 رؤساء حكومات في ستة أعوام.

دول أخرى مثل إسبانيا واليونان وإيطاليا، تشهد بنسب متفاوتة احتجاجات وإضرابات بسبب التضخم.

الولايات المتحدة.. الكلفة الأكبر:

وليست الولايات المتحدة بمنأى عن الأزمات الاقتصادية. وأعاد إفلاس بنكي “سيليكون فالي” و”سيغنيتشر” الشهر الماضي، إلى الأذهان شبح الأزمة المالية التي نجمت عن إفلاس بنك “ليمان براذرز” عام 2008. الهزة الجديدة في القطاع المصرفي الأميركي، عزيت إلى تدابير اتخذها الاحتياطي الفيديرالي (البنك المركزي الأميركي) في الأشهر الأخيرة، ولا سيما رفع أسعار الفائدة للجم موجة تضخم هائلة في الولايات المتحدة، تفاقمت بعد الحرب الأوكرانية.

ومع أن السلطات المالية الأميركية سارعت إلى احتواء الأزمة المالية الجديدة وحصرها حتى الآن، فإن كثيراً من التساؤلات بدأت تثار حول كيفية تفادي تكرار أزمة 2008 في حال استمر الاحتياطي الفيديرالي برفع أسعار الفائدة في سياق سياسة الحد من التضخم.

وصدى الأزمة الأخيرة تردّدَ في أوروبا، مع مسارعة بنك “يو بي إس” إلى الاستحواذ على بنك “كريدي سويس” المتعثر، من أجل إنقاذ القطاع المالي السويسري. وفي ضوء هذه الأزمات بدأت كل دولة أوروبية بتحسس إحتمالات انتقال العدوى إليها وباتخاذ تدابير احترازية.

والولايات المتحدة التي يقع عليها العبء الأكبر في دفع تكاليف الحرب الأوكرانية والتي فاقت المئة مليار دولار في سنة واحدة، ستكون مجبرة على إنفاق المزيد مع استمرار الحرب.

الدعم الأميركي المتصاعد لأوكرانيا، يثير تساؤلات في المعسكر الجمهوري حول جدوى الاستمرار في هذا الدعم من دون وجود استراتيجية شاملة تأخذ في الاعتبار ضرورة الجلوس إلى طاولة الحوار. الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الأوفر حظاً في نيل ترشيح الحزب لانتخابات 2024، وعد بإيقاف الحرب “في غضون 24 ساعة”. وحاكم ولاية فلوريدا رون ديسانتس الذي يعتبر المنافس الجدي لترامب في الفوز بترشيح الحرب الجمهوري، أثار مؤخراً جدلاً في الولايات المتحدة عندما وصف الحرب الروسية-الأوكرانية بأنها “نزاع على الأراضي”، قبل أن يعود ويصدر إيضاحات هاجم خلالها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

سواء كانت التطورات الاقتصادية والمالية في الغرب وما يترتب عليها من هزات اجتماعية هي نتيجة عوامل ذاتية أو متصلة بالحرب الروسية-الأوكرانية، فإنها دليل في نهاية المطاف على أن جبهة الغرب ليست على ما يرام.

* كاتب وصحافي لبناني

المصدر: 180 بوست

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.