الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

خيارات نتنياهو الصعبة.. بين استعادة ماء الوجه وخطورة المغامرة بحرب جديدة

وديع عواودة

جاء القصف الإسرائيلي على غزة، قبل الليلة الفائتة، رداً على إطلاق نحو 70 صاروخاً من غزة ولبنان، في اليومين الأخيرين، رداً محدوداً نسبياً، رغم التهديدات بعقاب قاس، مقدمة أولى فقط، ومن غير المرجح أن تكتفي حكومة الاحتلال بها. ويبدو أنها تنتظر الفرصة العملياتية للقيام بعمليات اغتيال قيادات فلسطينية وعربية، في القطاع وخارجه، خاصة بعد عملية الأغوار، اليوم الجمعة، وفي ظل وجود انتقادات إسرائيلية لحكومة الاحتلال، ومزاودات عليها في ظل حالة انقسام سياسي غير مسبوق، وخلط الحسابات السياسية والشخصية بالاعتبارات العليا.

المشاركون في ائتلاف نتنياهو الحاكم سبق أن وعدوا الإسرائيليين بالحوكمة وباستعادة الأمن، بل كانت بعض الأحزاب، مثل “القوة اليهودية” و”الصهيونية الدينية”، قد حققت نتائج انتخابية كبيرة بعدما طارت على جناحي التحريض على الحكومة السابقة التي وصفت بالعاجزة، وبالاعتماد على “الإخوان المسلمين”، بسبب مشاركة “القائمة العربية الموحدة”، برئاسة منصور عباس، في دعمها.

لكن الرياح الفلسطينية جرت بما لا تشتهيه السفن الإسرائيلية، سفن نتنياهو وبن غفير وسموتريتش، فواقع الحال يعلمّهم أن للقوة حدوداً، وأن محاولة كسر إرادة الفلسطينيين وإذلالهم، وليس فقط تكريس احتلالهم وسلب حقوقهم، ستصب الزيت على النار المشتعلة أصلاً.

وجاءت عملية الغور، التي أودت بثلاث نساء، لتزيد من حرج وإرباك هذه الحكومة، بل تحولها بنظر الإسرائيليين أيضاً لما يشبه الكاريكاتير، فالواقع على الأرض ينسف التصريحات العالية ويعرّيها.

لا شك أن صور اقتحام الأقصى، وضرب النساء والشيوخ بالهراوات بشكل بربري، علاوة على تقييد أيادي الشباب المعتقلين في القدس، وإجبارهم على السير مطأطئي الرؤوس قد تركت مفاعيل كبيرة في وعي الفلسطينيين أينما كانوا، ودفعت لتشكيلة من الردود؛ من إطلاق منظم للصواريخ إلى عمليات فردانية متصاعدة.

المعارضة أيضاً تهدد بملاحقة “الإرهابيين”

ورغم إعلانه تأييد الحكومة أمام أعداء إسرائيل، وتأكيده على أن قوات الاحتلال ستلاحق “الإرهابيين”، اعترفَ رئيس المعارضة الإسرائيلية يائير لبيد، في حديث للإذاعة العبرية العامة، اليوم، أن ما تشهده البلاد هو نتيجة قيام رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بتحويل وزير الأمن يوآف غالانت إلى بطة عرجاء، ووضع “برميل البارود الذي يعرف بالحرم القدسي الشريف” بيد “وزير التكتوك الموتور مشعل النار” ايتمار بن غفير.

وتابع لبيد: “أرفض منع اليهود من زيارة “جبل الهيكل” (الحرم القدس الشريف)، فهذا من حقهم، لكنني كنت كرئيس حكومة أمنع دخول أي جندي للمكان دون إذن خطي مني بسبب حساسية المكان. علينا التصرف بحكمة وحسن تدبير، وليس بشكل فوضوي، كما هو حاصل اليوم”.

وانضم وزير الأمن السابق عضو الكنيست المعارض بيني غانتس للتهديدات التي أطلقها رئيس المعارضة يائير لبيد، بقوله، اليوم بعد عملية الغور، إن المؤسسة الأمنية ستضع يدها على المعتدين، وتعرف كيف تغلق الحسابات معهم، واختار غالانت تخفيف حدة الانتقادات للحكومة. وشذّت رئيسة حزب “العمل” المعارض ميراف ميخائيلي عن ردود بقية قيادات المعارضة بقولها إن هناك حاجة للبحث عن حل سياسي مع الفلسطينيين.

وفي سياق التهديدات والحسابات الإسرائيلية، نقل موقع “واللا” الإلكتروني عن مسؤول أمني رفيع قوله إنه “إذا تخوفنا حتى الآن من تردي الردع الإسرائيلي، فإنه تلقينا تأكيداً على ذلك، فها نحن نشهد المساس بالسيادة وتصاعداً بالإرهاب”، مهدداً بأن إسرائيل ستختار التوقيت لجباية ثمن مؤلم، وإرسال رسالة لأعدائها أن بيتها ليس مبنياً من خيوط العنكبوت”.

وفي حديث للإذاعة العبرية، انضم الجنرال في الاحتياط آفي مزراحي للانتقادات الموجهة ضد انتهاكات واستفزازات جهات إسرائيلية، من بينها المستوطنون، فقال ساخراً: “ينبغي التريّث في ذبح الجديان وتقديم القرابين، قبل أن يبنى أولاً الهيكل الثالث”.

يشار إلى أن الحرم القدسي الشريف على موعد مع انتهاكات جديدة، يوم الأحد القريب، بسبب نية سلطات الاحتلال فتح باب الحرم مجدداً لاقتحامات المستوطنين، وزيارة اليهود بسبب عيد الفصح اليهودي. ومن الأسباب الأخرى التي تدفع نحو المزيد من التوتر والاحتقان دعوة جديدة لقائد شرطة الاحتلال كوبي شبتاي للإسرائيليين بحمل السلاح، وهذه هي الأخرى محاولة إطفاء النار بصب الزيت عليها.

ذبح القرابين اليهودية

ورغم تبني الرواية الإسرائيلية بشكل عام الزاعمة أن الفلسطينيين حولوا رمضان إلى شهر إرهاب، وأن إيران تقف خلف التصعيد، ومن خلال التحريض، لكن عدداً من المراقبين والمحللين الإسرائيليين البارزين يتعاملون مع هذه الادعاءات بنقدية، ويقرّون بارتكاب الاحتلال أخطاء وانتهاكات تؤجّج نار الصراع.

في تحليله، قال المعلق السياسي البارز في صحيفة “هآرتس” نير حسون، اليوم، إن محاولات غلاة المستوطنين إدخال القرابين لداخل الحرم القدسي الشريف بمثابة بنزين، أما مشاهد ضرب رجال الشرطة للنساء والشيوخ في الأقصى فهي قد أججّت النار. وتبعه المحلل العسكري في الصحيفة عاموس هارئيل، الذي يشير لتحقق كل التحذيرات والتهديدات التي لم تأبه بها حكومة نتنياهو، بل ارتكبت حماقات في التعامل مع موضوع الحرم القدسي الشريف. وهكذا زميلتهما المعلقة اليساية رافيت هخت، التي تقول في انتقاداتها إن من نجح بهدم إسرائيل من الداخل سيقودها نحو الهاوية في ساعة حرب، وهذه إشارة لنتنياهو ووزرائه.

فوضى عارمة

 وعّبر رسم كاريكاتيري في صحيفة “هآرتس” عن روح هذه الانتقادات التي توجه الاتهام أيضاً لحكومة الاحتلال، وتشركها في تحمل مسؤولية التدهور الأمني الحاصل، وفيه تبدو حكومة نتنياهو السادسة تحتفل بمرور 100 يوم على تشكيلها، فيما تحيط بالكعكة والشموع حالة فوضى عارمة يطل فيها حسن نصر الله راكبا صاروخ وألسن اللهب تتعالى من الحرم القدسي الشريف، ومن الجليل ومن الداخل الفلسطيني، في إشارة لـ “وحدة الساحات”، وفي تل أبيب رجال شرطة يمتطون الخيول وهم يدوسون المتظاهرين في تل أبيب، إضافة لطاولات وكراسي مقلوبة متناثرة في كل جانب. ودعا هؤلاء، وعدد كبير من المعلقين لإسرائيليين، نتنياهو للكف عن الشجار الشخصي مع وزير الأمن يوآف غالانت في هذه الفترة الحساسة، وينتقدون عقده المجلس الوزاري الأمني– السياسي المصغّر بتأخير مريع (لم يعقد منذ شهرين).

وفي لغة ساخرة يقول المعلق السياسي الأبرز في صحيفة “يديعوت أحرونوت” ناحوم برنيع إن نتنياهو يعلم في قرارة نفسه جيدا لماذا لم يعمل على عقد اجتماع للكابينيت، فهو يعلم أن هناك ثلاثة وزراء من “مشعلي النار” المتطرفين يشاركون في هذا المجلس الوزاري المصغّر.

وكذلك المراسل العسكري في صحيفة “يديعوت أحرونوت”، يوسي يهوشواع، بقوله إنه قد تم توقع هذا التصعيد مسبقاً بدقة بالغة. منوهاً أن قادة المؤسسة الأمنية توقعوا التصعيد وحذروا المستوى السياسي منه مرة تلو المرة. وتابع: “مثلما كررّوا القول إن الأعداء قرأوا الانقسامات الداخلية الناجمة عن “محاولة الانقلاب القضائي” كعارض من عوارض ضعف إسرائيل فبادروا للتجرؤ عليها”. ووجّه المحلل العسكري في صحيفة “معاريف”، طال ليف رام، سهام انتقاداته لنتنياهو بقوله إن كل المعطيات التي يتشكل منها التوتر الأمني الأخير وُضعت أمامه كإنذار إستراتيجي، صاغه وزير الأمن، يوآف غالانت، وبدعم كل المؤسسة الأمنية.  وتابع: “هذا كلّه كان على طاولة نتنياهو بعد عملية مجدو الخطيرة، قبل نحو الشهر. لكن نتنياهو تأخر أسابيع، وها نحن نسدد بأثمان أكبر بكثير، ونتنياهو أيضاً سيدفع ثمناً سياسياً. ومرّت ثلاثة أسابيع سادت خلالها دوامة جنونية، وفي نهايتها اتخذ نتنياهو القرارات نفسها التي كان بالإمكان أن يتخذها قبل ذلك بوقت طويل”.

معضلة نتنياهو

وفي ظل كل ذلك يبقى السؤال الأهم؛ كيف ستتصرف حكومة الاحتلال برئاسة نتنياهو؟ وهل تكتفي برد محدود؟

إن توالي العمليات، التي أصابت إسرائيل في هيبتها ووعي مواطنيها، ستشجعها على محاولة الانتقام، وإشباع رغبة جهات إسرائيلية تطالب برد عنيف، واستعادة ما تسميه قوة الردع، ويبدو أنها تنتظر الفرصة العملياتية.

للوهلة الأولى، يبدو أن هذا التصعيد الخارجي ينطوي على هدية لنتنياهو لتصريف أزمته الداخلية نحو الخارج، لكنه يواجه هنا عدة مخاطر؛ أولها أن المتظاهرين الإسرائيليين مصممون على الاحتجاج، حتى في هذه الفترة المشتعلة، فقد دعت قيادة الاحتجاجات لمظاهرة واسعة في تل أبيب غداً السبت.

  والخطر الثاني الانزلاق لحرب تكون دامية للطرفين، خاصة إذا دخل “حزب الله” على خط المواجهة. كذلك فإن التصعيد والانزلاق لموجة تبادل نار كبيرة ستحرق أطراف نتنياهو نفسه، في ظل انتقادات المحللين أعلاه، وانتقادات معظم الإسرائيليين له بأنه تصرف بحماقة عندما لم يكترث بتحذيرات وزير الأمن غالانت من وجود تهديدات خطيرة، بل أقدمَ على حماقة بإقالته.

لكن قوة وتواتر العمليات والأحداث الأمنية، منذ شهر ونيف، والتي نالت من هيبة إسرائيل وحكومتها اليمينية (التي ملأت الدنيا وعيداً وتهديداً)، وتركت مفاعيل صعبة على وعي الإسرائيليين، ممن أخذتهم الصواريخ على حين غرة في عز احتفالهم بعيد الفصح، كل ذلك يدفع نحو القيام بعمليات انتقام، حتى لو جاءت بعد أيام بطريقة تحفظ لإسرائيل وحكومتها ماء الوجه، ودون الانزلاق لحرب لا تريدها إسرائيل أيضاً بسبب خطورتها وتبعاتها، لا سيما أن نتنياهو قد خبِرَها وجرّبها في حكوماته السابقة.

وما يثقل على نتنياهو، في مثل هذه الحال، هم وزراؤه حلفاؤه، فهم فاقدو الثقة بنظر معظم الإسرائيليين نتيجة تصرفهم بصبيانية واستفزازية، واعتقادهم بضرورة الانتقال من “إدارة الصراع” لحسمه بالنار والحديد، ولذا فإن خسائر إسرائيلية في مثل هذه الحرب ستدفع لحالة سخط واحتجاجات واسعة في الشارع الإسرائيلي من شأنها إسقاط حكومته. هذا علاوة على إشعال الجبهة الفلسطينية، وربما على طرفي الخط الأخضر، فالأقصى ما زال، منذ بدء الصراع، عاملاً فاعلاً مؤثراً معبئاً للفلسطينيين، داخل إسرائيل أيضاً، كما حصل في العام 2000 و2021، وما يزيد الاحتقان هو تمدد الاستيطان والتهويد وفقدان الفلسطينيين للأفق والأمل، في ظل تخلي إسرائيل حتى عن مجرد المفاوضات من أجل المفاوضات.

المصدر:  “القدس العربي”

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.