الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

أميركا وأوروبا وروسيا … إلى أين؟

حيّان جابر *

نشرت مجلة “ذا سبيكتاتور” الأميركية مقالاً لهنري كيسنجر، في 17/12/2022، عنوانه “كيف نتجنّب حرباً عالمية أخرى؟”، جدّد فيها وزير الخارجية الأميركي الأسبق دعوته إلى تغليب الخيار الديبلوماسي على العسكري، موضحًا مخاطر الأخير استراتيجيًا وأمنيًا وسياسيًا، ولا سيما بعد نجاح أميركا وأوروبا في هزيمة روسيا استراتيجيًا، عبر دعم أوكرانيا عسكريًا.

قارنت مقالة كيسنجر الصراع في أوكرانيا بالحرب العالمية الأولى، بهدف التحذير من تداعيات تأجيل وقف إطلاق النار، وتوقيع معاهدة سلام، السلبية، التي تطاول استقرار أوروبا قاطبةً وأمنها وازدهارها، معتبرًا الخسائر البشرية والمادية، في حال استمرار الحرب، باهظة جدًا، مقارنةً بحجم التغييرات المحتملة على الأرض. وأشار كيسنجر إلى أهم الإنجازات المتحققة متمثلةً في تسليح الجيش الأوكراني بمعدّات غربية حديثة ومتطوّرة، وارتباط أوكرانيا بأميركا وأوروبا استراتيجيًا؛ تحديدًا حلف شمال الأطلسي (الناتو)؛ خصوصًا بعد شبه اكتمال انضمام فنلندا والسويد إلى الحلف، معتبرًا أن توسّعه أصبح أمرًا واقعيًا لا تملك روسيا القدرة على منعه.

استنادًا إلى ذلك، طرح هنري كيسنجر مبادرةً للسلام، تبدأ بإعلان وقف إطلاق النار على الحدود التي كانت قائمة قبل بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، في 24/2/2022، معتقدًا أن روسيا اليوم قد تقبل التفاوض على المناطق التي استولت عليها أخيرا؛ لكنها لن تقبل التفاوض بشأن شبه جزيرة القرم. بعد ذلك، تعمل المفاوضات على تسوية النزاع بشأن المناطق المستولى عليها روسيًا. وفي حال فشل المفاوضات، عندها يمكن اللجوء إلى آلية دولية/ أممية تشرف على إجراء استفتاء شعبي في تلك المناطق، بغرض تحديد مصيرها، عملًا بمبدأ تقرير المصير.

تستهدف عملية السلام، وفق كيسنجر، تحقيق هدفين: حرية أوكرانيا، وإنشاء نظام دولي جديد، خصوصًا في أوروبا الوسطى والشرقية، يأخذ بالاعتبار أهمية الدور الروسي ومكانته، إذ ساهمت روسيا مساهماتٍ نوعيةً في تأسيس النظام الدولي واستمراره بشكله المعروف حاليًا، رغم سلبياتها الكثيرة، خصوصًا نزوعها إلى العنف، كما تملك روسيا ترسانة نووية هي الأضخم، رفقة أميركا. إضافةً إلى ذلك كله يحمل تدمير روسيا أو هزيمتها الكاملة مخاطر جمّة، قد تؤدّي إلى تفكيك روسيا وزيادة انتشار السلاح النووي، وصراعات عسكرية عديدة، داخل روسيا وعلى أراضيها، الأمر الذي يهدّد استقرار العالم، (أوروبا تحديدًا)، وازدهاره.

بنيت رؤية كيسنجر على فرضية مشكوك في صحّتها، بالحد الأدنى، مفادها اقتناع روسيا بالهزيمة الاستراتيجية، أي الفشل في تغيير النظام العالمي أحادي القطبية إلى عالم متعدّد القطبية، ومنع حلف الناتو من التمدّد، خصوصًا في أوكرانيا. وتشي التطورات الميدانية بعكس ذلك تمامًا، سواء المرتبطة بالموقف الروسي أو بمواقف أميركا وأوروبا وأوكرانيا.

استدعت روسيا في شهر سبتمبر/ أيلول الماضي قرابة 300 ألف جندي احتياط، وفق تصريحات وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، عملًا بمرسوم التعبئة الجزئية الرئاسي الصادر في حينه، لكن روسيا لم تعلن بعد عن انتهاء العمل بهذا المرسوم، الأمر الذي يفتح الباب أمام تعبئة ثانية، تقدّرها بعض التقارير بنحو 500 ألف جندي.

على الصعيد التقني، استعانت روسيا بالطائرات الإيرانية المسيّرة من دون طيار، منذ أكتوبر/ تشرين الأول الفائت، بغرض ضرب أهداف داخل الأراضي الأوكرانية، استهدفت، في معظمها، وفق التقارير الإعلامية الغربية، منشآت مدنية وبنى تحتية مثل شبكات توريد الكهرباء والطاقة، كذلك ذكرت صحيفة واشنطن بوست الأميركية، نقلًا عن مصادر استخباراتية أميركية وغربية، اتفاق روسيا وإيران على تصنيع الطائرات المسيّرة الإيرانية داخل روسيا.

تنظيميًا، عيّن وزير الدفاع الروسي شويغو، في يناير/ كانون الثاني الفائت، قائدًا جديدًا للمجموعة المشتركة للقوات في منطقة العمليات الخاصة، هو رئيس هيئة الأركان العامة فاليري غيراسيموف، الذي يتبوأ المكانة القيادية الثانية في التسلسل الهرمي العسكري الروسي بعد وزير الدفاع. أثار قرار التعيين تساؤلات وتوجسات كثيرة في ما يخصّ مسار العملية العسكرية، تحسّبًا لبدء هجوم روسي جديد في نهاية الشهر الحالي (فبراير/ شباط)، ونتيجة القلق من استخدام روسيا الأسلحة النووية، التي يتولى غيراسيموف مسؤوليتها على اعتباره رئيسًا لهيئة الأركان، ومن أسباب التخبّط الروسي ودلالاته، إذ أعلنت روسيا في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي تعيين سيرغي سوروفيكين قائدًا للمجموعة المشتركة للقوات في منطقة العمليات الخاصة، قبل استبداله الشهر الماضي بغيراسيموف، أي لم تمض سوى ثلاثة أشهر على قيادة سوروفيكين العملية الخاصة.

تبتعد القراءة الأميركية والأوروبية عن تلك التي طرحها كيسنجر، إذ تتواصل جهود دعم المسار العسكري حتى ضمان فشل روسيا استراتيجيًا وعودتها إلى ما قبل فبراير/ شباط 2022، كما تجسّد في الإعلان عن إرسال دبّابات غربية متطوّرة لأوكرانيا، مقدّمة من قرابة 12 دولة، أهمها أميركا وبريطانيا وألمانيا، على دفعاتٍ عدة، أولها أكثر من 120 دبابة. كما زوّدت أميركا وألمانيا وهولندا كييف بنظام صواريخ باتريوت الدفاعية، كذلك قد ترسل أميركا صواريخ بعيدة المدى في الأشهر المقبلة، في حين يبدو الموقف الأميركي والغربي ملتبسًا قليلًا بشأن تزويد كييف بطائرات حربية، إذ استبعد الرئيس الأميركي جو بايدن ذلك، واعتبرته المملكة المتحدة “أمراً غير عملي”، في مقابل تعليق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على الأمر بـ”ليس هناك أمر مستبعد”.

يعدّ تزويد أميركا والمعسكر الغربي عامةً أوكرانيا بمعدّات حربية متطوّرة غربية المنشأ تطورًا نوعيًا في الدعم الغربي، بعد أشهر عديدة من تحفّظهم في هذا الشأن، إذ زوّدت كييف بمعدّات حربية تعود للحقبة السوفييتية، عبر الدول التي كانت منضمة إلى حلف وارسو، في حين اقتصر الدعم الغربي في الفترة السابقة على معدّات عسكرية غير هجومية، ومساعدات طبية ولوجستية فقط.

من ذلك كله، يوحي منحى الصراع التصاعدي في أوكرانيا بأننا أمام صراع مديد، قد يمتد عامين آخرين. لذا من المبكّر الحديث عن إقرار روسي بالهزيمة الاستراتيجية، معلن أو غير معلن، نظرًا إلى إمكانات روسيا الكبيرة والمتعدّدة عسكريًا واقتصاديًا، إلى جانب نجاحها في توطيد شراكات استراتيجية وتفاهمات عديدة، أهمها مع الصين وتركيا وإيران والهند والسعودية ومصر والجزائر. كذلك لن تتراجع أميركا والمعسكر الغربي عن خيارهما الاستراتيجي الراهن، رغم النجاحات التي تحقّقت، لأن ثمن التراجع اليوم باهظ جداً على أوكرانيا، عبر هيمنة روسيا على قرارها السيادي، وعلى نحو خمس مساحتها قبل بداية الغزو، كذلك ثمنه، التراجع، باهظ على التحالف الغربي، من خلال تراجع الدور الأميركي عالميًا مقابل زيادة النفوذين الروسي والصيني، الأمر الذي يؤثر على مكانة الاقتصادين الأميركي والأوروبي، وعلى قوتهما أيضاً.

 

* كاتب فلسطيني

المصدر: العربي الجديد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.