الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

كتاب «مفترق الطرق… اليهودية ونقد الصهيونية»: بحث في نقد المرجعيات

رامي أبو شهاب *

يمكن القول إن الترجمة تعدّ جزءاً من عقل المترجم ووعيه، وهذا ما يمكن أن يصدق على عمل المترجمة نور حريري التي ترجمت «مفترق الطرق: اليهودية ونقد الصهيونية» للباحثة “جوديث بتلر” الصادر عن منشورات المركز العربي في الدوحة 2017. الكتاب يطرح أسئلة ذات طبيعة استقصائية، تؤطرها فرضيات تتقصد البحث بين المفاصل التي نستطيع من خلالها الفصل بين اليهودية والصهيونية، في سياق معقد حيث تبدو مفاهيم كالتاريخ ومفهوم الأمة والدولة جزءاً من هذه المعضلة، ولاسيما لدى عدد من المفكرين اليهود الذي يسعون إلى قراءة هذا الاشتباك بين هذه المكونات، ومدى تأثر كل منهما بالآخر.

الدولة ومفارقة المرجعية:

في الكتاب اختبار واضح لجدلية الخطاب الصهيوني في عدد من الفصول التي تتخذ بعداً تطبيقياً يحلل أدبيات عدد من المفكرين في إطار حساسية فكرة تشكّل الدولة، ومدى ما يمكن أن تتكئ عليه من طروحات تتعالق بالوجود الفلسطيني، وهنا تنتقل الباحثة ضمن غير تصور بُغية استنطاق الخيارات الفكرية التي صاغها عدد من المفكرين الصهاينة واليهود على حد سواء، ولاسيما تلك التناقضات التي وسمت مفهوم الدولة، وما يحتمله هذا من مغالطات أفرزها التفكير الصهيوني من ناحية توظيف المرجعيات التاريخية اللاهوتية، لتلفيق تكوين الدولة فتبرز الأفكار جزءاً من النهج المتغير تبعاً للسياقات التي وسمت هذا النشوء لدولة ارتبطت بالقوى الاستعمارية، وتأسست على ممارسة كولونيالية استيطانية.

لعل مفتتح تلك الفرضيات تتحدد بعدد من الكوابح التاريخية، التي تعوق أي محاولة لانتقاد دولة إسرائيل (الكيان الصهيوني) بوصف هذه العملية جزءاً من خطاب معاداة السامية، وهي الصيغة التي تحاول الكاتبة أن تفككها حتى تتمكن من جعل كتابها ضمن امتدادات لا تستجلب الاتهام، ومن هنا، فإن التكوين المقصدي يتحدد بانتقاد يهودي لقيمة العنف الذي تمارسه الدولة، لكن الأهم محاولة خلخلة بعض الأسس التي استقرت في أدبيات نشأة هذه الدولة، ومرجعياتها الفكرية التي تتقاطع بين اللاهوتي والعلماني والتاريخي والواقعي؛ تبعاً للتكوين البراغماتي الذي ميّز هذا الكيان في مراحل نشأته وتطور وجوده.

يتكون الكتاب من مدخل، وثمانية فصول تطرح مجتمعة معالجة تتصل بالمشترك والمتعارض والشائك بين نقد الصهيونية ومفهوم الدولة، وهذا يأتي انطلاقاً من مرجعيات تخضعها المؤلفة للمساءلة، كما نرى في المدخل الذي يتقصّى مفاهيم الشتات ومتطلبات تحقق الهوية اليهودية التي تتعرض لانتهاك ضمن التصورات الجديدة في إطار الدولة التي تدّعي مقولات العدالة والمساواة، في حين أنها تنهض على منظومات من الإقصاء والتحيز، والعنف، وهو ما لا يتوافق مع قيمية الدولة التي تبدو أقرب إلى ادعاءات كاذبة، وهذا ما يوجه النظر إلى تلك الأصوات أو التقاليد اليهودية المعادية للصهيونية بوصفها مرجعية لممارسة النقد ضمن التكوين المنهجي الذي تعتمده الباحثة.

تبقى إشكالية الشتات أو التشتت إحدى تلك المفاصل الأكثر جدلاً في دراسة هذه الحالة، فالشتات جزء من التكوين العميق للهوية اليهودية، التي سوف تتعرض للانتفاء بوجود الدولة، وهو ما يمكن نعته بالتطبيع، وهذا يتزامن مع فعل الترجمة للصيغة التي تمتد من الماضي إلى الحاضر، ولاسيما على مستوى اكتناه تلك الخطابات الدينية، وامتدادها في النموذج الحاضر؛ أي بوصفها جزءاً من خطاب الديمقراطية والعلمانية، ما يتطلب ربما التضحية بأحدهما على حساب الآخر، وهنا يتحقق التفارق بين نمط الدولة والأساس الديني، لنلاحظ صعوبة تعريف هذا المفهوم من لدن عدد من المفكرين، ومنهم حنة آرندت وباليبار، فضلاً عن مناقشة معضلة الثنائية القومية، وغيرها من القضايا ذات الطبيعة الشائكة.

نقرأ في الفصل الأول نقاشاً حول المهمة الضرورية والمستحيلة، وتتعلق بالمطلب الأخلاقي من منظوري إدوارد سعيد وليفيناس، ومفادها تعميق الحوار حول تلك الأطروحات التي تتعلق بحل ثنائية القومية عبر الاستناد إلى مقولات إدوارد سعيد في تعليقه على كتاب فرويد «موسى والتوحيد» وملاحظة جدلية التداخل بين العربي واليهودي، مع تتبع تلك المعادلة التي ترى أن الصهيونية استثمرت المحرقة بوصفها مبرراً. إنه فعل تكرار تاريخي للمعادلة عينها، ومن هنا يذهب الكتاب لبيان النقد اليهودي للصهيونية في أدبيات بعض المفكرين، وأهمها ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من ممارسات كولونيالية واضحة، لكن مع سؤال عميق وجوهري يتعلق بالوجود اليهودي والاعتراف به من قبل الفلسطيني، غير أنّ الباحثة تقرأ هذا على ضوء سؤال آخر يتعلق بكيف يمكن للفلسطيني أن يعترف بوجود من يمارس ضده ممارسات عنصرية استيطانية كولونيالية، كما أن معظم الحقوق لم تسترجع!

يمضي هذا الفصل في قراءة هذه التجاذبات من لدن مفكرين يهوديين هما: مارتن بوبر وليفيناس، ولاسيما من حيث طرح مبدأ التعايش الذي طرحه سابقاً إدوارد سعيد في مجال جدلي من حيث الموافقة أو الرفض، مع أهمية الإبقاء على هويات منفصلة كما ينص بوبر، في حين أن العدالة من وجهة نظر ليفيناس تتصل بمعضلة أخلاقية، ونقصد مبدأ الحكم والهيمنة، ما يقودنا إلى نمط استيهامي شديد الحساسية في بناء قيم مقاربة لمفهوم الدولة اليهودية، وشكلها العنصري الصهيوني في سياق مفهوم المشيحانية التي تسلخ الباحثة جزءاً كبيراً من المتن لمعالجة أثره المستعاد المثالي أخلاقياً، إذ تذهب الباحثة لمناقشة أفكار ليفيناس أو القضايا التي تدرس تاريخية الأفكار في سياقات محددة، ومعظمها يُعرّي بعض مواقع الإقصاء في فكر ليفيناس، أو الاستبعاد الممنهج لبعض مكونات الخطاب اليهودي في سياق الدولة.

يبحث الفصل الثاني ما يقوم به ليفيناس من تقويض لبعض المفاهيم عبر عنوان دال (غير قادر على القتل ليفيناس ضد ليفيناس) وهو ينهض على أسئلة أخلاقية تتصل بالعنف الممارس تجاه الآخر، ولايما محورية القتل، أو بمعنى آخر تغييب الوجه الآخر، ونعني الفلسطيني في مقولة نمط التعايش المفروض، فيبدو تحريم القتل جزءاً من معضلة هذا الوجود، أو أنه يحتمل مفارقة أو خرقاً لتلك المبادئ، كما ينطوي على الكثير من التناقض يشمل مستويات كثيرة تتعلق بمبدأ الدفاع عن النفس، بما في ذلك تكوين مفهوم الأمة في سياق الآخر الذي يعدّ جزءاً من مسؤولية أخلاقية لا انفكاك عنها، مع التأكيد على الإقصاء عبر محو يتجاوز الفيزيائي إلى الثقافي.

في الفصل الثالث نستعيد المقاربة عينها في قراءة مواقف والتر بنيامين ونقد العنف بوصفه جزءاً من تلك الانتهاكات الحقيقية، التي تشير إلى تقويض واضح أو خلخلة مفهوم الدولة، عبر انتهاك المبادئ الدينية والأخلاقية للخطاب اليهودي الذي ينهض على مبدأ التعايش، ووقوفه في مواجهة شكل الدولة، ولاسيما ماهية العنف القانوني في الأدبيات الصهيونية. يقدم بنيامين نقداً للعنف القانوني كما الشرعنة في هذا الإطار، فيحلل الكتاب هذه السياقات عبر أمثلة ممتدة تتقاطع مع آراء عدد من المفكرين، وجلها تبحث التداخل بين المرجعيتين الدينية والعلمانية لنخلص إلى نتيجة مفادها، أن المفهوم الديني لا يتحدد بالمستقبل، إنما هو جزء من شظايا زمن آخر شرخ الحاضر، وأحدث تأثيراً واضحاً على شرعنة الممارسة في سياق حركة تاريخية تنهض على دورة العقاب المستمر، وهنا تفكك الباحثة مبدأ الدفاع عن النفس الذي تمارسه الدولة الصهيونية تجاه الفلسطينيين، الذين هم في الأساس ضحية، في حين أن مبدأ الدفاع عن النفس، يتحقق حين يكون هناك هجوم واضح، وهو ما لا يستقيم، فالدولة الصهيونية هي من تمارس العنف الممنهج والمدعوم ضمن كتلة من الخطابات والنماذج اللاهوتية.

يبدو أثر بنيامين وتصوراته جزءاً من منظور الكتاب، إذ يستعاد في الفصل الرابع بعنوان «سياسة بنيامين المشيحانية» ويحمل خلاصات تؤطر مفارقة واضحة في الممارسة، حيث تتساءل الباحثة عن العلاقة مع غير اليهودي، والتي هي جزء من صميم الأخلاق اليهودية، وبناء عليه، فإنه كي تكون يهودياً ينبغي أن تقرأ في سياق غير اليهودي، بالتضافر مع مبدأ الشتات، ومركزية التعايش التي وسمت هذا الوجود ، لكن هذا التصور بات غير قائم، وهو ما نراه في امتداد هذا الفصل لنصل إلى أن ثمة علامات توافق بين مفهومي كل من بنيامين وسعيد، ويتحدد بإمكانية تقارب شتاتين على أرض فلسطين، لكن هذه الفكرة تحتاج إلى المزيد من النقد والبحث، كما يلاحظ – أيضاً – القلق والاضطراب عند طرح هذه الفكرة، ولاسيما عند استعادتها في الفصل الأخير من قبل بتلر.

في نقد الدولة: البحث عن حلول

في الفصل الخامس توجه الباحثة جل اهتمها لآراء حنة آرندت في ما يتعلق بالديانة اليهودية، ومدى تحقق صفة الصهيونية، علاوة على نقد مفهوم الدولة والأمة، منطلق بأن الصهيونية هي من أدخلت اليهودية إلى الحياة العامة، وعلى ذلك فإن تهمة معاداة السامية باطلة بداعي دخول الدين إلى الحياة العامة، مع الكثير من الملحوظات التي تتصل بنقد العنف، وقضايا الجنسية والتعايش، فنقد حنة آرندت للنموذج اليهودي الديني، وما أنتجه من جدل في ما يتعلق بخطابها حول محاكمة ايخمان في القدس، وما استجلب هذا من سخط عليها من قبل اليمين الصهيوني.

نقرأ في السياق عينه نقداً لمفهومي الدولة الأمة انطلاقاً من فقدان هذا الكيان الكثير من اشتراطات الأمة والدولة؛ ما يعني تهاوي وجوده في سياق معقد من المناقشة التي تتطلب تركيزاً عالياً للوصول إلى الخلاصات النهائية التي تستكمل في الفصل السادس، ولاسيما حول مفهوم التعايش التي تعد جزءاً من ماهية الديانة اليهودية، لا الدولة.

في الفصل السابع نقاش حول تنظير «ليفي» حول معسكرات النازية، ومنتج الذاكرة، وبالتحديد استثمار المحرقة في أدبيات الصهيونية، بما في ذلك محورية الصدمة، وما يتعرض له هذا النهج من نقد لغوي، يطال مبدأ الشرعنة، وهي صيغ تعدّ جزءاً من الذخيرة الخطابية التي تتمحور حولها نشأة الدولة، ومبررات وجودها.

يأتي الفصل الأخير ليكتنه محورية المنفى في فضاء المستقبل من لدن رمزين فلسطينيين، وهما سعيد ودرويش، غير أن جوديث بتلر تنتقد تصور سعيد القائم على ثنائية القومية بوصفه مضاداً للقومية، على الرغم من المطالبة باعتراف قومية فلسطينية مقبل قومية يهودية، ومن هنا فإن المعضلة من وجهة نظر ها تتحدد بكيفية تأسيس هذا الوجود ضمن سياق قانوني، وكيف يمكن مواجهة مشكلة الشتات، واللاجئين؟ وكيف يمكن أن يندرج هذا الوجود ضمن تمكين مفهوم الأمة؟ مع أهمية التفكير بحلول مختلفة، لكنها سرعان ما تتوجه لقراءة مفهوم الهوية الفلسطينية ممثلة بسعيد عبر نص شعري لمحمود درويش، ونعني قصيدة طباق، وفيها طرح عميق لأسئلة ذات بعد الاستشرافي للوجود والهوية الفلسطينية، وعلى ما يبدو، فإن هذا الفصل يبدو إضافة مفارقة في نهجها لمجمل الكتاب، ولا يحتمل اجتراحاً حقيقياً للوضع الفلسطيني المعقد، إلا بوصفه قراءة شعرية وحسب.

* كاتب فلسطيني أردني

المصدر: القدس العربي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.