الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

توطئة عن « تجربتي بين ثورتين»

أيمن أبو هاشم

  في وقت متأخر من العمر غالباً، يبدأ من خاض تجاربه في الشأن العام، بالتفكير في كتابة ما يعتقده ذا أهمية في إبلاغه للآخرين، ولطالما كانت المذكرات الشخصية، وكتب السيّر الذاتية، إحدى مصادر التعرّف على أحداث ووقائع وشخوص، نطلُّ من خلالها، وحسب زمنها، على مرحلة أو مراحل من التاريخ البعيد أو القريب، من حياة وتحولات مجتمعاتنا.     

  من جانبي، كانت مذكرات المرحوم “ أحمد الشقيري ”، الرئيس الأول لمنظمة التحرير الفلسطينية، مادة توثيقية ومعرفية غنية، لفهم وقائع مفصلية في تاريخ القضية الفلسطينية، ودور الأنظمة العربية في حقبة منتصف الستينيات، في الدفع نحو تأسيس المنظمة، والمناخات السياسية التي رافقت تلك الحقبة. كلما كنت أمضي في قراءة هذا النوع من أدبيات التوثيق، والنبش في خبايا قضايا وأحداث، لاتزال صلاتها ومفاعيلها مؤثرة في واقعنا الراهن، كانت تتراكم في ذهني ومخيلتي، أجزاء من الصورة الكليّة عنها، أحاول إعادة جمعها وتركيبها، على صعوبة تلك المهمة، لا سيما حين تتناقض روايات أصحابها حيال تجربة أو واقعة، تناولها كلٍ منهم من زاوية أو منظور مختلف عن الآخر. لم يفتنِ في هذا المضمار الكاشف عن تجارب فلسطينية وعربية وعالمية، من قراءة ما يندرج في الكتابة عن تجارب ساخنة بأحداثها الجارية، ومنها كتاب “عطب الذات” للدكتور برهان غليون، الذي يقدم فيه شهادته لأحداث عايشها من جانبه كمعارض للنظام السوري، ومن موقع مسؤوليته السابقة في المجلس الوطني السوري، الذي تأسس أواخر العام 2011. لم يُضف لي الكتاب معلومات نوعية عن أمراض المعارضة السورية ونخبها ومؤسساتها، إلا ما كشف عنه من مساومات وتفاهمات، جرت في كواليس لقاءات واجتماعات بعيدة عن الإعلام. لكن الدكتور غليون استخدم أدواته الفكرية الرصينة، وأفلح في تحليل مأزق المعارضة والثورة في شرطها الذاتي، ولو وضع تجربته الشخصية على محك النقد، خلال توليه باكورة مؤسسات المعارضة لفترة قصيرة، لكان قدّم مراجعة وإحاطة موضوعية غير منقوصة، تلامس الحقيقة من جوانبها كافة.

  منذ لجوئي إلى المانيا قبل عدة أشهر، ما انفكت تستحوذ على تفكيري، رواية ما عشته في حياتي، من تجربة شخصية طويلة قضيتها، في مسالك الثورتين والقضيتين الفلسطينية والسورية، ولطالما حدّثت نفسي، عمّا إذا كانت تلك التجربة الشائكة والطويلة، في محطاتها المترامية زمنياً وجغرافياً، وفي تباين ظروفها ومشكلاتها وتعقيداتها، تصلح من حيث القيمة والدروس والاستخلاص، للكتابة عنها من وحي رغبتي المكبوتة، بضرورة مكاشفة الذات، وتحرير أنايّ العالقة بين فجوات الحلم و الفكر والممارسة. إذ ربما يجد المهتمون بالبحث عن الإجابات العقلانية، حول أسباب ومعضلات فشل وتعثر تجاربنا، مادة حوارية تضيء على جوانب من بنية الوعي الفردي والجمعي، التي قد تفكك وتشرح كما أطمح إليه، وجوه مأزق الاستجابة والعمل المطلوب، لما نتصدى له ونكافح من أجله. لذلك أخشى حقاً أن أتصدى لأي عطب في ذاتنا الجمعيّة، من موقع الشاهد أو الضحية فحسب، فثمة مسؤولية ذاتية أيضاَ، لا تستثنى وأنا منهم، كل من خاضوا تجارب الثورات والعمل الوطني والسياسي، وفقاً لنسبية دورهم وتأثيرهم في معتركها، ومؤدى حصادها غير النهائي. بالعكس من ذلك لن اتخذ من جلد الذات على مقتضياته في بعض الأحايين، منهجاً محايثاً في تناول مسارات التجربة، كي لا يضيع تفاؤل الإرادة الذي طبع بعض محطاتها، في حمّى التشاؤم واليأس التي باتت تكتسح  بؤر الأمل وهوامش المبادرة.

  للدقة أكثر بدأت فكرة الكتابة عن تجربتي في الثورتين، عندما سألني شاب سوري خلال ندوة في غازي عنتاب التركية قبل عام ونيّف، عن وجهة نظري حول أوجه التشابه والاختلاف بين الثورتين الفلسطيينة والسورية، وأيهما تُعبّر عن  أفكاري وانتمائي وهويتي الفلسطينية السورية؟ كانت إجابتي من بنات رؤيتي الوثوقية عن وحدة المصير بين الشعبين والثورتين، مع توضيح لبعض أوجه التشابه والتباين بينهما؛ بمزيج من العاطفة والشعارتية، التي طغت على موجبات التقييم الموضوعي كما تفرضه الإجابة. أدركت ذلك عندما رحت استعيد جوابي وأتامله في مساء ذاك اليوم، وقفز إلى مخيلتي أثناء تأملي، في معنى ودلالات هذا السؤال الكبير والشائك، بعض ما جاء في كتاب “سقوط الجدار السابع” للكاتب “ حسين البرغوثي ”، الذي رحل مبكراً وهو في أوج عطائه الفكري والأدبي. كانت فكرة الكتاب الجوهرية، تقوم على شقاء اللاتطابق بين عالم الإنسان الداخلي وعالمه الخارجي، بين ذاته كما يجب أن تكون، وتأثير الخارج فيما هي عليه. هنا تكمن فريسة السؤال التي رماه السائل في وجهي، والتي فتحت أمامي نافذة كانت مغلقة، للتفكير والتساؤل عن مدى تأثير التجربتين على حياتي وحريتي في أن أكون كما أريد!! وهل استطاعتا تطويع عالمي الداخلي، كي أبقى في مدارات وشرانق كلٍ منهما!! وكيف يتحقق الخلاص الجمعي من مخاضات الخلاص الفردي، كما دعا إليه الفيلسوف “هاربرت ماركوز”، عندما يتشظى المشروع الجمعي، على حراب التسلط الفردي، في تجارب الثوراتّ وحركات التغيير السياسي والاجتماعي!!

  مع تزاحم تلك التساؤلات التي كنت أركلها في مراحل سابقة من حياتي، خلف ضجيج الحتميات التاريخية، وانتصار الحق على الباطل، ومع هذا الحشد المتراكم من أخطاء وخطايا الثورات، التي كان لديّ سابقة في التمرد على أحد تمثلاتها الزائفة، بفعل اعتمالات الثورة السورية في بداياتها على قناعاتي وتوجهاتي، اختمرتْ فكرتي عن الخوض في كتابة “ تجربتي ”، بما يتعدى المراجعة والتوثيق، إلى تحليل وفهم بواطن مشكلاتنا المزمنة، وما هي حدود الفصل والترابط ما بين مآلاتها ودروسها، ومصائر من يتنكبون دروبها. وصولاً إلى وضع انطباعاتي وآرائي الخاصة عن تجربتي في الثورتين، كمادة للنقاش والحوار مع المهتمين بهذه المحاولة، كواجب بالنسبة لي يحتمه الوفاء، لمن بذلوا أغلى ما لديهم من تضحيات من أجل حريتنا، وخروج مجمتمعاتنا إلى فضاءات التنوير والنهوض.

  لن أنتظر نشر هذا المشروع ريثما أفرغ من إنجازه كاملاً، بل سأقوم بنشره ضمن سلسلة من المقالات في ” موقع مصير“. جاعلاً بين بدايات تفتّح الوعي في مخيم عين التل “حندرات”  الذي ولدت وترعرعت فيه شمال مدينة حلب، إلى تأثر مراهقتي وأقران جيلي بتلك المرحلة من نهاية سبعينيات وثمانينيات القرن الفائت، فيما يتعلق بانعكاس دور الفصائل الفلسطينية على تشكيل وعينا الوطني والسياسي، وما تركته منافساتها وصراعاتها الحزبية والتنظيمية من تناقضات شعورية ونفسية، كانت تنمو فيها نزعات العصبية الفصائلية، وكادت في ذروة التوترات الفصائلية أن تغطي على العصبية الفلسطينية، التي ورثناها عن أهالينا اللاجئين، لتمييز أنفسنا وهويتنا الخاصة، عن المجتمع السوري المحيط بنا والمجاور لنا.

  من تلك المحطات المبكرة سأبدأ رواية ما عرفته، وخضته في الشأن السياسي والثقافي الفلسطيني، والتحولات السورية التي كانت تجري، وتؤثر بدورها على حياة السوريين والفلسطينيين بأشكال مختلفة. كان نشاطي الطلابي في جامعة حلب في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، بمثابة بوابة واسعة لمعرفة عوالم جديدة، تتجاوز حدود المخيم وإيقاعه البطيء، وعبرها مارست نشاطي الطلابي والنقابي، وصرت من قيادات العمل الشبابي الفلسطيني في مدينة حلب. تأتي بعدها محطة انتقالي بعد التخرج من كلية الحقوق إلى مدينة دمشق لاستكمال دراساتي العليا في جامعتها.

  عيشي في مخيم “ اليرموك ” قرابة العقدين من حياتي، توزع بين نشاطي السياسي والاجتماعي، فيما وفرت لي دراسة الماجستير، ومن ثم العمل في مهنة المحاماة، الاحتكاك بأوساط دمشقية وسورية من منابت وتوجهات متعددة.

  ولا أبالغ إذا قلت: أن تمركز عمل الفصائل الفلسطينية في اليرموك، بما فيه التنظيم الذي شغلت عضوية لجنته المركزية، وهو الجبهة الشعبية القيادة العامة، الحليف التاريخي للنظام السوري، والعلاقات التي جمعتني بمناضلين ومثقفين فلسطينيين من اتجاهات وطنية ويسارية وقومية، وتعرّفي على شخصيات سورية وفلسطينية معارضة للنظام، قضى بعضها سنوات طويلة في سجونه، كانت التجربة الأغنى في حياتي، التي ملأت قسطاً وافراً من شغفي بمعرفة ما أجهل، من جوانب خافية وحقائق مسكوت عنها، سببت لي صراعاً داخلياً مع خياري التنظيمي والسياسي الذي أتبناه، حتى كان الافتراق النهائي معه، بعد أقل من ثلاثة أشهر من اندلاع الثورة السورية.

  من ذاك التاريخ بدأت “ تجربتي السياسية في زمن الثورة السورية ”، وأخذتْ من جهدي ومتابعاتي، طيلة المحطات التي مرت فيها الثورة من تحولات عاصفة إلى يومنا هذا. ورغم طغيان هموم القضية السورية إنسانياً وسياسياً وفكرياً، على قناعاتي ورؤيتي للحياة من زاوية غير ايديولوجية البتة، فإن انكسار مشروعها ما بين البدايات والمآلات، وتناقضاتها الصارخة ما بين نقاء الفكرة، وعسف الممارسة، كان دافعاً حثيثاً لمراجعة طرائق تفاعلي وردات فعلي مع معطيات الواقع السوري غير المعهودة. دون تجاهل أو إهمال ارتدادات تلك التجربة على مواقفي من الحالة الفلسطينية، ومدى جدوى محاولاتي ورفاق درب آخرين، للربط بين المبادئ والمصالح المشتركة بين القضيتين الفلسطينية والسورية.

  و« أخيراً »، لأنني لم أقم بمراجعة تليق بزخم ودروس التجربتين، ومساءلة نفسي عن رضاها الذاتي حيال ما نشطت فيه، وعملت من أجله على أنه الصواب!! آمل أن تحمل “ هذه السلسلة من مقالاتي القادمة ”، ما يجعلني أقرب للموضوعية والحقيقة، في قراءة ومقاربة سياق التجربتين، وفيهما الكثير مما يُقال ويُبحث فيه، من علاقة الثورات في أوطاننا بحرية الإنسان والمجتمع، كما تبدو في الواقع، وليس في متون الخطابات والبرامج، إلى التباس مفهوم ووظيفة المؤسسة، في عمل الجماعات السياسية والمدنية. إلى ضريبة السكوت أو المواربة على الانحرافات السياسية، والفساد بكل أشكاله في تجارب الثورات، ومخاطر توظيف الأيديولوجيات الشمولية في خداع وتضليل الجمهور. ثمة قضايا وظواهر أخرى ستشغل مساحة من هذه السلسلة، تتعلق بالجهل المتبادل بين مكونات المجتمع السوري، وتكشف عن أنساق من العصبية، التي تصيب الروابط الوطنية في مقتل، وعن الشباب ومشكلات عزوفهم عن العمل السياسي، وتبدلات أدوار المرأة في مجتمع مضمخ بالمعاناة الإنسانية. وصولاً إلى أزمة النخب السياسية والمثقفة في زمن الثورة. مع وقفة لا بد منها للتحولات في مسار القضية الفلسطينية، ما بين تكلس الفصائل وعجزها، وصعود دور الشباب المستقل في مواجهة الاحتلال الصهيوني، ومشكلات وتحديات مستقبل الوجود الفلسطيني في سورية، ومدى اقترانه بتطورات القضية السورية ومآلاتها، وعلاقته الملتبسة بالسياق الوطني الفلسطيني، ومتطلبات إعادة تثقيل دورهم في القضيتين..

المصدر: موقع مصير   

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.