الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

جانب من الوجود الصيني في الشرق الأوسط

محمد المنشاوي *

خلال رحلته في الشرق الأوسط التي قادته إلى إسرائيل وفلسطين والمملكة العربية السعودية فى تموز/ يوليو الماضي، أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن أن بلاده «لن تبتعد وتترك فراغاً تملأه الصين أو روسيا أو إيران». وعلى الرغم من تفهم موقف بايدن بصورة عامة، إلا أن الشرق الأوسط أصبح مجالاً مفتوحاً يرحب بشدة بالدور المتزايد للصين في أغلب دوله.

وقد نما وجود الصين في الشرق الأوسط بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة في جميع مجالات الاقتصاد والدفاع والدبلوماسية ومظاهر القوة الناعمة. وترى بكين حالياً أن مصالحها في الشرق الأوسط تُخدم بشكل أفضل من خلال التركيز على التجارة والابتعاد عن الشؤون الأمنية والسياسية. ومع ذلك، فإن دول الشرق الأوسط تجر الصين بشكل متزايد إلى القضايا السياسية والأمنية، وهو ما سيدفع بالصين إلى لعب دور أمني أكثر بروزاً في المنطقة.

تتميز الصين بموقف فريد بين القوى الكبرى، إذ تنفرد بالتمتع بعلاقات جيدة مع المجموعات العرقية الأربع الرئيسية في المنطقة، العرب، والفرس، والأتراك، واليهود. ويرجع جزء من هذا إلى مبدأ السياسة الخارجية للصين المتمثل في «عدم التدخل في الشؤون الداخلية»، والذي يقربها من الأنظمة الحاكمة بعيداً عن سجلها الحقوقي والديمقراطي.

ولم يعد من المفاجأة أن تتقدم صورة الصين على صور الدول الغربية في استطلاعات الرأي التي تجري في دول الشرق الأوسط.

                                                                          *          *           *

يوفر نموذج التنمية الصيني، الذي أنتج نمواً اقتصادياً كبيراً مع الحفاظ على استقرار النظام، مثالاً جذاباً للدول الشرق أوسيطة خاصة عند مقارنته مع الدعوات الغربية الشكلية لإجراء إصلاحات سياسية وحقوقية. وفي الوقت الذي يوجد فيه أكثر من أربعين ألف جندي أمريكي بالمنطقة، يتوزعون بالأساس في الدول الخليجية، وصل الوجود البشرى الصيني في إمارة دبى الإماراتية وحدها إلى ما يقرب من ربع مليون شخص.

نشطت الصين في الساحة العربية والشرق أوسطية خلال العقود الأخيرة. ووازنت بكين بين علاقات معقدة وواسعة مع صناعة التكنولوجيا الإسرائيلية، وبين مصالحها في مصادر الطاقة العربية. كذلك وازنت الصين بين علاقاتها بالغريمين السعودية من جانب وإيران من جانب آخر.

تشارك الحكومة الصينية بانتظام المنظمات الإقليمية الرئيسية في الشرق الأوسط مثل مجلس التعاون الخليجي، وجامعة الدول العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، وترسل وفوداً دبلوماسية رفيعة إلى مؤتمراتها.

تمثل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حجر الزاوية في مبادرة الحزام والطريق (BRI) الصينية حيث مثلت 28.5٪ من استثماراتها عام 2021.

ولدى الصين «شراكات استراتيجية شاملة» مع خمس دول في منطقة الشرق الأوسط، (الجزائر ومصر وإيران والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة) و«شراكات استراتيجية» مع سبع دول (العراق والأردن والكويت والمغرب وعُمان وقطر وتركيا)، وخلال السنوات الماضية، وقع عملاق التكنولوجيا الصيني ‘هواوي’ عقد شبكات الجيل الخامس G 5 مع 12 دولة شرق أوسطية.

                                                                          *          *           *

تاريخياً لم تلعب الصين دوراً هاماً في سياسات الشرق الأوسط منذ التأسيس الحديث لها منتصف القرن الماضي، وتمحور دور الصين في تقديم دعم معنوي لحركات التحرر الوطني العربية من الاستعمار الغربي بعد الحرب العالمية الثانية، وتأييدها العام للحقوق الفلسطينية والعربية في صراع الشرق الأوسط. وفي المقابل دعمت الدول العربية بصفة عامة جهود الصين في الحصول على مقعدها بالأمم المتحدة ومن ثم مجلس الأمن وحق الفيتو خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. وعلى الرغم من تراث الاستعمار الغربي للدول العربية، وعلى الرغم من دور دول مثل بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة في إنشاء ورعاية إسرائيل، اختارت الدول العربية التقرب من الغرب ونموذجه الاقتصادي والثقافي، إلا أن هذا الواقع قد لا يصمد أمام ما تشهده الصين من تطورات متسارعة والتي ستصل تبعاتها للدول العربية. من ناحية أخرى، لم يعد بإمكان الصين تجاهل هذه المنطقة الغنية بثرواتها الطبيعية خاصة مصادر الطاقة اللازمة لاستمرار تقدمها من بترول وغاز، ولا تستطيع كذلك تجاهل السوق الاستهلاكية العربية الواعدة والمتزايدة باستمرار، من هنا لن يستطيع العرب وجيرانهم تجاهل الصين طوعاً أو كرهاً.

ويؤدي التبادل التجاري الضخم بين دول المنطقة والصين إلى تغير في وجهات النظر حول ثقافة الصين واقتصادها وسياساتها السياسية بما أدى إلى زيادة الاهتمام بدراسة اللغة الصينية. ويشعر عدد متزايد من رجال الأعمال في الشرق الأوسط أن تعلم اللغة الصينية ضروري لخدمة مصالحهم التجارية المستقبلية.

تنتشر معاهد كونفوشيوس- وهي منظمات تمولها الحكومة الصينية لتعليم اللغة والثقافة الصينية في الخارج- بالفعل في لبنان، والأردن، وإيران، وإسرائيل، ومصر، والمغرب. وتعكس خطوات الصين الاقتصادية بالاستثمار في مناطق حرة صناعية أو في إنشاء شبكات متنوعة من مشروعات البنية التحتية طموحاً كبيراً في علاقاتها المستقبلية بالدول العربية.

                                                                          *          *           *

ليس من المبكر أن نقول إن الصين ستتمتع بنفوذ كبير بين الشعوب العربية، لكن لا يجب أن يُفهم من ذلك أن الصين ستزيح النفوذ الغربي (أوروبي ــ أمريكي) من الدول العربية لتحل مكانهما في أي وقت قريب.

وعلى الرغم من وجود أسس جديدة للقوة الناعمة الصينية، فإن تأثيرها ما زال محدوداً، ويرجع ذلك لعوامل تتعلق باللغة وحواجزها، أو ربما يرجع لعدم احتكاك العرب أو اقترابهم من اللغة والثقافة ونمط الحياة الصيني.

لا يعرف العرب الكثير بعد عن المؤسسات التعليمية الرائدة في الصين، على عكس الحال مع الحالة الغربية، ولا يعرفون كذلك أسماء مشاهير الفن والثقافة الصينية في حين يعرفون نظراءهم الغربيين. من هنا قد يستمر الميل العربي للغرب في المستقبل القريب، إلا أنه من سوء التقدير توقع استمرار هذا الاتجاه على المدى الطويل. نعم تتحدث النخب العربية اللغة الإنجليزية وربما الفرنسية بطلاقة، لكن مع ذلك عليهم بدء الاستثمار الجاد في مدارس اللغة والثقافة الصينية.

* كاتب صحفي مصري متخصص في الشؤون الأمريكية

المصدر: الشروق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.