الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

كتاب «أزمنة مثيرة» لجيمس فِن: العناية البريطانية باليهود… الغاية والمبرر

رامي أبو شهاب *

في كتاب بعنوان «أزمنة: مثيرة وقائع من سجلات القنصلية البريطانية في بيت المقدس 1853- 1856» من منشورات المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ترجمة جمال أبو غيدا، نطالع ما خطه القنصل البريطاني جيمس فن أثناء عمله في فلسطين، إذ يلاحظ بأن حضور هذه الشخصية في زمن ومكان محددين، بدا للكثيرين استثنائياً من حيث الأثر، كونه يحيل إلى فعل تحول يتصل بتموضع المسألة الفلسطينية، كما أنه يكشف الكثير من رؤى هذه الشخصية، ودورها في تلك الفترة، في حين أن الكتاب ينضح بالكثير من المعلومات التي تؤرخ لفلسطين في ظلال الرؤية التي يمكن أن نعدها نموذجا استشراقياً.

أن يضع جيمس فِن هذا الكتاب الضخم قد يقودنا إلى أن الرجل كان يعي الدور الذي اضطلع به، في منطقة قاربها الكثير من الجدل، لكن ثمة ما هو أهم، ونعني إحالة متواريات كامنة في الوعي، على الرغم من أن القنصل البريطاني لا ينتمي بصورة مباشرة إلى المجال الاستشراقي، غير أنه لم يكن بعيداً عن ظلاله، إذ يمكن القول إن قراءته لفلسطين وتمركزها في الوعي الاستعماري؛ ينطلق من إيمانه بأن دوره يعد جزءاً من فعل التمهيد لولادة الكيان الصهيوني، وهو في مجمل كتابه يرى هذا المكان ضمن هذا المنظور، القائم على الاستيهامات ذات المرجعية التوراتية بخصوص هذه الأرض.

فلسطين: سياق مثير

يعلق الكتاب في إحداثية زمنية محددة، حيث تواكب حدثاً محورياً ونعني حرب القرم، غير أن الكتاب، على الرغم من أنه يأتي على ذكر هذه الوقائع، لكنه يبقى أكثر التصاقاً بالمكان، وهنا يبدو في كثير من جوانبه أرشيفيا، لكنه يبدو متصلاً بفعل سردي يلقي الضوء على الحدث، من وجهة نظر تأويلية، فتبدو التعليقات على الأحداث والسكان، مرتهنة في بعض المواقع لنمط التمثيل، وفي كثير من الأحيان تسقط في تأويلات تكمن في ذهن المؤلف.

يبدو الكتاب معنياً بتأطير تحليل صراع المجموعات الدينية، وعلاقتها بالمكان، ونعني مدينة القدس، وهنا نرى مدى ازدحام مرجعيات هذه المدينة، كما الصراعات الدائرة بين الطوائف المسيحية، وموضع اليهود، مع بيان أثر الوجود الأصلي للعرب المسلمين، وتجاهل الإشارة الواضحة لنعتهم بالفلسطينيين مع جملة من التمثيلات الاستشراقية: «أول ما سيتبادر إلى الذهن، هو أن هؤلاء المسلمين يشكلون الغالبية العظمى من السكان، ويتألفون أساساً من فئة ذات نفوذ من العرب وأبناء البلاد من السوريين.. ويطلق عليهم اسم البلديين، وغالبية عظمى من الفلاحين، وأخيرا عرب الصحراء الأجلاف كافة «البدويين» وتشترك هذه الفئات الثلاث بكونها تدين بالديانة الإسلامية (محمديين) اسمياً على الأقل».

لكن ما يلفت الانتباه نبرة الوصاية التي يمارسها الغرب من مختلف الأقطار الأوروبية على بيت المقدس، مع التعريض بواقع الدولة العثمانية المتهالك، بينما القنصل البريطاني يبدو مهموماً بالدفاع عن مجموعات محدودة من الطوائف اليهودية التي تسكن المكان بداعي ما تعانيه من اضطهاد.

يتمحور الكتاب حول إعادة تكرار محورية الحماية المسيحية للأماكن المقدسة، ولا سيما مع بيان جدلية العلاقة مع رجل أوروبا المريض، كما في الفصل الثالث المخصص للممثلين الأوربيين، وهناك إشارة للمعاهدة التي أبرمتها فرنسا مع الدولة العثمانية، وما أثارته من استياء أو غضب في العالم المسيحي، غير أن الكتاب سرعان ما يعلل بأن هذه الاتفاقية، بدت أقرب إلى نهج تجاري، بالتوازي مع بروز طابع عقلاني للتعامل مع الدولة العثمانية، ما أثار في ما بعد توجهات الكثير من الدول الأوروبية التي جنحت نحو هذ النهج، وهنا نلمح شيئاً من الضيق في نبرة الخطاب، أو تشنجاً تجاه هذا الأمر، وهو ما يمثل اختزالاً للكثير مما أتى في الكتاب.

لا يمكن أن نقدم قراءة شاملة لكتاب ضخم يقع في (1047صفحة) لكن ثمة علاقة عكسية بين السنوات المحدودة التي يشملها الكتاب، وحجم ما ينطوي عليه من معلومات ووثائق، فالكتاب محدد بثلاث سنوات فقط، وهي المدة التي يسعى الكاتب إلى اجتزائها من سياق زمني ممتد، بيد أنه يلاحظ تمكين الفعل الخطابي الكتابي، الذي يتقصد تقديم قراءة للنموذج القائم على الصراع في هذه المدينة، وشيوع الفوضى، مع التركيز على دوائر العنف، والظلم والاضطهاد تجاه الأقليات، ويعني اليهود بشكل خاص، وكأن ثمة تمهيداً لخلق مسوّغ سينتج عنه بعد أكثر من نصف قرن، انتداب أو استعمار فلسطين، لنخلص إلى مبادئ التشكيلات الخطابية المتصلة بنماذج الاستشراق الاستخباراتي، في أحد تعريفاته الشائعة في أدبيات الاستشراق.

في الأقسام الأولى من الكتاب نقرأ ما يُعضد بعض ما ورد من كتاب التاريخ، الذي يتصل باستيلاء الكنيسة على عدد كبير من الأراضي، ومن ثم أسهمت ببيع بعضها لليهود، وهنا نلاحظ أن الكاتب يؤكد على جزئية سعي الكنيسة لشراء الكثير من العقارات والحوانيت والأراضي، ضمن بيان يوضح آلية العمل التي تميزها، وتنظيمها كما تتضح من الصيغ الوثائقية المتضمنة في الكتاب حيث جاء: «إلا إننا ينبغي أن نقول هنا إنه علاوة على حفاظها على ثرواتها وعقاراتها القديمة من دون نقصان، فقد دأبت هذه الكنائس في السنوات الأخيرة على تطبيق خطة تقضي بشراء أكبر عدد ممكن من البيوت والحوانيت والأراضي الخلاء، وحتى أجزاء منها.. في أنحاء المدينة كافة من دون تمييز، إلى درجة صار من المعتقد فيها أن أكثر من ربع المدينة قد صار ملكاً حراً وحصريا لها».

يتكون الأرشيف من كتابين: الأول يحتوي على قسمين: الأول الفترة التي سبقت إعلان الحرب، والثاني يغطي من زمن إعلان الحرب حتى غزو جزيرة القرم. في حين يتكون الكتاب الثاني من غزو جزيرة القرم حتى إحلال السلام. في الكتاب الأول نقرأ عن المسألة الشرقية، واقتراب الحرب في القرم، ومن ثم يتحدث عن أطراف النزاع، ضمن الطوائف المسيحية، ومن ثم يتناول دور القنصليات الأوروبية في القدس، بالإضافة إلى أوضاع اليهود واضطهادهم، مع أهمية تقديم الحماية البريطانية لهم، يعقب ذلك حديث عن عموم السكان المسلمين في فلسطين، ومن ثم أحوال البلاد، وفي القسم الثاني نقرأ عن الأوضاع بعد جلاء الحامية العسكرية التركية، وتفشي المجاعة، وحكم يعقوب باشا، ومن ثم عودة للحديث عن اضطهاد اليهود عام 1854. وفي القسم الأخير نلاحظ استمرار السياق عينه من حيث التركيز على أحوال البلاد عامة، لكنه سرعان ما يستعيد مرة أخرى الحرص على بيان أوضاع اليهود، وكأن ثمة عناية مفرطة بهم، ومن ثم ينتهي الكتاب إلى انتهاء الحرب وإحلال السلام، ليعود مرة إلى ذكر الاقتتال بين الطوائف في كنيسة القيامة. ولعل هذا الفيض الذي يمارس تنظيماً خطابياً على محورية الاقتتال، يشي بأن تكرار الحدث يتعالق بإيجاد نظام ينفي النظام القائم حالياً ونعني الحكم العثماني.

الوجود اليهودي: مسوغ وظيفي

وهكذا نرى أن ثمة رؤية ما تحكم ترتيب هذا الأرشيف على المستوى الخطابي، وهي تتقصد ثلاثة محاور تبدو الأكثر هيمنة ضمن ناحية دلالية، وفيها نرى أن التركيز على تهالك النظام القائم في المدينة، كما تسنده الصراعات، التمكين للدور البريطاني ضمن مركزية الوجود اليهودي، ولهذا نقرأ الكثير من الإشارات المعمقة التي تهيمن على قسط كبير من الكتاب، ونعني الاضطهاد الممارس ضد اليهود من قبل السكان، أو الطوائف الأخرى، وجزء كبير منها يبدو على قدر كبير من المبالغة في بعض الأحيان، مع نزعة تقترب من التعاطف المطلق مع اليهود، على الرغم من أن الفصل الأخير وضع من لدن المحررة، غير أنه يعكس شيئاً من مقصدية الكتاب، التي تتصل بفكرة البحث عن أمل جديد لخلاص المدينة من هذه الفوضى، فيعنون الفصل بعبارات: «آمال واعدة لم تتحقق ـ فرص حدوث بعث تركي جديد».

يشار إلى أن ثمة الكثير من الوقائع التي يسردها الكتاب، تنمّ عن اهتمام واضح باليهود، ومنها ما ذكره حول قيام المسيحيين بإصابة طفل يهودي بحجر، وما نجم عن ذلك من نزاع خطير، نتيجة اتهام اليهود باستخدام دماء المسيحيين لإقامة شعائر دينية في عيد الفصح اليهودي، وما كان في ما بعد من مناقشة من أدوار للقنصليات بغية التحقق في هذا الأمر، مع محاولة تبرئة اليهود من هذه التهمة، لكن يتضح في هذا الخطاب مدى الحرص على الدفاع عن اليهود بصيغة تبرز طابعاً ذاتياً، حيث يقول جيمس فن: «ومجدداً في العام ذاته، وجدت نفسي مجبراً على التدخل للدفاع عن اليهود، بعد أن تعرض سولومون أغالي، وهو يهودي، وبينما كان مسافراً إلى يافا ليلاً بصحبة بغال مسلم، لحادث سرقة نتج عنه مصرع الاثنين على قارعة الطريق، وكان كلاهما من الرعايا الأتراك «العثمانيين» وقد أثار الحادث ردود فعل عنيفة، إذ وصل للباشا تقرير وشاية كيدية مفاده، أن الحاخام الأكبر قام بالتحريض على الجريمة لأسباب شخصية تخصه».

يتخذ الموضوع اليهودي جزءاً كبيراً من هموم الكتاب، مع الإشارة إلى الدعم الذي يتلقاه اليهود من يهود يعيشون خارج فلسطين، مع إشارات تتصل بإيمان ميز اليهود «السفارديم» إذ يشير الكاتب إلى ملحوظتين غربيتين: الأولى الاعتقاد بأن بيت المقدس لم تزل ملكاً خاصاً بهم، والثانية محاولة سك نقود أو ما يوازي حق دولة بإصدار عملتها الوطنية، وهذا النهج يصدر عن استيهامات دينية توراتية، كما يؤكد الكاتب، مع إيمان عميق بهذا.

هذا الإحساس بالمسؤولية تجاه اليهود يبدو نسقاً متواتراً في الكتاب، فلا جرم في أن يصف جوني منصور، الذي وضع تقديم الكتاب بأن هذا الفعل من التأسيس الخطابي من قبل القناصل ينطلق من مهمتهم التي تتحدد بإعداد تقارير عن الحياة اليومية، والوقائع كي تكون مصدراً لمنهجيات تذلل في ما بعد الاستيلاء على تركة الدولة العثمانية، لكن في حالة فلسطين كان هنالك الإحساس بالمسألة اليهودية، إذ بدا رؤية مبكرة تنطوي على بذور استراتيجية الاستيطان، الذي شجعته بريطانيا حتى قبل قيام الحركة الصهيونية، ولتكون القنصلية البريطانية في القدس إحدى أدوات تسهيل العميلة الاستعمارية عبر اتخاذ حماية اليهود مسوغاً للتدخل البريطاني في مواجهة الحماية الفرنسية للكاثوليك، كما الحماية الروسية للأرثوذكس – كما يوضح جوني منصور- الذي يرسم خطوطاً واضحة لحضور جيمس فن في سياق عملية التبشير الديني، ولاسيما عبر التأكيد على توثيق العلاقة العضوية بين بريطانيا واليهود من منطلق ديني.

وفي الختام فإن هذا الكتاب يزدحم بالكثير من المعلومات والوثائق، كما تمثيلات السكان القائمين في بيت المقدس أو فلسطين، بالتضافر مع أنظمة التفكير تجاه هذا الحضور البريطاني المثير للجدل، وما تمخض بعد ذلك من تداعيات على عموم فلسطين، ومنها وعد بلفور الذي كان نتاج هذه العملية التي نشأت عن وعي استعماري عميق.

* كاتب أردني فلسطيني

المصدر: القدس العربي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.