الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

ما بين حرب أوكرانيا والمأساة السورية: مقارنة سوسيولوجية

نجيب جورج عوض *

يعلمنا علم الاجتماع التاريخي بأنَّ النفس البشرية تكون عرضة للتشويه والتحطيم بل والتبهيم (من بهيمية)، في سياق حالات النزاع والحرب والصراع بين أفراد المجتمع والبلد الواحد، حين يعمل طرف من أطراف جمهورٍ ما على التنكيل بأطرافٍ أخرى من نفس الجمهور، أكثر بكثير، وبشكلٍ أعمق جداً، من تعرضها لتلك النتائج في سياق حالات النزاع والحرب بين البلدان، حين تقوم دولة ما بمهاجمة دولة أخرى وتدخل معها في حرب أو صراعٍ دموي. هذا هو الفرق، مثلاً، بين ما تمر به أوكرانيا في حربها ضد روسيا اليوم، من جهة، وما مرَّت به سوريا، ومازالت غارقة فيه، خلال العشر سنوات الماضية، من جهة أخرى. يتعرض الشعب الأوكراني لأقسى أنواع الظروف غير الإنسانية على يد الجيش الروسي الذي اجتاح البلد ومازال يعمل فيها تدميراً وقتلاً. إلا أنَّ الشعب الأوكراني بحد ذاته يقف قوياً ومتماسكاً كشعبٍ واحدٍ مشحونٍ بأعلى طاقات الروح الوطنية والقومية، وبطاقات التعاضد والتآخي بين أفراده (كما لمست من اللاجئين الأوكرانيين الذين قابلت العشرات منهم في فيينا). سيخرج الشعب الأوكراني من حربه هذه قوياً ومتماسكاً، وربما أكثر توحداً وبمشاعر تعاضد وتآخي وتعاطف عميق مع باقي إخوته وأخواته في المجتمع لأنه، من وجهة نظر سوسيولوجية، وقف معاً كشعب واحدٍ ضد عدو خارجي، ضد عنصرٍ غريب من خارج إطار وجوده البشري والتاريخي. هذا ما تقوله لنا عودة شعوب أوروبا وخروجها من الحرب العالمية الثانية وتمثيلها اليوم لأرقى المجتمعات البشرية قيمياً ومجتمعياً وجمهوراً ودولياً.

على العكس من هذا، تُنمذِج الحالة السورية مثالاً مضاداً تماماً يبين لنا انحلال كافة أنواع الحساسية البشرية والأخلاقية وتحلُّل جميع أنماط التكافل الاجتماعي والتعاضد الإنساني بين أطراف المجتمع السوري لدرجة ما عاد فيها الناس يعكسون في حياتهم أي نوع من أنواع الشعور الإنساني بالآخر أو التعاضد مع آلامه أو حتى الشعور الواعي والفاعل بأزمات وظروف عيش الفرد الوجودية الخاصة، وحتى إنكار الوجود في حالة مأساوية لا إنسانية، والإصرار على ممارسات حياتية يفعلها الناس عادةً حين تكون حياتهم طبيعية. والسبب في هذا أنَّ الشعب السوري لم يتعرض لحرب وعداء من طرف خارجي مضاد حاربه من خارجه، بل وجد نفسه يقف وجهاً لوجه في أتون مأساة شعواء شاملة وبربرية قام بها جِهاتٌ وأفرادٌ من ظهرانيه، جهاتٌ تمثِّلُ الدولة التي يُفترض بها أن تحمي هذا الشعب وتخدمه وتدافع عنه بل وتفتديه وتحافظ على قيمه وروحه البشرية، لا أن تضع في وجهه آلة قتلٍ ودمار اقتناها النظام المذكور بما سرقه من شقاء وكَد وتعب هذا الشعب عينه وبدعوى حمايته من أي عدوٍ خارجي. وجد السوريون أنفسهم وجهاً لوجه مع عدو داخلي أكثر وحشية وبربرية ودموية من أي عدوٍ خارجي، عدوٌ من قلب هذا الشعب ومن عضد تلك البلد، أي يعرف من أين تؤكل كتفها ونقاط تفتيتها وتدميرها من داخلها. لم يقف السوريون مثل الأوكرانيين كبنيانٍ مرصوص موحَّد وكشعبٍ متعاضد ومتماسك خلف دولته، بل وجد نظامه الحاكم يقف في مواجهته ويعمل على قتله إما جسدياً أو إنسانياً أو معنوياً، محطِّماً كل أواصر التآخي والتكافل والتعاضد المجتمعي التي بدونها لن تقوم قائمة على الإطلاق لهذا الشعب.

لعل من أبشع مظاهر تحطُّم النفس البشرية وتدمير الإنسان السوري التي شهدناها مؤخراً كانت تلك التي ترافقت مع كارثة الزلزال الهائل التدمير الذي انتكب به كل من جنوب وسط تركيا وشمال غرب سوريا مؤخراً. من يتابع أخبار تعامل السوريين مع مواقف النظام المستبد في دمشق تجاه تبعات الكارثة لا يمكنه إلا أن يتوقف سوسيولوجياً بتمعُّن أمامها ليرى فيها تعبيراً جدياً عن تشوُّه النفس البشرية وتوحُّشها التام في المشهد السوري. لقد تعاطى النظام مع الكارثة باستهتارٍ ولا مبالاةٍ وتهكُّمٍ تثير القرف والاشمئزاز وتدعو للهلع من توحُّش وتهتك القيم عند ممثلي النظام. فهذا الحكم البربري أمر مؤسساته الإعلامية والحكومية والعامة بالصمت حيال الكارثة ومتابعة نشاطاتها كأن شيئاً لم يكن وكأنَ كـارثة تاريخية من هذا النوع لم تحدث. رفض هذا النظام أن يعلن أمام المجتمع الدولي بأنَّ سوريا بلد منكوب ولهذا تأخرت هيئة الأمم المتحدة في عملية إرسال بعثات إنقاذ ومساعدات هي عادة تقدمها للدول بعد أن تعلن أنها في حالة نكبة. كما رفض النظام أن يعلن حتى يوم حداد وطني في البلد على أرواح الآلاف التي قضت في الزلزال. بل وظهر رأس النظام المذكور فجأة، وبعد بضعة أيام من حدوث الكارثة، مبتسماً يتبادل المجاملات مع حشدٍ من المُطبِّلين والمهللين له وكأنه في زيارة شعبية اجتماعية بروتوكولية في يوم طبيعي عادي من أيام حياة شعب لا يعاني من أي شيء ولا يفتقر لأي شيء. لا بل وإن حكومة ورجال أعمال ومال النظام المذكور لم تتوقف ولا لحظة عن فسادها ومصها لدم العباد كما يبدو، إذ راح الناس يرددون أن الكثير من المساعدات الدولية التي أرسلت للشعب المنكوب لم تصل لمستحقيها بل وجدت طريقها إلى البيع والتجارة في الأسواق.

المشهد الأقسى في قلب هذا العرض المأساوي البربري بامتياز هو ما سمعنا بعض السوريين يقولونه أمام الإعلام لرأس النظام في مدينة حلب، حين زارها في ذاك الظهور الاستعراضي البروتوكولي، حيث وقف أحدهم في قلب ضجيج زغاريد النسوة احتفاءً بالقادم العظيم المنتصر على شعبه ليقول له: “حلب لم تعد منكوبة بأي شيء بعد أن زرتها يا سيادة الرئيس”. تقول تلك الزغاريد وتلك المقولة الكثير سوسيولوجياً عن الشعب السوري وعن موت الذات البشرية فيه. هناك تقارير وأخبار كثيرة جداً متوفرة عالمياً عن أحوال سوريا تُضاف لمعطيات هذه المشهدية تقول لنا كباحثين ومراقبين أنَّ النزاع الداخلي والحرب الشعواء التي دمرت سوريا في السنوات العشر الأخيرة وانتهت بخروج نظام مجرم بربري متوحش منتصراً على أفراد الشعب الذي يتوجب عليه خدمته وحمايته تحمل دلائل واضحة على موت النفس البشرية وتَحُّول أفراد سوريا الباقين فيها إلى أجساد بلا أرواح، بلا وعيٍ إنساني، بلا حس أخلاقي، بلا مِخيال قيَمي علاقاتي جَمعي، بلا عقلٍ تواصلي اجتماعي أو حتى فردي إنساني، أي أنَّ الإنسان في سوريا بدأ يفقد ما نُعرِّف به الكائن الواعي الطبيعي. دمرت حرب النظام على الشعب السوري، بل و “انتصار النظام على شعبه”، كل منظومات القيم والوعي والاجتماع البشرية في سوريا. لدرجة أنَّ سوريين منكوبين بزلزالٍ قاتل ومدمِّر، وبعد أن نُـكِبوا بالتشريد والدمار والموت والحرمان والبؤس، يحتفي بمجرد ظهور رئيس آلة القتل والدمار الداخلي ويستقبله بالزغاريد والأقوال غير الواعية وغير العقلانية وغير الأخلاقية وكأنَّ الحياة تمضي بيسر وكأنَ الناس يعيشون يوماً عادياً من أيامهم.

أعود للقول إن نتائج التمزيق والحرب والمآسي التي يعيشها شعب في صراع مع طرفٍ محلّي يمزقه من قلبه وداخله، كما حدث ويحدث في سوريا، لهي أكثر تدميراً وسوءاً وكارثية على النفس البشرية وطبيعتها السوسيولوجية والقيَميَّة من الحرب والمأساة التي يتعرض لها شعب ما من عدوٍ خارجي، كما حدث ويحدث في أوكرانيا. في الحالة الثانية، سيقوم أفراد الشعب معاً من سقوطهم وينهضوا ليعيدوا بناء وجودهم انطلاقاً من وقوفهم المشترك الجمعي ضد عدوٍ غريب. على العكس من ذلك، سيستمر الشعب في الحالة الأولى بالتهاوي والتفكك ولن ينهض من حفرة التوحُّش واللاإنسانية وموت الذات البشرية التي غرق فيها لأنه لم يعد يؤمن بعد الآن لا بفكرة “المجتمع” ولا “بالتعاضد” ولا “بالتكافل” ولا “بالإنسانية” ولا “بالقيم” ولا حتى “بالحياة”، خاصة وأنه رأى أنَّ الآخر الداخلي الشريك له في البلد والوجود هو دون سواه من حاربه وهاجمه وقتله وشرَّدَه وحرمه من أبسط شروط العيش الإنساني الطبيعي.

ستقوم أوكرانيا من مأساتها بسبب أهلها، أما سوريا فكل المعطيات السوسيولوجية والإنثربولوجية الحالية تقول إنها لا يمكن أن تعود أو تقوم على قدميها طالما أن سبب دمارها وقتل النفس البشرية عند أبناءها مازال موجوداً يحكم ويتسلط ويفسد ويمتص دم العباد، وطالما أنَّ الوجود المجتمعي السوري ينحدر سريعاً واطراداً نحو حالة من موت النفس الإنسانية والبهيمية والتنمُّل الشعوري والحسي والعطالة القيمية والأخلاقية والإنسانية. حتى وقت قريب، كنا ندرك كمراقبين أنَّ سوريا البلد والدولة انتهيا وزالا من الوجود الموضوعي والفعلي. اليوم، بِـتنا نقول بشكلٍ أكثر وضوحاً، وفجاجة وحـزناً، أنَّ سوريا الشعب والمجتمع البشري تعانيان موتاً سريرياً.

* شاعر وباحث أكاديمي وأستاذ جامعي سوري، بروفسور في اللاهوت المسيحي

المصدر: الناس نيوز

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.