الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

فاجوميات بالفصحى.. عن عميد العامية الفاجومية

تامر منصور *               

كلامنا عن هؤلاء الحرافيش الأحرار، الذين لم يحتاجوا إلى شهادات جامعية لكي ينظروا حولهم فيدركوا ما هو دورهم بالفعل، وإن استحال الفعل، فبالكلمة، وإن منعت الكلمة، فبالقلب الذي يمارس أضعف الإيمان حتى لا يفسد.

أشخاص خلقهم الله لنسائم الريح، لا لقضبان الأقفاص. أميون ذوو مداخيل فقيرة. يعيشون بين جنبات منازل طينية متهاوية. يسكنها ضيق الحال الذي يتم توريثه من جيل إلى جيل متعشقاً بالعادات والتقاليد. قلوب ساذجة طيبة، داخل بيوت تكثر في داخلها الخرافات إلى جانب الحكاوي الشعبية والأغاني الفولكلورية. يجلس سكانها يتناوبون مد الأيدي إلى غموس أطباق الطعام على طبلية البركة، التي غالباً ما تحمل لهم الباذنجان، الفول، الجرجير والطعمية.

هنا شقلبان

محطة إذاعة حلاوة زمان

مم تخلق الحرية؟

هل من طين الغيط، الذي يسد هو ذاته شقوق جدران البيوت. أم من خوص الحصير الذي يفترش بعض مساحات أرضية الدور التي تمر عليها أكف الأقدام فتخشن، كما يخشن خشب الفأس و ذراع الشادوف كفوف هؤلاء الحرافيش.

هل تنبع الحرية من الطعمية، أم من وقت الفراغ الريفي، أم تراها تنشأ من خضار الجرجير وأقاربه المورقين. هل سذاجة القلوب هي التي تصنع ذلك الأمل الذي لا يذوب مهما تقدم العمر وإن اقترب من المائة. ما تفسير هذه الأرواح الهائمة بين نسمات الحكاوي والكلمات، التي تفضل السجن وراء قضبان السجون، على وضع قلوبهم خلف قضبان بيع الضمائر؟

هل الشعر هو كلمة فقط. بين نظم ونثر وعوارض وقوافي وسجع وبلاغة لسان وبراعة قريحة لغوية؟ أم هي تعبير عن ذات هذه الحرية. فإذا ما حضر الضمير الميت، انقلبت هذه الكلمات المنظومة إلى زمر وطبول، بدلاً عن نقاط وحروف؟

كم ذا بتاريخ مصر من مضحكات. قفشات تختفي في طياتها الآلام ونكات تضحك على أهوال، مزايدات تغطي على امتهان، وشعر يغطي على إخفاقات. كل ذلك توازيه مع معاكسته في الاتجاه، عبارات لاذعة تكشف حقائق، ألسنة فجة تفضح العيوب، وضمائر تصدر شعراً يبكي على الحال، لأنه لم يستطع تغييره.

كيف يكتب من لم يتعلم الكتابة؟

كيف انتهى الحال بالقلم، بين أنامل من كان من المفترض أن يبقى جاهلاً. أبسبب ضميره الذي يئن، وحريته غير القابلة للتفاوض، التي ورثها من حكاوي البطولات الشعبية، حتى وإن كانت وهمية. ما الذي علمه، وأدام أمله، فكتب، ونظم الشعر بكلمات محلية؟ لا أعلم.

لكن المؤكد، أنه لا يمكن كسر سن مثل هذا القلم. مهما قست عليه ظروف النشأة، هراوات الأمن، خشونة الفأس، أو شظف العيش. فجلس وقال ما كان على أحدنا قوله، فلم نقله. نعتوه بالبذيء فافتخر، حاولوا كتمان صوته فانفجر. لم يخن ضميره، وبقى على إخلاصه لمن عانى واحتضر، ومن مات من الذل، ومن كفر، وكذا من صبر.

لم يخن مواطناً، ولم يتمكن أبداً من اكتساب أحقيته بهذا اللقب. ولم يخن قلمه، ما كتم في قلوب لم تأخذ فرصة الخفق بنبض الحرية مطلقاً. كأن كلماته خطت على الورق، ليمتد وميضها كخيوط من الأشعة فوق السلطوية. دام أثر كلماته، أمام كل ما ألقي عليه من كلمات لتحبطه، تسجنه، تهينه، تكتمه، وتقتل الأمل في قلبه.

غمي عيونك.. سد ودانك

افتح بقك قول حرفين

أنا فين؟

ربما لثقل حمل ما ألقي عليه، استعان بصديق. حرفوش كفيف، لم ير الأمل بعينيه أبداً، فقرر أن يراه بصوته قرآناً. وبعد مرور السنين العجاف، يرى بصوته كلمات تحتاج ألحاناً. لربما تكون النغمات هي وسيلة إيصال ومضات الحرية المخزنة بالكلمات، لكي تخترق قلوب قوم يائسين. فسمعت ملايين الآذان هذه الأصوات الغريبة التي تنبع من حوش قدم؟

يبدو أن قدم السعد على الكلمات، كانت أقوى من قدم الدهس على الأعناق. وإلا كيف نفسر، تفوق “بقرة حاحا”، “كلب الست” و”البتاع”، على كل الكلمات العربية المنمقة المتراصة أكواماً تلو أكوام، لتسد عين الشمس عن أعين الباحثين عن الحرية؟

كيف لسيجارة حشيشة، كوب شاي “كشري”، قبلات مسروقة من فم الحرمان، خطفت وراء شجرة من فم من صنعت الشاي للحرافيش، وبضع كراسات وأقلام، جمعت من نسيهم الجميع، أن تكون لها هذه السمعة الطيبة؟ كيف للذنوب الصغيرة المرتكبة في كنف الصعلكة، أن تبدو وكأنها صنعت تجربة شعر وحرية؟

عن موضوع الفول واللحمة (مع الكلمات) لـ أحمد فؤاد نجم: (https://www.youtube.com/watch?v=eadQz8Wr_Gs)

الجوع يزداد، وعندما يحضر المال، يحضر الزهد في الأكل. العتمة تسيطر على الحوش، فيرى الكفيف والمبصر نور القلوب في أعين سكان الحوش الغائرة من سوء التغذية. فتنبع المزيد من الكلمات العامية من قلم الحرفوش ذي الكف الخشن، الأسنان المتكسرة، الشعر الأشعث، والضمير الحي.

كتبت أحكام شرع القلوب الوفية، بين جدران الحوش المبروكة، فسمعها كل من في بر مصر وما حولها، من شط العرب إلى جبال البربر. ارتوت ضمائر كليمة، بحبر أخفى وأظهر الأحداث الأليمة، التي عاناها كل الحرافيش على شواطئ صيدا وفي حواري مصر القديمة.

إن كانت العبارة واضحة، فهمناها، وإن كانت تلميحاً، فنحن لها فاهمون. إن كان بيت الشعر مهذباً، تلوناه، وإن كان جريئاً أو بذيئاً، قرأناه ونحن برغم المرارة باسمون. وما بين لحظة حب لتفاصيل الحياة، ولحظة ثورة على دموع الواقع. ما بين قضبان حبست الكلام في حلق الجميع، ظلت سطور الحرفوش المنظومة، حرة ومظلومة. اخترق مر الكلام جدار الصمت الشعبي، كما الحسام الذي يقطع مكان ما يمر.

قلوب الحرافيش تلتقي من المحيط إلى الخليج، فتتكامل كلماتهم الفصحى مع العامية بلهجات العرب المتنوعة. تعبر عن مرارة ما. مرارة قد تدمي العين بكاءً، أو تثير سخرية القدر والبشر.

قلم الضمير الرافض للتطبيع مع المهانة، أو الاستكانة في قاع بئر الخيانة. هل فقدناه أم حفظت له المكانة؟

لا لم يمت. فدموع الحبر الحارة وقفشاته اللاذعة، ما زالت تسقي قنايات تسري بين أقدام المرفه والجائع، المشتري كما البائع، الثابت مع المائع. كلمات تجعل الظلم الباهت، مرفوضاً وفاقعاً، مكروهاً برغم أنه شائع. قلم الحرفوش رفع ستار الاحترام الزائف عن صفحات جريدة الوقائع.

قلم قادر على تخطي أسوار السجون، كشف ستار الهيبة المزيفة التي تخبئ الجنون والمجون. قلم يخط الحدود الفاصلة بين الطبقات، مرفهون، ومطحونون. بين ضمائر مبصرة، وأخرى بلا عيون، أصوات ناعقة بالنفاق، وأخرى ترفض علامة السكون. قلم يلغي هيبة المشهور، ويعبر عما تسببته عضة كلب من شجون. قلم أصيل لا يهون، بشهادة كل من السجان والمسجون.

يعيش أهل بلدي.. وبينهم ما فيش

تعارف يخلي التحالف يعيش

تلافيف نظم الكلام، تجلت بصوت الحرفوش، في هيئة عُرب صوتية، بين مقامات لحّنها وغنّاها معه الكفيف، لربما يستيقظ على وقع أنغامها المبصرون. كلمات تردد صداها بين جدران جامعات لم يزرها الحرافيش، وميادين ثورة هاجمتها الخفافيش، وجلسات نقاش درات بها أفكار الدراويش. ترددت على ألسنة الجالسين فوق الحصر، أمام طبلية تجاورت عليها أطباق المر وجبن القريش. تطرق أبواب الضمائر وإن كتبت بين حبات الفلافل، ووسط دخان الحشيشة.

بعد أن تقرأ كل هذه السطور الفاجومية المبعثرة بالفصحى، التي قد تظن مخطئاً أنها تتحدث (فقط) عن حرفوش اسمه أحمد فؤاد نجم.. تذكر أنه قد هزم سطورنا جميعاً، وأضعفها الفصحى في سطوري السابقة، بعامية الحرفوش المارقة، وفجاجة جرأته الحارقة. فأين يذهب غروبنا المستدام، بجانب شمسه المشرقة؟

بسلامته بيسرح قال بينا

يعني إحنا مواشي يا زقزوقة؟

داحنا العريفة الحريفة

غيرش الأيام المدعوقة

والأهم، أن من كره كلماته عن ناس عاشت “بالبتاع”، وناس ماتت من الفول. أذكركم أن هذا الكاره وبرغم تعيينه حرس “للبتاع”، لم يحمه ذلك من أن يموت مقتولاً. وعاش نجم عبر كلماته التي تحمل أمل التمرد المؤجل المنحول.

وما بين مقتول مكلوم بتأجيل الآمال، وبين مقتول هو القاتل لكل الأحلام، يبقى السؤال.

هل نحن حقاً لها، كما تصدى نجم بقلمه لقاتلي آمالها؟

وكل يوم في حبك.. تزيد الممنوعات

وكل يوم باحبك . أكتر من اللي فات

نجم: (22 أيار/ مايو 1929 – 3 كانون الأول/ ديسمبر 2013)

* مصمم وكاتب مصري

المصدر: 180 بوست

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.