الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

من روائحهم.. تعرفونهم!

مقالات

 

وفاء أبو شقرا *                 

عندما كنتُ صغيرة، كنتُ أشبِّه مقدّمة كلّ سيّارة بوجه إنسانٍ ما. فهذه مثلُ سحنة رجلٍ لئيم. وهذه كصاحب خدّيْن منفوخيْن. وهذه كشخصٍ يكشّر ضاحكاً. وهذه مثل كائنٍ ينظر ببلاهة و.. هكذا. استبدلتُ، في هذه الأيّام، “لعبة طفولتي” تلك. فصرتُ، عندما أنظر إلى وجه إنسانٍ، أسألُ نفسي: أيّ رائحةٍ، يا ترى، ستفوح منه؟

أتسلّى، أحياناً، بتخيّل رائحة البشر، بمجرّد مرورهم على الشاشة قبالتي. إنّما، ليس أيُّ بشر. بل، حصراً، كائنات الزمرة المافياويّة التي تحكمنا في هذا البلد المتحلِّل. ففي اللحظة التي ألمح فيها وجوههم، أشمّ رائحةً ما. رائحة تصل إلى قعر دماغي. رائحة تظلّ تسكنني، حتّى يغادر هذا الزعيم أو ذاك الحاكم الحيّز النظري لعيوني. مثلاً، عندما أرى المسؤول “ألف” أشمّ رائحة العفونة. ومن “باء” تفوح رائحة عطرٍ رخيص. أمّا “تاء”، فلديه رائحة خاصّة تشبه زنخة السمك. أففففففف. أضع يدي على أنفي وأضغط عليه، كيلا تتسلّل إلى رأسي رائحة الدمّ التي ينثرها “جيم” في الأجواء عندما يصرخ مهدِّداً ومتوعِّداً. وتتوالى الروائح. روائحهم. هنا رائحة ملح. وهناك رائحة علف مواشي. وهنالك رائحة غبار رطب. أو شحم خراف. أو خشب متفسّخ. و.. كلّها روائح كريهة واخزة للجسم. يا إلهي..! لم يكن ينقصني إلاّ استنشاق روائحهم في هذه الأيّام الممتعة التي نعيشها!

في الحقيقة، تُشعِرني روائحهم بضيقٍ شديد يبلغ حدَّ الاختناق. فأبدأ بشمّ نفسي بعصبيّة. وأشرع بغسل يديّ ووجهي بشكلٍ مفرط. وأرشّ على جسدي العطور للتغطية على روائحهم. وكأنّها تصدر عنّي لا عنهم! في الأمر، يا أصدقاء، شيءٌ يشبه الوسواس القهري. نعم. فلقد قرأتُ مرّةً عن اضطراباتٍ تُسمّى “متلازمة الإحالة الشمِّيّة” (olfactory reference syndrome). لا تستغربوا رجاءً! فالرائحة تنبعث بالإيحاء. وتنطلق من الذاكرة. إذْ يعتقد العلماء أنّ الروائح قادرة على استدعاء الذكريات. البشع منها والجميل. فحاسّة الشمّ والذاكرة مرتبطتان ارتباطاً وثيقاً. هناك أساسٌ عصبي لكيفيّة تمكين الدماغ للروائح من إثارة ذكرياتٍ قويّة. فلقد اكتشف باحثون من جامعة كاليفورنيا أنواعاً معيّنة من الخلايا العصبيّة (داخل مركز ذاكرة الدماغ)، مسؤولة عن اكتساب ذكرياتٍ ارتباطيّة جديدة. أي، ذكريات تنتج عن عناصر غير ذات صلة، مثل الرائحة.

فللرائحة قدرةٌ عظيمة على الوصول إلى الهياكل الدماغيّة المركزيّة للنظام الشمّي في الدماغ. تلك التي تتشارك مع نفس المنطقة المسؤولة عن تنظيم مشاعرنا وذكرياتنا واستجاباتنا السلوكيّة والعاطفيّة. لذا، كثيراً ما نسمع أناساً يقولون، إنّ حاسّة الشمّ لديهم تستحضر بعض الذكريات. القديمة جدّاً، أحياناً. لدرجة أنّهم يشعرون كما لو كانوا يعيشون الحدث مرّةً أخرى. أنا من بين هؤلاء الناس الذين يملكون ذاكرةً روائحيّة مهولة. فرائحة صابون zeste، على سبيل المثال لا الدعاية، تعيدني إلى زمن الاجتياح الإسرائيلي عام 1982. لماذا؟ لأنّه كان الصابون الوحيد المتوفّر في دكاكين قريتي، يومذاك. ورائحة ماء زهر الليمون، لا تذكّرني إلاّ بيوم وفاة جدّتي (لأبي). وأعود بحنينٍ كبير إلى وسط رفاقي في صفّ البكالوريا في ثانويّة بعقلين، عندما أشمّ رائحة شوكولا petit prince. فذكريات الطفولة تُعَدّ الأكثر ارتباطاً بالروائح. مثل روائح الطعام التي كانت تطهوها الأمّهات. ربّما لأنّ “رائحة الذكريات السعيدة” ترتبط، غالباً، بسنوات العمر الأولى. بينما تنشأ الذكريات المرتبطة بالمعلومات اللفظيّة أو المرئيّة، في مرحلة البلوغ المبكّرة. هذا ما ترجّحه “تيريزا إل وايت” أستاذة علم النفس الأميركيّة. ولعلّ ارتباط الإصابة بفيروس كورونا “كوفيد-19” بفقدان حاسّة الشمّ يدفعنا، افتراضيّاً، إلى توقّع مشكلات في الذاكرة (لكن لا دراسات حتّى الآن في هذا المضمار). هل قرأتم رواية “العطر.. قصّة قاتل” للسيناريست والكاتب المسرحي الألماني “باتريك زوسكيند”؟

فتلك الرواية حوّلته، قبل نحو ثلاثين عاماً، من كاتبٍ مغمور إلى أحد أشهر الروائيّين في العالم (طُبِع منها أكثر من مليونيْ نسخة بلغاتٍ مختلفة). يستهلّ كاتبنا روايته كالآتي: “في القرن الثامن عشر، عاش في فرنسا رجلٌ ينتمي إلى أكثر كائنات تلك الحقبة نبوغاً وشناعة. وهي حقبة، لم تكن تفتقر إلى أمثال هذه الكائنات. كان اسم ذاك الرجل “جان باتيست غرنوي”. وإذا كان اسمه اليوم قد طواه النسيان، على نقيض أسماء نوابغ أوغادٍ ومُريبين آخرين، فذلك بالتأكيد ليس لأنّ “غرنوي” يقلّ عنهم لاأخلاقيّةً وتعالياً واحتقاراً للبشر. وإنّما، لأنّ عبقريّته وطموحه قد انحصرا في ميدانٍ لا يخلّف وراءه أثراً في التاريخ. إنّه ميدان ملكوت الروائح الزائل.

تبدأ أحداث قصّة “العطر” بمشهد إمرأةٍ تضع مولودها في سوق السمك. لكنّها ترميه وتتخلّص منه بين ركام القاذورات وبقايا الأسماك. ويبقى هذا الطفل (وهو ابن سفّاح) مُصرّاً على الحياة. ويصرخ بقوّة رافضاً الموت. فيتمّ نقله إلى الكنيسة التي منحته اسمه. وجلبت له مُرضِعة ما لبثت أن أرجعته بعد مدّةٍ وجيزة. كانت حجّتها أنّ هذا الطفل غريب، وليس له رائحة! نُقِل الطفل “غرونوي” إلى دار الأيتام حيث ترعرع. لكنّه كان مكروهاً من قِبَل الأطفال هناك ومعزولاً عنهم. وعندما بلغ عامه التاسع، باعته صاحبة دار الأيتام إلى أحد الدبّاغين. فعمل عنده عدّة سنواتٍ حتّى وجد ضالّته في أحد محلاّت العطارة. فهناك تساكن مع الروائح التي يدركها جيّداً بحاسّة الشمّ الحادّة التي كان يتمتّع بها.

حاول بطل “العطر” امتلاك العالم بامتلاك رائحة هذا العالم. مُعتمِداً على أنفه، وأنفه فقط! ومحاولته أفضت به إلى أن يصبح شيطاناً رجيماً. وقاتلاً محترفاً ومتسلسلاً. فلقد أمضى العمر وهو يخطّط للبحث عن أجمل الفتيات لكي يقتلهنّ. وكان يستطيع الوصول إليهنّ بواسطة حاسّة شمّه القويّة. بلغ عدد ضحايا “غرونوي” خمساً وعشرين فتاة. فهو لم يكن يعبأ بأيّ إيمانٍ أو أخلاقٍ أو ضمير. بالنسبة إليه، جميعها كلمات من دون معنى. لقد ابتغى أن يكون إله الروائح كلّها. وأراد من البشر شيئاً وحيداً؛ أراد، عندما يشمّون رائحته، أن يركعوا. مثلما يركعون أمام بخّور الربّ المقدّس البارد.

وهنا، يستخدم الكاتب “باتريك زوسكيند” كمّاً هائلاً من المعلومات التي تخصّ عالم الروائح. ليجعلها أرضيّة يتحرّك فوقها بناؤه الروائي. فيصبح لكلّ شيءٍ رائحة مميّزة يشمّها بطلُه. ولم تعد اللغة المتداولة كافية للتعبير عن كلّ تلك الأشياء، التي جمعها في ذاته، كمفاهيم روائحيّة. إذْ إنّه لم يعد يشمّ الإنسان فحسب، بل فئات البشر: فرائحة الطفل غير رائحة الشاب. ورائحة الشاب غير رائحة الرجل المسنّ. ورائحة العذراء غير رائحة المتزوّجة. والفلاّح غير الموظّف. والعاهرة غير الراهبة. و.. هكذا دواليك.

تنتهي القصّة بإلقاء القبض على “غرونوي” الذي اعترف بكلّ جرائمه. حُكِم عليه بالصلب في الساحة العامّة أمام الجميع. وبينما هو واقفٌ على منصّة الإعدام، سكب بعض العطر على نفسه. وفجأةً، تحوّل الجميع من كارهٍ له إلى مُحبٍّ وطالبٍ للرحمة. انسحب “غرونوي” من ساحة الإعدام، وغادر المدينة قبل أن يتبخّر أثر العطر. توجّه إلى السوق الذي شهد ولادته. فسكب ما تبقّى من العطر على جسده. عندئذٍ، التفّ الجميع حوله حبّاً به. حتّى ظهر وكأنّه يتلاشى بين هذا الحشد من الناس الذي التهمه. وهكذا تنتهي الرواية بموتٍ غريب لـ”غرونوي”. ألا تتخيّلون نهاياتٍ لأناسٍ تعرفونهم جيّداً كهذه النهاية؟ بلى.

كلمة أخيرة. في عام 1998 كُلِّفت العالمة الأميركيّة في علم النفس الإدراكي “باميلا دالتون” بتطوير قنبلة كريهة الرائحة لوزارة الدفاع. فتوصّلت، بعد سنواتٍ من البحث والجهد والتدقيق، إلى تركيب مادّة تمّ تصميمها لمحاكاة رائحة مراحيض الثكنات العسكريّة. كانت تلك المادّة عبارة عن سائلٍ وصفته “دالتون” بأنّه أسوأ رائحة تمّ إنشاؤها، على الإطلاق. وشبّهها بعضٌ ممّن خضعوا لتجربة الاستنشاق، بأنّها كرائحة “شيطانٍ تربّع على عرشٍ من البصل المتعفّن”. صحيحٌ أنّ البحث عن الروائح الكريهة قد يكون صعباً بل عويصاً. لكنّ زيارةً خاطفة لعلماء الكيمياء إلى لبنان، ستقهر وتذلّل شتّى أنواع الصعوبات. إقتضى التذكير.

* أستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية

المصدر: 180 بوست

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.