الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

الحسابات الخاطئة في الحرب الأوكرانية

عبد الله السناوي *

بعد عام كامل على نشوب الحرب الأوكرانية لا يوجد ما ينبئ بحسمها عسكرياً، أو تسويتها سياسياً في أي مدى منظور.

التصعيد العنوان الوحيد للحرب المستعرة رغم تكاليفها الباهظة على العالم بأسره.

كان عقد قمة أوروبية في العاصمة الأوكرانية رسالة دعم وإسناد وتعزيز في وقت تتحسب فيه تقارير غربية متواترة من هجوم روسي محتمل واسع النطاق في الربيع يشارك فيه (500 ألف جندي) شاملاً من جديد كييف نفسها.

يريد الأوروبيون أن يقولوا: «سوف نمضي إلى آخر الطريق، ولن نسمح بانتصار روسيا».

بالمقابل أظهر الروس إرادة مماثلة: «سوف نستخدم كل قدراتنا في الدفاع عن بلادنا، ولن ننهي العملية العسكرية إلا بتحقيق كامل أهدافها».

الرسائل المتبادلة بدت منذرة بمخاطر التصعيد العسكري دون أدنى أفق سياسي.

في مجرى الحرب أسقطت كل المحظورات، أو الخطوط الحمراء التي استقرت عند بدء القتال قبل عام.

لم يعد ممكناً الادعاء أن حلف «الناتو» لا يحارب في أوكرانيا.

التوصيف الصحيح أنها حرب روسية أطلسية.

بتفاعلات الحرب بدأت تتغير معادلات وحسابات موروثة من الحرب العالمية الثانية.

بلدان أوروبيان، ألمانيا وسويسرا، غادرا أحوال الحياد العسكري.

كان ذلك تطوراً جوهريا في طبيعة النظام الدولي يؤذن بنهايته وبداية نظام دولي جديد بتعثر في ميلاده.

بعد ممانعة طويلة في الضغوطات الأوروبية وافقت ألمانيا على إمداد أوكرانيا بدبابات «ليوبارد 2» لتمكينها من اختراق المواقع الروسية ووقف أي تقدم جديد محتمل.

لتخفيف وطأة القرار على المواطن الألماني، الذي لا يريد على أي نحو تكرار مشاهد الحرب العالمية الثانية مع روسيا، اشترطت برلين أن تمد أمريكا الجيش الأوكراني بدبابات «إبرامز1»، كأنها أرادت أن تقول: «لست وحدي!».

وبلدان أوروبيان آخران، السويد وفنلندا، يلحان على إنهاء إجراءات ضمهما إلى حلف «الناتو» بذريعة حاجتهما إلى الأمن دون أن يكون واضحاً متى يحدث هذا الضم بالنظر إلى الفيتو التركي على خلفية احتضان السويد بالذات لجماعات كردية معارضة.

نحن أمام خرائط جديدة تتشكل وعالم جديد يولد سوف يأخذ وقته حتى تستكمل حقائقه.

مستقبل الاتحاد الأوروبي كله بين قوسين كبيرين.. وحجم الدور الألماني في قيادته قد يخضع لتغييرات جوهرية تسحب منه ولا تضيف إليه.

سقوط المحظورات واحداً بعد آخر قد يفضي إلى تهديد الداخل الروسي بصواريخ طويلة المدى، من المرجح إمداد أوكرانيا بها.

حتى الآن تمانع الإدارة الأمريكية في إمداد الجيش الأوكراني بطائرات «إف 16» خشية أن تستخدم في الإغارة على الأراضي الروسية، وأن تجد الولايات المتحدة نفسها بالانزلاق طرفاً مباشراً في الحرب.

في البداية توافقت الولايات المتحدة وروسيا على قواعد اشتباك شبه معلنة، أن حلف «الناتو» ليس طرفا في الحرب، قد يساعد لكنه لا يقاتل، خشية أن يفلت الزمام إلى مواجهة مباشرة بين روسيا ومن ينضم إليها و«الناتو» ومن يستظل برايته.

القمة الأوروبية برسائلها رافقت توتراً عسكرياً في شرق آسيا على أثر إنشاء قواعد عسكرية أمريكية جديدة في الفلبين وكوريا الجنوبية.

الصين احتجت واعتبرت توسيع حزام القواعد الأمريكية عملاً عدائياً تجاهها.

ربما تشرع تالياً لاتقاء أي أخطار محتملة على أمنها وسيادتها ومستقبلها في أن تنتقل بعلاقاتها مع موسكو من «التحالف الاستراتيجي الافتراضي»، أو «نصف التحالف»، إلى تحالف كامل بإمدادات سلاح وذخائر وأموال تحتاجها الأخيرة في التصعيد المتبادل.

في الأيام الأولى للحرب، التي أطلقت عليها موسكو «العملية الخاصة»، تصور الكرملين أنه سوف يحسمها خلال أيام قليلة بالنظر إلى فوارق القوة بين البلدين.

كانت الحسابات خاطئة في تقدير قوة وجاهزية الجيش الأوكراني، ومدى استعداد الغرب لمواجهة ما أطلق عليه «الغزو الروسي» بإمدادات سلاح وحزم مساعدات وعقوبات اقتصادية مشددة لا مثيل لاتساع نطاقها.

كان المسرح مهيأ، وفق الحسابات الغربية، لاصطياد الدب الروسي في المستنقع الأوكراني بسيناريو أقرب إلى ما جرى في أفغانستان.

بدت تلك بدورها حسابات خاطئة، فروسيا دولة كبرى وتملك مقومات توجيه ضربات مضادة في ملفات عديدة أبرزها الطاقة وأخطرها السلاح النووي.

الحسابات الخاطئة شملت أسباب الأزمة المعلنة.

الأسباب التي أسهب الرئيس الروسي في شرحها لشعبه بدت متماسكة ومقنعة، كقضية وجود للأمة الروسية، وقد تكفلت المعالجات السياسية والإعلامية الغربية بإضفاء صدقية على أطروحاته.

المبالغة في شيطنته أفادته في روسيا ولم تضره.

السؤال هنا: هل كانت الحرب محتمة؟

باليقين: «لا»، لكنها الحسابات الخاطئة.

المخاوف الأمنية الروسية لها أساس في التاريخ المعاصر حيث تعهدت واشنطن بألا يتمدد حلف «الناتو» إلى الحدود المباشرة لروسيا حتى توافق الأخيرة على إعادة توحيد الألمانيتين مطلع تسعينيات القرن الماضي، لكنها أخلفت وعودها.

بحكم التاريخ لم يعهد عن الإمبراطورية الروسية التمدد خارج محطيها المباشر كالإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية.

محيطها هو أمنها ومصدر قوتها وهيبتها.

هذا المعنى بالذات هو صلب نظرية الأمن الروسي في عهد «بطرس الأكبر»، كما في العهد السوفييتي.

لم يُقدر الغرب خطورة استفزاز موسكو في ملف أمنى يصعب على «بوتين»، أو غيره، تجاوزه أو غض الطرف عنه.

إنها مسألة شرعية.

كان ذلك خطأ مروعا في التقدير السياسي.

بمضي الوقت صعد «بوتين» مطالبه في الحرب الأوكرانية بالعمل على ضم أربع مقاطعات إلى الاتحاد الروسي لتخفيف الضغط الداخلي عليه.

كان ذلك تقديراً سياسياً، أياً كانت دوافعه وحيثياته، متسرعاً، فهو يغلق أي باب للتسوية السياسية.

المعضلة الحقيقية- هنا- أن أوكرانيا هي ميدان الحرب لكنها ليست موضوعه.

الموضوع الرئيسي هو مستقبل النظام الدولي كله، ومكانة الدول الكبرى الفاعلة فيه.

لهذا السبب، قبل غيره، لن يكون هناك حل سياسي سهل المنال، فلا أحد على جانبي الصراع مستعد أن يتقبل هزيمة استراتيجية في تصوره لأدواره وأوزانه في نظام دولي جديد يكاد أن يولد.

هكذا تمددت الحرب حتى أصبحت استنزافاً كاملاً لأطرافها وللعالم بأسره.

بتلخيص ما فإنها «حرب الحسابات الخاطئة».

أخذت المحظورات تسقط واحدة بعد أخرى.

وهذا أخطر ما يحدث الآن في حرب الاستنزاف الأوكرانية.

* كاتب صحفي مصري

المصدر: الشروق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.