الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

MBS.. خمسة أيام في بيجينغ 

إلياس فرحات *              

بعد عقود من الدخول الناعم إلى الشرق الأوسط (بدأ كثيرون يسمونه غرب آسيا)، اقتصر على إقامة علاقات اقتصادية وتجارية مع دوله، اقتحمت الصين، دبلوماسياً وسياسياً، هذه المنطقة باختراق شكّل نقطة تحول في العلاقات الإقليمية والدولية.

صدر بيان من بيجينغ أمس (الجمعة) يُعلن عن اتفاق ينص على إعادة العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران وتأكيد الدولتين نفسهما “على احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية”، بالاضافة الى تفعيل اتفاقية التعاون الأمني الموقعة بين البلدين في العام ٢٠٠١. وقد استهل البيان بعبارة عالم ثالثية: “استجابة لمبادرة كريمة من فخامة رئيس جمهورية الصين الشعبية”، واختتم بعبارة يرددها الغرب من دون تنفيذ: “أعربت كل من الدول الثلاث عن حرصها على بذل الجهود كافة لتعزيز الامن والسلام الدوليين”، فهل تنفذ اليوم؟

لا شك ان الاتفاق كان مفاجئاً برغم زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى السعودية في كانون الأول/ديسمبر ٢٠٢٢ واحتفاء الامير محمد بن سلمان به ودعوة رؤساء دول المنطقة للاجتماع به وأيضاً برغم زيارة الرئيس الايراني إبراهيم رئيسي إلى بيجينغ في مطلع العام الحالي. اعتقد المراقبون ان هذه الزيارات اقتصادية بالدرجة الأولى ولم يلتفت كثيرون إلى أبعادها ومضامينها السياسية.

ولعل أحد عناصر المفاجأة تأتي من شخصية ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الذي ينظر اليه الغرب أنه منشغل بشراء يخت فاخر أو لوحة زيتية نادرة (مزورة) وقصر في فرنسا أو ولي العهد المنهك في مشروع “نيوم” ونشاطات هيئة الترفيه. نعم انتبه اليه الغرب عندما اتخذت منظمة “أوبك بلاس” قراراً بتخفيض الإنتاج خلافاً لرأي السيد الأميركي ومصالحه.

لم يتصور هذا الغرب ان يُقدم الأمير الشاب على خطوة مفاجئة من النوع الذي شهدناه في بيجينغ (اعلنت واشنطن أنها كانت على علم بها، وهذا أمر يحتاج إلى تدقيق، فلو كانت على علم لكانت سربت ذلك كعادتها الى الصحافة الأميركية، كعادتها في التعامل مع هكذا أحداث)، وتبدى أيضاً أن إسرائيل لم تكن على علم، فعبّرت عن غضبها لهذا الانجاز، وبالتالي هل نُصدّق أن الولايات المتحدة كانت تعلم ولم تخبر اسرائيل؟

وعدا عن هذه الملاحظات الأولية، لا بد من إبراز النقاط الآتية:

أولاً؛ يعتبر هذا الاتفاق الإقليمي ترجمة لأول وساطة صينية من نوعها في تاريخ الصين التي كانت تعيش في شبه عزلة في تاريخها القديم وتحت الاحتلال الأجنبي البريطاني والياباني وإلى حد أقل الفرنسي والألماني في أواخر القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. بعد قيام الصين الشعبية بقيادة ماو تسي تونغ والحزب الشيوعي الصيني، اقتصرت العلاقات الخارجية على دعم حركات التحرر في جنوب شرق آسيا وبعض الشرق الأوسط وأفريقيا ولكن بعد الانفتاح الذي بدأه في اواخر القرن العشرين دينغ هسياو بينغ، توسعت العلاقات الاقتصادية للصين نحو العديد من دول العالم ولكن من دون سياسة. مع هذا الإتفاق الإقليمي، تكون الصين قد خطت خطوة سياسية كبرى في منطقة نفوذ اميركية اساسية تحتوي منابع النفط وهي بذلك تقتحم عقر دار النفوذ الطاقوي الأميركي. الخلاصة أنه علينا أن ننتظر رد فعل المؤسسة الاميركية على مثل هذا التحول الكبير، لا سيما وأنها منهمكة في تسليح ودعم اوكرانيا وتدجين اوروبا..

ثانياً؛ ظهرت ايران في مشهد توقيع الاتفاق دولة عادية وقف ممثلها مع ممثلي السعودية والصين. قبل هذه الصورة وهذا البيان، كانت ايران دولة شريرة ارهابية مارقة تتصدر نشرات الاخبار وتُتهم بخرق حقوق الانسان وحقوق المرأة وتصدير المسيرات والصواريخ والاقتراب من العتبة النووية وبامتلاكها مشروعاً امبراطورياً توسعياً إلخ.. كل ذلك وايران تتعرض لحصار اقتصادي خانق منذ ٤٤ عاماً والى عقوبات اقتصادية تطال العديد من كياناتها وشخصياتها فضلاً عن كل من يتعامل معها من دول وأفراد. الخلاصة في هذه النقطة أن الاتفاق السعودي الايراني بشراكة صينية فتح الباب واسعاً أمام بدء العد العكسي لوضع حد لحملة الشيطنة الاكبر في تاريخ الاعلام والسياسة .

ثالثاً؛ الولايات المتحدة صاحبة الشأن الكبير في منطقة الخليج باتت مجرد دولة تُعلق على حدث لطالما كانت تصنع مثله. حرب عراق صدام حسين على الكويت كانت بإشارة من ابريل غلاسبي و”درع الصحراء” و”عاصفة الصحراء” و”حرية العراق” كلها عمليات عسكرية اميركية. “عاصفة الحزم” السعودية ضد اليمن اعلنت من واشنطن. اما اليوم فقد اعلن من بيجينغ اتفاق سعودي ايراني.

وأكثر ما يُقلق الولايات المتحدة، كما اعلن جون كيربي المتحدث باسم مجلس الامن القومي في البيت الأبيض، هو مصير اتفاقات ابراهام. ففي السنوات الماضية، وخصوصاً بعد توقيع اتفاقات ابراهام، كثرت المناورات العسكرية “المشتركة” في الخليج والبحر الاحمر والتي نظمتها الولايات المتحدة وشاركت فيها اسرائيل بعدما اتخذ البنتاغون قرارا بنقل اسرائيل من مسؤولية قيادة اوروبا الى مسؤولية القيادة الوسطى كي تعتاد على التعامل مع دول المنطقة واغلبها عربية. العدو في هذه المناورات هو ايران. تطورت هذه النشاطات وبدأ العمل لتشكيل تحالف عربي ضد ايران يبدأ بشبكة درع صاروخي للدفاع الجوي في الخليج لمواجهة هجمات ايرانية محتملة. عرقل ذلك تردد بعض دول الخليج التي انتبهت الى جغرافيتها ولم تتسرع بإنشاء هذه الشبكة .

رابعاً؛ حملت ردود الفعل على هذا الاتفاق أملاً حقيقياً بالخروج من حالة الاستعصاء التي تمر بها مشاكل المنطقة وما اكثرها بدءاً من اليمن الى سوريا والعراق ولبنان وربما في مرحلة لاحقة فلسطين (قال معلق سعودي ان امل اسرائيل في التطبيع مع السعودية قبل منح حقوق الفلسطينيين وفقا لمبادرة السلام العربية التي اعلنت في بيروت هو امل ابليس في الجنة). بعد هذا الاتفاق نتوقع ان نسمع قريباً عبارة غابت عنا منذ زمن ونسيناها وهي “عملية السلام في الشرق الاوسط”.

خامساً؛ ترتبط اطراف الاتفاق الثلاثة بعلاقات اقتصادية متينة. يبلغ حجم التجارة بين الصين والسعودية ٨٨ مليار دولار سنوياً، كما ان الصين وايران وقعتا اتفاقا بقيمة ٤٠٠ مليار دولار لمدة ٢٥ سنة فيما تشكل السعودية المصدر الاول للنفط في الصين بمعدل ١.٧٥ مليون برميل يوميا وتصدر ايران للصين ١.٢٥ مليون برميل ايضا. يشكل هذا قاعدة مصالح متينة للاتفاق الذي سيأخذ طريقه للتنفيذ خلافا لمعظم قرارات الامم المتحدة والقمم العربية وهذا ما يضفي صلابة غير مسبوقة على الاتفاق، من دون إغفال تمدد الصين طاقوياً نحو فنزويلا والعديد من الدول الإفريقية.

ختاماً؛ من السياسة الى الاقتصاد الى الثقافة الى الوحدة الاسلامية فعلها الامير الشاب الذي لقبوه بمختصر اسمه MBS في خمسة أيام في بيجينغ.

* عميد ركن لبناني متقاعد

المصدر: 180 بوست

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.