الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

ذاكرتنا المتروكة في كتاب “دروب غير مطروقة في فلسطين”

علي حبيب الله *

” لطالما كان هذا الكتاب معنيّاً حصراً بالدروب غير المطروقة والأماكن المجهولة في فلسطين، ومع ذلك فيمكنني أن أقول بأن ما من مدة زمنية يمكنها أن تمحو أو تطمس المتعة الغرائبية المتمثلة في استكشاف الأرض والأماكن التي تتفق تماماً مع ما ورد ذكره عنها في الكتاب المقدس “.

هذا ما ظل يذّكر به صاحب كتاب “دروب غير مطروقة في فلسطين” (Byeways in Palestine)، وهو نفسه مؤلف كتاب “أزمنة مثيرة” عن فلسطين أواسط القرن التاسع عشر، “جيمس فِن James Fenn”، الذي شغل منصب القنصل البريطاني في القدس ما بين عامي 1846 و1863.

غير أن ذلك الطَرق الذي سعى إليه فِن في تلك الطُرق والدروب من فلسطين، ليس فقط مجرد إعادة لبعث خرائط الأسفار التوراتية عن البلاد، على طريقة الحجّاج والرحالة الأوروبيين الذين قصدوها على مدار قرونٍ طوّت. إنما كان طَرقا تضمن مَرقا استكشافيا ومسّحا جغرافيا – استخباراتيا، لمواقع ومواضع لم تطأ بعضها أقدام الرحالة والحجّاج من قبله. وبالتالي، لا نبالي إذا قلنّا إن كتاب “دروب غير مطروقة” هذا، بعيدا عن دوافع ونوايا صاحبه، يصلح كمادة لنا، لإعادة تذكر كل فلسطين من بحرها إلى نهرها.

جاء كتاب “دروب غير مطروقة في فلسطين” في تسعة فصول مُترجمة من أصل ستة عشر فصلاً تضمنها الكتاب الأصلي بالإنجليزية. واستبعد المُترجم جمال أبو غيدا، الفصول السبعة الباقية من الترجمة، لكونها متصلة بمناطق باتت تقع اليوم ضمن حدود لبنان، وتحديدا جنوبهِ. لذلك، ألحق المترجم عنوان الكتاب الأصلي، بعنوان فرعي: “مقتطفات من رحلات القنصل البريطاني في القدس في فلسطين وشرقي الأردن (1846 – 1859)”. وقد صدرت ترجمة الكتاب مطلع هذا العام عن المؤسسة العربية للدراسات وجاء النشر في 360 صفحة.

وتضمنت فصول كتاب القنصل التسعة، سبع عشرة رحلة قام فيها القنصل ما بين عامي 1846 و1956، وقد جابت قدماهُ كل فلسطين من غربها في الساحل إلى شرقها حتى ما وراء نهر الأردن، ومن شمالها حيث غابات جبال الجليل إلى جنوبها حتى بادية بئر السبع وغزة، وبعض رحلاته امتدت إلى شرقي الأردن وصولا للبتراء.

وما يميّز جولات ‘فِن’ في البلاد، أنها كانت محمولة بهواجس رجل إنجليزي، جَدل فيها ما بين تعصبه الديني(-) ومنصبه القُنصلي. ما دفعه وبكلتي قدّميه ذَرع كامل تراب البلاد، ليس لاستكشافها وفق تصوره الديني المُسبق عنها فقط، بل للتعرف إليها بالشكل الذي كانت عليه في حينه أيضا، لناحية الأسماء وطبيعة الأشياء فيها، وهذه ما يجعل لرحلاته قيمة استدعت كتابتنا عنها.

وتشابهت رحلات “جيمس فِن” في توقيتها السنوي، فمعظمها كانت ما بين شهريّ نيسان/ أبريل وحزيران/ يونيو من كل عام. وذلك لاعتدال مناخ فلسطين خلال هذه الفترة بحكم انقضاء الشتاء ودخول فصل الربيع هذا أولا؛ وثانيا، لأنها الفترة التي يمكن استكشاف تنوع أرض فلسطين فيها لناحية التنوع الطبيعي- البيئي، واختلافهما ما بين منطقة وأخرى في فلسطين القرن التاسع عشر. وهذا ما بيّنه ‘فِن’ في رحلاته، إذ لم يفوّت صاحب الكتاب أية ملاحظة متصلة بالجانب الجغرافي- الطبيعي إلا وقد أشار إليها.

ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى أن كل رحلة من رحلات ‘فِن’ تلك، لم تكن تقتصر على مجرد قنصل برفقة دابة وقوّاس ودليل. إنما منها ما كانت بمرافقة جماعية أشبه بالبعثات الاستكشافية، فرحلته في أيار/ مايو عام 1855 إلى نهر الأردن وما ورائه شرقا، كانت برفقة دستة من الرجال الإنجليز ومنهم مجموعة من رجال الدين، فضلاً عن القوّاسين والبغّالين والطبّاخين وأدلّاء الطريق من السكان المحليين، ومعهم ما لا يقل عن مئة دابة ركوب من جمال وحمير وبغال. وممن رافقوا القنصل في رحلاته أيضا كانوا يهوداً من يهود مدينة القدس الذين شملتهم حماية القنصلية البريطانية، وعناية القنصل الخاصة بهم في حينه.

لم تكن تلك الرحلات عفوية في توقيتها ولا في مسارها كذلك. إذ كان القنصل، يُعد لها مسبقا على مستوى موعد انطلاقها وتحديد مسارها الجغرافي. وفي بعضها، كان يفاوض الزعماء المحليين من أجل ضريبة الخفر والحماية سلفًا. كما لم يكن يسير القنصل ومرافقوه دون مسدساتهم التي ظلت محشوة وملقمة على الدوام. مما يعني أن رحلات القنصل تلك، كانت على درجة عالية من التخطيط والحيطة والتنظيم.

قداسة المكان وتكفير السكان:

إن الثيمة التي ظلت تحكم منطق رحلات “جيمس فِن” وطرقه لدروب البلاد، هي قداسة الجغرافيا والمكان في فلسطين. ولم تكن قداسة مردها لخرائط الكتب المقدسة (العهدين القديم والجديد) فقط. بل كانت نابعة أيضاً من قداسة القنصل للمعلومة والاستفهام، خصوصا في المواقع والمواضع التي لم تكن تعني الرحالة والحجّاج من قبله، إذ لم يكن يكتفي برواية الأسفار التوراتية رغم تذكره لها كلما حط في مكان، إنما ظل يداوم على استنطاق الأمكنة ومعالمها في حاضرها وراهنها الذي كانت عليه في حينه.

فمثلا، لم يحدث أن مر القنصل على عين ماء واحدة في كل رحلاته، دون أن يذكر اسمها وتسمية سكان البلاد المحليين لها. وهذا ينسحب على كل موقع وموضع من جبال وأودية وتلال في البلاد. والملفت أن القنصل وحاشيته المرافقة، كانوا كلما التقوا شخصًا من السكان المحليين، بادروا إلى سؤاله والاستفهام منه عن الأسماء والأشياء من حولهم، إلى حد ذكر القنصل لأسم الشخص المُستفهم منه نفسه.

وهذا ما يمكن أن يفيدنا اليوم من رحلات القنصل عن البلاد في تلك المرحلة، وذلك في التعرف إلى “قاموس” المكان الجغرافي والاجتماعي والذي داوم القنصل على استنطاقه لأغراض استكشافية- استعمارية واضحة. والذي نعنيه بـ”القاموس” هو المكان بعيون سكانه وأهله. فمثلاً، حين قطع القنصل نهر الأردن غير مرة في رحلاته، لم يكن يكتفي بالقول: “قطعنا النهر من المخاضة”، إنما كان يذكر اسم المخاضة بحسب تسمية السكان المحليين لها، مثل “مخاضة الغوارنة” و”مخاضة أم القناطر” وهي أسماء وقعت منّا ومن ذاكرتنا اليوم.

كما تفيد رحلات كتاب الدروب في التعرف إلى التنوع البيئي- الجغرافي والاجتماعي الذي كانت عليه فلسطين القرن التاسع عشر. إذ لكل ناحية من البلاد هويتها البيئية الخاصة بها. ففي الغور مثلا، تُمايز كثافة شجر الصفصاف والدفلى والحور على ضفاف نهر الأردن ملامح هوية البيئة النهرية، عن البيئة الصحراوية في بئر السبع وغزة جنوب البلاد مثلا، حيث شجر البلح والبطم والطرفاء. فيما يقص السنديان والبلوط حكاية هوية البيئة الجبلية في أعالي الجليل، وهكذا.

وذلك على خلاف ما بتنا ننتجه نحن الفلسطينيون من نظام رمزي في ذاكرتنا الجمعية عن فلسطين، حيث النظام الذي يهيمن عليه مثلاً ترميز نبات البيئة الجبلية- الداخلية مثل الزيتون والصبار في ما تبقى من فلسطين العربية. مما يُحلينا ذلك إلى الشكل الذي باتت تضيق فيه ذاكرتنا الفلسطينية بقدر ما ضاقت علينا الجغرافيا والسياسية معاً.

واللافت في رحلات القنصل أن صاحبها لم يتردد في نبش مخيال أهل البلاد الاجتماعي، المتصل بعلاقتهم بمحيطهم البيئي، إذ يقص جيمس فِن في كتابه، مشاهدا عاينها بنفسه، مثل طقوس زراعة “النيلة في بيسان”، وحكايا سمعها نقلاً عن السكان المحليين، منها قصة نبات شجرة البطم في أسدود، أو استنبات واستخراج زيت الخروع في مرج ابن عامر، وحكاية تقديس سكان البيئات البحرية والنهرية لطائر “أبو سعد” (اللقلق). مما يدلنا على شكل من الاستكشاف مرده ولع القنصل بتقصي المعلومة عن فلسطين بصفته مستعمرا أكثر مما هو مؤمنا.

أما عن آهلي مدن وقرى فلسطين في ذلك الحين، فقلَّما عنا بهم صاحب الكتاب، في محاولة كان يقصد فيها القنصل تهميش السكان كما لو أنهم لم يكونوا. كما لم يتردد فِن في وصم بعض سكان القرى والأرياف بـ”الكفار” وتحديدا المسلمين. وقد وصفهم بألفاظ فجة وبذيئة لا حاجة بنا لتكرارها هنا. مما يكشف لنا المكشوف، عن النزعة العنصرية الثاوية في نفسية المستكشف الأوربي في حينه.

إن إشارات ‘فِن’ لسكان البلاد في كتابه، جاءت فقط في سياقين، الأول: هو ذلك المتصل بعلاقة السكان مع البيئة الطبيعية المحيطة بهم. والثاني: التعريف بالسكان من ذوي الملامح والخصائص الجماعية المتمايزة اجتماعياً ودينياً عن محيطهم. فقد أشار فِن للعبيد في بئر السبع وبادية شرقي الأردن، وللغوارنة على ضفاف النهر في الغوّر، والتركمان في قرى مرج ابن عامر، واليهود في قرية شفا عمرو، والموارنة في قرى أعالي الجليل وهكذا.

عن خريطتنا الدارسة قبل المنكوبة:

إن خريطة ذاكرتنا الحديثة عن مدن وقرى فلسطين ما قبل عام 48، هي تلك المتصلة بالنكبة. بالتالي، فإن كتاب “دروب غير مطروقة في فلسطين” هو رحلات فيها رسم لخريطة فلسطين قبل مئة عام من النكبة، أي في أواسط القرن التاسع عشر. لذا فرحلات القنصل لكامل تراب البلاد في حينه، تبيّن لنا خريطة لقرى البلاد غير تلك التي كانت عليها في عام النكبة.

فقد أشار ‘فِن’ إلى مجموعة من القرى والخِرب الفلسطينية التي كانت عامرة بأهلها في أواسط القرن التاسع عشر، والتي لم تكن موجودة في عام النكبة. ومنها من لم تأتِ على ذكرها الكتب الموسوعية عن المدن والقرى الفلسطينية، مثل موسوعة “بلادنا فلسطين” لمصطفى الدباغ، وكتاب “كي لا ننسى” للخالدي وغيرها. إلى حد استعصى فيه على المترجم التعرف إليها، بحسب ما نوّه إليه في حواشي ترجمته للكتاب.

على ما يبدو أنها قرى وبلدات درست واندثرت قبل قدوم الصهاينة والصراع مع الصهيونية منذ مطلع القرن العشرين، لأسباب مختلفة، ربما منها الكوارث البيئية والطبيعية، أو الحروب والغزوات والصراعات المحلية الدامية التي عصفت بفلسطين على مدار القرن التاسع عشر. من هذه القرى على سبيل المثال: قرية ذكرها ‘فِن’ باسم “قياصير أو تياسير” تقع ما بين مدينتي نابلس وبيسان، وقريتيٍ “العمورية وتبنة” غربي مدينة القدس، وقرية “جاجة” في قضاء الرملة، وقرية “عين الزرّاعة” في جبل الكرمل قضاء حيفا. كانت هذه القرى وغيرها من القرى والخِرب التي درست، بحسب ‘فِن’ عامرة ومعروفة لدى السكان المحليين المحيطين بها، أي ليست مجرد مواقع كفرية (أثرية) تنبه لها القنصل.

كما تبيّن لنا رحلات القنصل مروره بمجموعة قرى فلسطينية أخرى تعرضت لاقتلاع مُبكر في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي مع بداية الصراع مع الصهيونية في ظل الاستعمار البريطاني للبلاد. وهذا ما نُسمّيه “النكبة المُبكرة” وتحديدا قرى في مرج ابن عامر في قضائي حيفا وجنين. حيث أشار القنصل إلى قريتي الفولة والعفولة عامرتين في مرج ابن عامر، واللتين اقتلعتا في عشرينات القرن الماضي بعد بيع عائلة سُرسق أراضي المرج للوكالة الصهيونية. وكذلك قرى مثل الحارثية وهربج جنوبي حيفا، التي نُكبت واقتُلعت من أهلها مبكراً قبل عام النكبة بعشرات السنين.

إن الدروب التي لم تكن مطروقة بالنسبة لـ’فِن’، وقد طَرقها في حينه، هي ما يتطلب منّا ومن ذاكرتنا طرقها مجدداً للتعرف عليها بعيون ولغة أهلها الذين عاشوا فيها ولها، لا بلغة أقدام الرحالة والمستكشفين الأجانب فقط. ويبقى كتاب “دروب غير مطروقة في فلسطين” يزخر بالمشاهد والتفاصيل التي لا يمكن الركون إليها بقدر ما يمكننا الإفادة منها للتمرد على ضيق ذاكرتنا عن بلادنا المسلوبة.

………….

(-) “جيمس فِن” (1806-1872) ولد في لندن لأب إيرلنديّ كاثوليكيّ تحوّل إلى البروتستانتية. نشأ ‘فِن’ في عائلة متواضعة الحال، وعمل في تعليم وتدريس أبناء الذوات من النبلاء، مما أكسبه مكانة اجتماعيّة وسمعة حسنة. اهتم ‘فِن’ بيهود لندن، ودرس التوراة، إذ كان كتابُه الأول عن اليهود السفارديم ونهج حياتهم في لندن. كما نشر كتابًا آخر عن اليهود في الصين، وانضم لعضوية “الجمعية اللندنيّة التبشيريّة” التي اشتغلت على التبشير هناك. يُفسّر لنا ذلك البُعدَ العقائديّ في دوره السياسيّ الاستعماريّ عند شغله منصب القنصل في فلسطين.

ــــــــــــــــ

* كاتب فلسطيني وباحث في التاريخ الاجتماعي

المصدر: عرب 48

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.