الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

عام 2011.. المستحيل السوري!

سمير العيطة *

و زيدون الزعبي **

بعد قطيعة تجاوزت العقد، أحدث الزلزال الذي ألمّ بسوريا، كما بتركيا، تسريعاً لخطوات تقارب عربيّة مع السلطة القائمة في سوريا.

برغم أنّ خطوات التقارب الأولى بدت متردّدة، إلاّ أنّها ظهرت أنّها لم تكُن بنت ساعة الزلزال، وإنّما جرى التحضير لها قبل ذلك بزمن. جاء الزلزال فقط كي يُسرّعها ويُعطيها غطاءً إنسانيّاً. علماً أنّ الأمر لم يقتصِر على التقارب العربيّ، إذ أتت خطوات من الغرب أبرزها تعليق العقوبات أمريكيّاً لمدّة ستة أشهر وجرت في السياق نفسه دعوات الصليب الأحمر الألماني للتبرّع إلى الهلال الأحمر العربي السوريّ.

أتى هذا التسارع برغم التخبّط الذي ظهر من السلطة ومن الدول المعنيّة تجاه الزلزال وآثاره. لقد انتظرت السلطة خمسة أيّام قبل أن تعلن المدن التي ضربها الزلزال مدناً منكوبة، وأيضاً بعد إعلان دولٍ عربيّة وأجنبيّة رغبتها بتقديم الدعم مباشرةً عبر دمشق. وغرّد المبعوث الألماني إلى سوريا مرحّباً بإجراءات المصرف المركزي السوري التي وحّدت سعر الصرف الرسمي مع سعر السوق وبما يشمُل المساعدات. أعقب ذلك زيارة للرئيس السوري إلى حلب، تلك التي لم تحصل منذ خروج مقاتلي المعارضة منها عام 2016، وكأنّ التفاهمات الروسيّة- التركيّة قد تحرّكت قليلاً؟

لاحقاً، وافقت السلطة على فتح معبرين إنسانيين إضافيين من تركيا نحو الشمال الغربي، من دون العودة إلى مجلس الأمن. ثمّ التقى بشار الأسد مع نائب الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية مارتن غريفيث، وبعدها مع رئيس منظمة الصحة العالمية تيدروس غيبريسوس، ثمّ طار إلى سلطنة عُمان في زيارة رسميّة معلَنة. ليتبع ذلك زيارة لوزير الخارجية المصريّ سامح شكري وتواتر تصريحات سعوديّة حول إمكانيّة عودة سوريا إلى الجامعة العربيّة وإعادة العلاقات الدبلوماسيّة.

من الواضح أنّ جميع هذه الخطوات سياسيّة أكثر منها إنسانيّة. لقد كان بالإمكان أن تتحرّك هذه الدول إنسانيّاً فقط، كما أرمينيا واليونان تجاه تركيا دون تغييرٍ في القطيعة السياسيّة. كان الشعب السوري في مناطق سيطرة الحكومة يُعاني قبل الزلزال من الجوع والفاقة دون أن تتحرّك هذه الدول، ناهيك عن أن الدمار الأكبر حدث أصلاً في المناطق الخارجة عن السيطرة الحكوميّة.

وبالطبع هناك في الخلفيّة نخوةٌ عربيّةٌ استفاقت بشكلٍ واسع أمام ما يعيشه أشقاءهم في سوريا، وهناك تخوّف أوروبي من موجة لجوء كثيفة جديدة للسوريين نحو بلدانهم. لكنّ الخلفيّة الأهمّ كمُنت أيضاً في الإعلان التركي الصريح، قبيل الزلزال عن رغبة في تسوية الأوضاع مع دمشق، وكذلك المفاوضات السعوديّة- الإيرانية بوساطة صينيّة أثمرت اتفاقاً تمّ إعلانه مؤخّراً. كلّ هذا ساعد في تسريع السياسة نحو تطبيعٍ تدريجيّ مع السلطة السوريّة بعد أن ثبُت عدم جدوى القطيعة والعقوبات على السواء في “تغيير النظام” أو حتّى تغيير “سلوكه”.

بالتأكيد ظهرت السلطة منتشية بمفاعيل الزلزال، برغم آلام مواطنيها، انطلاقاً من زيارة حلب مروراً بخطوات كسر العزلة عنها. فقد ظهرت الأمور لها وكأنّ “صبرها الطويل” بدأ يُعطي ثماره باستعادة شرعيّة عربيّة ودوليّة فقدتها خلال عقدٍ كامل نغّص عليها عيشها. ولكن هل هناك حقاً ما يستحقّ نشوة “انتصار” ومقابله إحباط وفقدان أمل لدى كثيرٍ من السوريين؟

على أرض الواقع، ما تزال تركيا تسيطر على إدلب وشمال حلب وشمال الرقّة عبر الآلاف من قوّاتها العسكريّة المتموضعة في قواعد، وعبر مقاتلين درّبتهم وجهّزتهم، لن تتخلّى عنهم بسهولة ما لم تتخلّ الولايات المتحدة عن دعم قوّات سوريا الديموقراطية (قسد). وما زال هناك مئات الآلاف من اللاجئين السوريين في تركيا لا يُمكِن واقعيّاً إعادتهم إلى سوريا، برغم ما حلّ بهم من كارثة الزلزال. ذلك أنّ مناطق الشمال الغربي مكتظّة أصلاً بالنازحين الذين يشكّلون نصف السكّان هناك، وهم أكثر من عانوا من الدمار. هذا الواقع لن يتغيّر سريعاً مهما كانت نتائج الانتخابات التركيّة المقبلة، فمسألة التواجد التركي في سوريا مرتبطة بالأمن القومي التركي وباستمرار وحدة الأراضي التركيّة، وفق وجهة نظر الحكومة التركية.. ومعارضيها على السواء.

كذلك يُشكّل استمرار الدعم الأمريكي، والأوروبي أيضاً، لـ”إدارةٍ ذاتيّة” في شمال شرقي سوريا تهديداً لتركيا كما لسوريا وإيران. والولايات المتحدة تتموضع هناك في قواعد عسكريّة تُشكِّل شبكة مع قواعدها في العراق وتركيا، وحيث أصبحت أكثر أهميّة وحيويّة مع انهيار التفاوض النووي مع إيران والحرب في أوكرانيا، ناهيك عن الحفاظ على أمن إسرائيل والقلق من النفوذين التركي والروسي على السواء. مجال التنازلات التركي لن يتجاوز التعامل الاقتصادي وفتح الطرق الدولية M4 وM5 وربما إعادة الاعتبار لليرة السورية في مناطق نفوذها، على الأقل في المدى المنظور.

هذان التواجدان العسكريّان لهما بالتالي دوافعهما الاستراتيجيّان لأصحابهما. وهما لا يعيقان استعادة سيطرة الدولة على كامل الأراضي السوريّة فحسب، بل أيضاً حتّى استعادة السلطة الحاليّة شرعيّتها الدوليّة. فالتطبيع مع السلطة في دمشق يعني الاعتراف بسيادتها على كامل الأراضي السورية. كما يعني أيضاً أن كلّ تدخل لأيّ دولة، سواءً إنساني أم غيره، يجب أن يمرّ سياسياً وجغرافياً عبر دمشق، وبموافقتها. أي أنّ كلّ الإعانات الإغاثيّة أو تلك الموجهة نحو “الإنعاش المبكِّر” يجب أن تمرّ عبر دمشق قبل أن تصِل إلى شمال شرق أو شمال غرب سوريّا. وستكون المؤسسّات الإنسانيّة الدوليّة المموّلة والمدعومة غربيّاً مجبَرة على تسجيل أعمالها رسميّاً في دمشق والتنسيق مع السلطة هناك. كما سيتمّ فتح المعابر بشكلٍ واسع بين مناطق السيطرة المختلفة. فهل يُمكِن أن يتطوّر التطبيع نحو هذه الوجهة؟ وهل أن أوروبا والولايات المتحدة المُموِّلتين الأساسيتين لهذا الدعم، جاهزتان لمثل هذه الخطوات؟

إنّ السلطة السوريّة تدرك هذا الواقع. والدلالة الأكبر أتت في إغفال الأسد لإدلب في خطابه حول الزلزال. وكأنّما يقول هنا دمشق، وعلى الجميع الاعتراف بنا بغضّ النظر عن الواقع في إدلب والحسكة والرقة! بل ربّما أنّه جاهز للتخلّي عن إدلب لو أُكره على ذلك!

كما تدرِك السلطة السورية، أن اللعب على حبال الخلاف الإيراني- السعودي، أصبح أكثر صعوبةً، بعد اتفاق بكين الثلاثي. كما أن توازنات آستانة وأهدافها الاستراتيجية تمضي، إلى ما هو أبعد من سوريا، نحو تحالف أوراسي استراتيجي، لن يُمكِّن السلطة من اللعب على حبال الخلافات بين أركانه الثلاثة.

إنّ السلطة السوريّة تعي هذا أيضاً، وتعي أنّها ليست قادرة على التهرّب من إصلاحٍ سياسيّ يُعيد الاعتبار للدولة كمؤسّسة يرضى بها جميع السوريين وفي مختلف مناطقهم. وهي تدرك أيضاً أنّ المجتمع بقي حيّاً، حتّى في مناطق سيطرتها، وربّما خاصّةً فيها اليوم، وعالماً بالتجاوزات والانتهاكات التي ترتكبها حتّى لصلاحياتها الدستوريّة الحاليّة. غير أنّ أيّ إنجازٍ لها على هذا الصعيد يتطلّب حواراً وطنيّاً جدياً تُقدِّم فيه السلطة تنازلات مؤثِرة وذات معنى حول هيمنتها المطلقة!

هكذا، لن يكون هناك عودة إلى ما قبل 2011. مهما كانت التطوّرات الجارية. لا عودة للهيمنة المطلقة للسلطة على مفاصل السياسة والاقتصاد والمجتمع. لكن السؤال الأساس يبقى حول كيفيّة نقل سوريا، كدولة محوريّة في المنطقة، نقلةً تاريخيّة خُلاصيّة تُعيد توحيدها وتُحقّق تغييراً جذريّاً في بنية الدولة لما فيه خير البلاد والعباد؟

* باحث اقتصادي سوري ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب

** باحث سوري ومدرب في قضايا الحوكمة وبناء السلام

المصدر: 180 بوست

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.